قصور خيال الإسلامويين العرب حيال فكرة الدولة خالد الحروب

تنقل الأكاديمية المصرية هبة رؤوف عزت، المتعمقة في تأمل حالة وفكر الإسلامويين العرب، النقاش حول «فكرة الدولة» في فكر ومقاربات وممارسات هؤلاء إلى مساحات جديدة مهمة تستحق التوقف عندها. في كتابها «الخيال السياسي للإسلاميين: ما قبل الدولة وما بعدها» تبحث عزت في «آفاق المعنى»، أو غيابه في جدل الإسلاميين حول الدولة، وتحاول استكشاف أية «خرائط تفكير» في مجلة «المنار الجديد» بكونها منبراً ومساحة مُميزة جمعت ما يمكن اعتباره «أفكارا ورؤى جديدة» لأصوات عديدة من الإسلاميين المعاصرين.

ثم تحلل «ما وراء الخطاب» وتفكك مرجعيات المقاربات الإسلاموية التي تراها في معظمها حداثية كسولة قبل ما جاءت به «الدولة الحديثة» من شكل ووظائف ومفاهيم. تقف هبة عزت على أنقاض ذلك التفكيك الذي اكتشفت عبره هشاشة وغياب أصلانية أية أفكار متماسكة إزاء «فكرة الدولة» عند الإسلامويين، فتكتشف مسألة أخرى ربما أكثر خطورة ووعورة وهي قصور خيال الإسلامويين وربما اضمحلاله في سياق طرح مستقبلات بديلة، أو رؤى مغايرة لـ «دولة الحداثة» التي تتبنى هبة رؤية نقدية ما بعد حداثية ضدها وتراها دولة صارمة مُتحكمة في الفرد، متحالفة مع عولمة رأسمالية، وذات ثقوب سوداء.

لا يأتي نقد عزت للإسلاميين من زاوية عدم تواؤمهم مع الحداثة السياسية ومع فكرة الدولة وإنما من الزاوية المعاكسة تماماً، أي من تماهيهم مع الحداثة السياسية وقبولهم دولتها كما هي. هي تقول: «... نزعم أن كثيراً من خطاب الإسلاميين هو ليبرالي رأسمالي في جوهره ومتسربل بالديباجة الدينية، يسعى إلى الأسلمة بتنقية الهياكل من ظواهرها الرأسمالية من دون نقض لها وإعادة تأسيس هياكل اقتصادية وسياسية وإدارية مؤسسة على بنيان الإسلام وفلسفته في العمران التي تقوم على العدل وشراكة الناس في مقومات الحياة».

وهذا ما توصلت إليه الكاتبة من تحليل الإنتاج الفكري الذي قدمته مجلة «المنار الجديد» التي أسسها إسلاميون عام 1998 بأمل استئناف ما أنتجته «منار» محمد رشيد رضا في الثلث الأول من القرن العشرين. لكن هذا النقد ينطبق أيضاً على الكتاب نفسه الذي ينطلق من منظور «اسلامي حركي» وكاتبته والأفكار السجالية فيه تنتمي إلى فضاء الإسلاميين العام. فالكتاب في مجمله العام، وكما هي كتب عديدة قاربت القصور الإسلاموي في تقديم «نظرية سياسية عن الدولة»، او «ما بعد الدولة»، تتوقف عند التفكيك والنقد ولا تنجح في تقديم معالم ولو اولية لبدائل حقيقية عن «دولة الحداثة». ومرفوض ايضاً التبرير الخجول الذي تورده هبه بالإشارة إلى ان «... مناخ الهيمنة وبيئة المواجهة ليست المناخ الأمثل للاجتهاد العميق ...»، بل ربما بالعكس تماماً، اي ان الاجتهاد العميق، شأنه شأن الإتيان بالأفكار الخلاقة، لا يتحقق إلا بالتحدي الذي يفرضه مناخ المواجهة وبيئات المواجهة، مواجهة الواقع وسلطاته، ومحاولة تغييرهما، فضلاً عن عدمية انتظار اي زمن يكون خالياً من المواجهة والتحدي حتى يتطور الاجتهاد فيه بترف ودعة!

