سفر في الذاكرة الشرقية والموسيقى المعاصرة
موسيقى عابد عازرية تنفتح على موسيقى الشعوب الأخرى في مزيج يجمعها كلّها، بدءا بشريطه الأول المخصص للشعر العربي الحديث، مرورا بشريطه الثاني "كلكامش" العمل التاريخي الأسطوري الذي لا حدود له، والذي استلهم عبره روح شعوب ما بين النهرين موسيقيا من خلال البحث عن الحركات في التماثيل والمنحوتات مركزا على الآلات الموسيقية الشرقية فحسب، وصولا إلى "وجد" الذي ضم قصائد للمتصوفة. . صالح دياب تحدث مع الفنان السوري الأصل المقيم في باريس
وقد اقتصرت موسيقى هذا الشريط على العود والمزهر والقانون، وحاول عازرية فيه إيجاد معادل لروحانية الشرق في النصوص التي انتقاها. أما في "نصيب" فقد عمل على التقاط الطاقة السحرية التي تجتاز الجسد في لحظة موسيقية، اللحظة التي هي مزيج من الموسيقى الشرقية والفلامنكو، والموسيقى الغربية.
أيضا نجد تلك الروح الأندلسية الموسيقية الناتجة من تقارب داخلي بين مؤثرات من العالم القديم والمتوسط: الثقافة الإسلامية،المسيحية واليهودية .أما في "لازورد" فيختار عابد عازرية نصوص تمرد على القلق والخوف والمحدودية، منوعا على المقامات، عامدا إلى الانتقالات السريعة والمفاجئة من مقام إلى آخر مانحا قدرا أكبر من المساحة للغناء والآلة.
في عمله الضخم "الإنجيل بحسب يوحنا" يغامر عازرية في منطقة جديدة قلما تناولها الموسيقيون، فغالبا كان مشهد الصلب هو الذي يشد المؤلفين الكلاسيكيين والمعاصرين، أما الإنجيل كاملا فلم يتم وضعه موسيقيا. عابد عازرية وضع لأول مرة "انجيل يوحنا" موسيقيا، برفقة كتاب للنص الأصلي والذي يعتبر جوهرة الأناجيل والإنجيل الروحي الذي يتميز بغوصه العميق في أعماق المسيح، وبدراماه المؤثرة التي تشكل تيمة رئيسية، حيث المسيح الكلمة المتجسدة التي توحي للناس وتعطيهم النور والحياة.
يغني عازرية العمل كاملا، باللغة العربية التي هي إحدى آخر اللغات السامية التي تنحدر من الآرامية لغة المسيح، وذلك بالاشتراك مع اوركسترا شباب حوض البحر الأبيض المتوسط.
الغناء بلغة أخرى
في أسطوانته الجديدة الثانية "فينيسيا" يتابع عازرية مغامرا في أراض جديدة، مغنيا للمرة الأولى بلغة غير عربية هي اللغة المحكية لأهالي البندقية، ترافقه المغنية الفرنسية المعروفة كريستيان لوغراند. النص من تأليف الشاعر الإيطالي أندريا زنزوتو.
و"فينيسيا" مكتوبة لصوت امرأة وأصوات رجال وأركسترا، النص يعكس طبائع أو أمزجة آلهة مائية هي آلهة حوض البحر الأبيض المتوسط، وكأنه سفر تكوين أنثوي ينقب عن النماذج الأولى للمرأة والمؤنث الغامض الموجود في كل منا. ست عشر لوحة موسيقية مشغولة بعناية كبيرة وبرهافة أكبر، تقودنا إلى اللغز والحيرة والغرابة.
