نهايات الدولة الحداثية القديمة
شهدت خمسينات القرن العشرين صعود تيارات وطنية حداثية وتقدمية لسدة الحكم في العديد من الدول التي كانت قد تحررت أخيراً من الاستعمار. وقد مثل مؤتمر باندونغ عام 1955 الذي شهد ولادة حركة دول عدم الانحياز التجمع الأكبر لهذه الدول، التي ضمت من البلدان العربية مصر عبدالناصر المتوثبة أيامها لزعامة العالم العربي، بالإضافة إلى سورية والعراق واليمن والسودان ولبنان وليبيا والأردن والسعودية. كان عبدالناصر نجم المرحلة ورمزها، ونظامه هو الذي أطاح بالملكية وأحل محلها حكماً ثورياً عسكري الجذور وحداثي الطموح واشتراكي التوجه.
هذا النموذج سيتبعه العديد من الدول العربية في الستينات، بحيث أن معظمها، كما معظم دول ما بعد الاستعمار في آسيا وأفريقيا، ستخضع لأنظمة ثورية عسكرية واشتراكية وحداثية، ولكنها في الآن نفسه تسلطية وساذجة ومندفعة بتهور قضى على معظم منجزاتها حتى قبل أن تؤتي أكلها. هذه الأنظمة التي كانت على أهبة أن تغير تاريخ بلادها، فشلت بمجملها، وأصبحت اليوم جزءاً من هذا التاريخ. وما خلفته من أنظمة غاشمة ودكتاتورية متكالبة على السلطة ومحتكرة لخيراتها أسطع دليل على فشلها، ليس فقط في تحقيق ما قامت أساساً لأجله وإنما، ويا للحسرة، في المحافظة على ما أنجزته في بدايات وثباتها الحداثية اجتماعياً واقتصادياً وتنموياً، أو ما خلفته لها الأنظمة التي سبقتها من إنجازات سياسية واستقلالية حداثية متواضعة.
معرض الفنان المصري الشاب محمود خالد، «تكليف جديد لدولة قديمة»، في غاليري «جيبسوم» في القاهرة يحاول تفكيك تلك اللحظة عبر تركيزه على عمارة منتزه المعمورة قرب الإسكندرية، هذا الصرح الحداثي المتميز الذي أنشئ بعد ثورة 1952، ليعكس أذواق وآمال الطبقة الحاكمة الجديدة في عمارة حداثية من الخرسانة المسلحة التي تستلهم في أشكالها وإنشائها عديد المشاريع الحداثية المهمة في العالم المتقدم. العالم المتقدم هذا، الذي كان هو نفسه عالم المُستعمِر، كان المثل الذي كانت تحتذيه، أو على الأقل تروم احتذاءه، غالبية الأنظمة الثورية المتعطشة لنهضة حداثية لم تعرف قط كيف تحصل عليها أو تدجنها وتديرها. مشروع المعمورة اختيار موفق من قبل محمود خالد كرمز لحداثة الطبقة المصرية الحاكمة في الخمسينات، التي شكّل الضباط الأحرار ومنظريهم المدنيين عمادها. وإغلاقه وتركه يذوي لسنوات طوال، ومنع زيارته من قبل حراس جهلاء وغلاظ، دلالات صغيرة على مآل مشروع الحداثة المفروضة من فوق كله بعد انهيار دولة عبدالناصر تحت ضغوط تحدياتها الخارجية وتناقضاتها الداخلية وصعود دولة الرئيس المؤمن أنور السادات على أشلائها، وتغييره مسار مصر باتجاه الامبراطورية الأميركية واقتصاد السوق، وما تبع ذلك من تغيرات عميقة وبنيوية في تشكيل العالم العربي الحديث كله ما زلنا نشهد ارتدادتها حتى هذه اللحظة.