يبقى ان مسألة قصور الخيال الإسلاموي وفشل الفكر والتنظير عن تقديم «بديل» عن الدولة الحديثة تظل النقطة الأجدر بالنقاش والتي تقول نتيجتها وببساطة كبيرة. لكن ثقيلة الوطأة انه لا بديل حقيقياً حالياً وعملياً عن فكرة الدولة الحديثة، وأن كل السجالات التي تحاول نقضها، والمنطلقة في جوهرها من منظور ما بعد حداثي ناقم عليها، لم تقدم حتى الآن وفي مهدها الغربي المعمق ابتداءً، فضلاً عن استيراداتها الشرقية المشوهة، اي بديل حقيقي يمكن ان يقف على قدمين صلبتين.

لكن هذا لا يعني عماء وعدمية وعدم جدوى النقد ما بعد الحداثي لفكرة «الدولة» وتغولها في كثير من الأحيان. بل إن بقاء هذا النقد وتجدده ضروري كضرورة الدولة ذاتها، لأنه يظل كاشفاً لشراهتها للتسلط والتحكم، ويضطرها للتراجع تحت ضغط ترسيخ ما هو مدني فيها وحولها، وتكريس وتوسيع الفضاء العام للناس الذي يحاصر الأوجه المحتملة لتمدد غطرستها. النقد ما بعد الحداثي للدولة يقلّم اوجه تغولها ويحفظ سمتها الوظائفية والخدمية ما أمكن، مع التنازل لها عن أوجه لا يمكن لها الحياة من دونها مثل الاستئثار باستخدام القوة والسيادة والتنظيم الإداري وتنظيم العلاقات الدولية وغيرها. البديل الراهن والمُتخيل شبه الوحيد للدولة في الزمن الراهن وفي الزمن المُستقبلي الذي يمكن التنبؤ به هو التذري لأشكال ما قبل الدولة مثل القبيلة والطائفة والجهوية وأمثلة ذلك في الدول الفاشلة او المنهارة، والبديل الآخر هو الاندماجات ما بعد القومية التي غالباً ما قد تتم عبر القوة والاحتلال في مسار قد يعيد انتاج حقبة الإمبرطوريات الاستعمارية في شكل مختلف. ربما يُرى في هذا التقدير اختصار وإغلاق لـ «الخيال السياسي» لكنه ليس كذلك لأنه تقدير مبني على ما هو قائم وليس على تمنيات اليوتوبيا.

مشكلة كثير من الكتاب الإسلاميين المهجوسين بتقديم بديل أو بدائل عن الدولة أو النظرية السياسية الحديثة السائدة هو أن «الخيال السياسي» ينطلق من نصوص دينية نظرية، أو تخيلات لنظرية إسلامية قائمة على «العدل والعمران ومشاركة الناس في مقومات الحياة»، وهي تخيلات لم تجد لها ترجمة في واقع المسلمين على مدار أكثر من أربعة عشر قرناً.

مشكلة ذلك الخيال انه لا ينطلق من التجربة التاريخية المريرة لتسيس «إسلامي» واقعي خلال الحقب الأعرض من زمن المسلمين، حيث لم تعكس ممارسات الحكم الإسلامي في الجغرافيا الاإسلامية الشاسعة سوى تمثلات «دولتية» تحتل فيها الدولة، والسلطان، والخليفة، ومؤسساتها، ما تحتله الدولة الحديثة في ايامنا هذه. صحيح ان ثمة فروقات عديدة يمكن رصدها، فلقائل ان يقول مثلاً ان «الوقف» الإسلامي كان يمثل المجتمع المدني، وان «الشورى» كانت هي اداة الحكم، وسوى ذلك من سجالات مكرورة، لكن جوهر «الدولة» هو ذاته، والسلطة هي ذاتها، و»النموذج الاسلامي» التاريخي في السياسة لم يقدم لنا سوى شكل من اشكال «الدولة الحديثة» التي نراها اليوم، لكن مع غياب مكون الديموقراطية والمحاسبة بمعناها الحديث. وهكذا يتورط النقد الإسلاموي للدولة الحديثة في مغالطة ابستمولوجية وهي محاولة نقض وتفكيك لمشروع عملي قائم، الدولة الحديثة، ومقارنته بمشروع خيالي غير قائم، ويهرب من عقد مقارنة «تاريخ تجربة الدولة الإسلامية» بـ «واقع وتجربة الدولة الحديثة» بأمل التقاط عناصر تستثير خيالاً راهناً يقدم بديلاً مستقبلياً يقوم على مقاربة واقعية وليس نظرية خيالية.

اقتربت هبة عزت كثيراً من التقاط هذه النقطة وترسيمها لكن سرعان ما انتقلت الى غيرها بسبب الاستجعال في النص وعدم الإسهاب الكافي في المعالجة. ففي سياق توظيفها النظري لمناهج التحليل «التفسيري» (الهيرمنيوطيقي)، والمورفولوجي، والتفكيكي، تتساءل عن النقطة التي يتواصل فيها الخطاب (الإسلامي هنا) مع جذوره القديمة وكيفية وزمانية تفاعله «مع انساق مناقضة له بالاستبطان والتلبس تأثراً ربما بقوتها الواقعية كنماذج متحققة فعلاً ومهيمنة، او متى ينطلق عند تأسيس مشروعيته من مناقضة السائد محض مناقضة».

وهنا تكمن بالضبط النقطة الأساسية التي كان اجدر بالكاتبة التأمل فيها والتوقف عندها ملياً وهي ان ضغط الواقع العملي ونجاحه على الضد من المفهوم الغائي المثالي، من خلال تكرس فكرة الدولة هنا، هو الذي دفع ويدفع الإسلاميين وغيرهم في ثقافات اخرى إلى إعادة تشكيل مفاهيمهم الأصلية وإخضاعها لهذا الواقع (مورفولوجياً)، اي واقع الدولة. لماذا تترسخ «دولة الحداثة، ليس فقط وسط ديار المسلمين بل ايضاً وبظافرية كبيرة في الصين والهند وغيرهما من حضارات وثقافات كانت سابقة للحداثة زمناً وتاريخاً؟

وفي التأمل في فكرة الدولة الحديثة تقصر الكاتبة وصفها للدولة بكونها الدولة الصارمة المُستبدة الطاحنة للأفراد والمسيطرة على الفضاء العام والموجهة للمجتمع والمسيطرة على الدين والمؤممة لكل ما من شأنه ان يترك مساحة لحريات الأفراد ومسؤوليتهم العامة. لكن هذا التعريف لا يصف إلا الدولة الستالينية وشبيهاتها (والدولة العربية بتنويعاتها وهي الدولة التي تقف خلف رؤية وتعريفات المؤلفة). لكن ثمة دولة اخرى لا تتسم بنفس الصرامة ولا التوحش، وهي دولة «الحد الأدنى»، ودولة الناس والأفراد والحريات، دولة تحرير المساحات للأفراد وأفكارهم وأديانهم وليس احتلالها، كما هي نماذج الدولة الإسكندنافية. أين تقع هذه الدولة في مقاربة المؤلفة، وهل تنطبق عليها صفات التوحش أيضا؟

اتجه الإسلاميون العرب إلى السياسة ولم يتجهوا إلى التجديد والتفكير وابتكار خيال جديد، كما تجادل الكاتبة، يؤهلهم للعب دور إنساني على مستوى العالم. لكن ما تتردد هبة عزت في استنتاجه هو تجذر غياب الخيال عند الإسلاميين في قصور مصادر المعرفية الأصلية وعدم صلاحيتها لمواجهة وطأة العالم المضطرد اتساعاً وبشراً ومفاهيم، بدولته الحديثة ام من دونها.

انكشف الفقر الفكري والنموذجي لنظريات التسيس الديني البدائية وتوقفها عن مد العالم الفائر بالجدة والتجديد والمندرج في سيرورة لا تتوقف من التحولات الهائلة والكبرى سياسياً واجتماعياً ودولتياً. وبسبب قصور الإمكانيات على مستوى الفكر والنموذج لخلق وتفصيل سياسة ومعنى جديدين فقد تبدت «السياسة» كما هي معروضة من «الدولة الحديثة» ومطروحة من جانب الأفكار والنماذج الأخرى ميداناً شبه وحيد والأكثر إغراء للانخراط فيها بكل قوة من جانب الإسلاميين، أي قبول اللعب في ملعب «الخصم» بالنسبة إليهم، ووفق قواعد الملعب التي فرضتها «الدولة الحديثة» التي انتجها الغرب، «الخصم والحكم». بتعبير اكثر وضوحاً وأقل ديبلوماسية، يمكن القول ان «النزعة السياسوية» التي سيطرت على الإسلاميين كانت في شكل ما هروبية واضحة تتفادى مواجهة الحقيقة الكارثية الفاضحة وهي الإفلاس الفكري عن تقديم ما هو جديد.