ولكن محمود خالد لا يتوقف في عمله عند تفكيك أشكال الحداثة عبر تحليله لعمارة مصيف المعمورة تصويرياً، وعبر إعادة استخدام فيلم يوسف شاهين «رجل في حياتي» (1959) الذي صورت بعض مشاهده في المصيف قبل افتتاحه رسمياً، وإنما يسبر بعيداً في غور أسس هذه الحداثة السلطوية المتناقضة عبر مقاطعة صوره مع نص مهم للقاضي حسن جلال، المعروف بعدائه الشديد للملكية المصرية، كتبه بعد الثورة عام 1955، بعنوان «ضحايا المعمورة». يروي النص، الذي يقطعه خالد ليضمه لسلسلة صوره لمباني المعمورة، قصة تمهيد أرض المنتزه أيام الملك فاروق عبر تسخير سجناء الإسكندرية تعسفياً، وتعذيبهم للقيام بأعمال مرهقة من دون راحة أو غذاء كافيين، مما يذكر بقصور عظيمة كثيرة راح ضحيتها آلاف العمال المسخرين، مثل قصر ?رساي في فرنسا. النص يدين النظام الملكي إدانة شاملة من خلال استخدامه لشهادة حية لشاب إسكندراني مثقف، شاء حظه التعيس أن يسجن في الوقت الذي كان فيه الملك فاروق على عجلة من أمره لإنهاء مشروع التمهيد والزراعة في المعمورة، وأن يعذب ولكن ينجو من الموت. هذا الموقع الذي عمل فيه هذا الشاب والمئات غيره، هو ما سيصبح منتزه المعمورة للضباط الأحرار الذين وإن أتوا أصلاً لتحرير مواطنيهم من عسف الملكية، فانتهى بهم الأمر لإلقائهم في عسف أعنف وأشد ضراوة من أجل التحرير والمقاومة والنهضة والوحدة والاشتراكية وغيرها من شعارات المرحلة التي احترقت باحتراقها. نصوص كثيرة أخرى ستتبع هذا النص في وصفها لمعاناة السجناء في زنازين الأنظمة العربية كلها التي كانت بالأساس مدعية للحداثة والتحرر، وانقلبت وحوشاً شمولية متسلطة تستخدم كل أدوات السيطرة من الدين المتشدد إلى القوة العسكرية الغاشمة للحفاظ على تسلطها.
وفاة عبدالمجيد شديد في القاهرة في نفس الشهر مثلت بالنسبة إلي شخصياً نهاية وجودية لذكرى الدولة الحداثية هذه، بعد أن قضت عليها سياسياً وفعلياً التغيرات الجمة التي مر بها العالم العربي في السنوات الثلاثين الأخيرة من هزيمة فتشدد وتشرذم وانهيار. فالرجل، الذي كان والد زوجتي، كان مع عبدالناصر في حصار الفلوجة، وانضم لضباطه الأحرار، بل ربما كان أصغرهم سناً، وشغل مناصب مؤثرة متعددة في الستينات والسبعينات. كان ملتزماً بمبادئه خلال وجوده في السلطة حتى عندما كانت الظروف خطرة، ودفع أحياناً ثمناً لهذه المبادئ، خفف من غلوائه دماثته وديبلوماسيته. ثم انسحب من إدارة أنور السادات عندما وضح له توجهه الجديد الذي خالف توجه الثورة القديم، على الأقل أيديولوجياً وربما استراتيجياً. عاش عبدالمجيد شديد حلم التحرر والنهضة والتقدم لوطنه كما فهمه الضباط الأحرار وغيرهم من مقلديهم في البلدان العربية الأخرى، وسعى لتحقيقه بانتمائه وعمله، ولو أنه وعى باكراً كيف حاد نظام عبدالناصر عنها في سعيه الحثيث للسيطرة المطلقة التي هي، كما يقال، مفسدة مطلقة. كانت لديه الكثير من القصص عن مآلات الثورة وصراعات مشعليها، بعضها غير معروف إطلاقاً والكثير منها ناقد، ولو أنه تلافى كتابة مذكراته احتراماً لخصوصية من عرف وخشية النسيان، بما أنه لم يدون مشاهداته عندما حصلت لحفظها. بموته انقضى فعلياً العصر الذي كان فيه الأمل بنهضة مصر والعرب واقعياً وصورة المستقبل المشرق ممكنة.
* كاتب سوري، أستاذ في جامعة أم أي تي بالولايات المتحدة