الموسيقى تبدو وكأنها مزيج من موسيقى الجاز الحرة مع موسيقى الروك من القرون الوسطى. في هذه المغناة أو المتتالية الموسيقية نجد أن كل شيء قد تم إعادة ترتيبه، وبانسجام اختلافي فائق الدقة والرهافة، كأن نواعير حماة تدور في البندقية، والبطل الفينيقي قد موس وأخته أوروبا يدندنان أغان نابوليتانية، فيما عشتار ترقص في ساحة القديس مرقص في البندقية، وأشجار فستق حلب، وأشجار تين اللاذقية، وأشجار خوخ بصرى مزهرة احتفاء بالإله القديم البند قي بعل.
في كل أعمالك السابقة كنت تغني باللغة العربية أما "فينيسيا" فهي التجربة الأولى لك بلغة غير عربية. ما أسباب هذا الانتقال؟
عابد عازرية: المرة الأولى التي قرأت فيها نص أندريا زنزوتو 1986 شغفت به فورا، بصوتيته وبإيقاعه اللغوي، بعد ترجمة النص ازداد شغفي به أكثر وخصوصا أنه يشبه النصوص الميثولوجية لبلاد الرافدين، بدا لي، حقيقة، كما لو أنه يحكي عن مغامرات عشتا ر.
العائق الوحيد الذي ظهر أمامي في ذلك الوقت هو اللغة. لكن الصدمة التي أصابتني بعد القراءة جعلتني أتجاوز هذا العائق الذي مع العمل المستمر لم يعد عائقا. إنني عبر كل تجربتي الموسيقية لم أعتبر نفسي ملحنا ومغنيا عربيا فقط، بل كنت أعمل طوال تجربتي وأسعى لأكون موسيقيا فحسب، موسيقيا خارج الانتماءات الضيقة. لذلك من الممكن يوما أن أشتغل على نص ياباني أو ألماني أو سنغالي، أعمل عليه موسيقيا من دون أن أكون قد فكرت فيه سابقا.
تقودنا مناخات أو موسيقى عملك الجديد إلى عالم مملوء بالغرابة والحيرة واللغز. هلا حدثتنا عن مصادر هذه الاحساسات؟
عازرية: سأستعمل للجواب على هذا السؤال اصطلاحا علقت عليه إحدى الباحثات الموسيقيات على اسطوانتي التي طبعت1970. فقد كتبت حينذاك: موسيقى عابد عازرية بلا مصادر، وربما هذا الكلام ينطبق على أكثر ما أؤلفه من موسيقى التي تبقى أولا وأخيرا موسيقى شخصية بحتة.
تعيد ترتيب العالم موسيقيا وجغرافيا. فالعاصي يجري في البندقية والنواعير تدور في ساحة القديس مرقص. هل تحدثنا عن تدمير الزمان والمكان وإعادة ترتيبهما في "فينيسيا"؟
عازرية: الفن الجديد، دائما، هو إعادة ترتيب للعلاقات الشاملة بين صغرى الصغائر من جهة وبين كبرى الكبائر من جهة ثانية. كل ذالك يحدث بواسطة الحلم الكبير الذي يحتوي عليه العمل الفني، والذي في الحقيقة حلم لواقع غير موجود.
الأمر نفسه ينطبق على المجتمع والمكان اللذين نعيش فيهما. فأنا لم أجد مكانا في المشرق أعيش فيه.لأنه ما يزال يعيش ما قبل القرون الوسطى، زمانا وعقلا وأخلاقا ورموزا، متمسكا بشدة وقوة بهذه القيم البائدة، التي لامكان لها في أيامنا.
فكيف يمكنك أن تفكك وتعيد ترتيب كل شيء فيما المجتمع يراوح مكانه. ثمة هوة عميقة تفصل بين الحلم الفني الذي نقوم به أنا وأمثالي اليوم وبين المجتمع الذي ولدنا فيه. علينا أن نتكلم لغة واحدة لكي نتواصل. علينا أن نجد آلة زمن كما فعل ويلز تعيدنا إلى الخلف ألف سنة، أو تقدم وتدفع مجتمعنا الشرقي ألف سنة إلى الأمام، لأنني على رغم اختلافي عن طبائع أو أخلاقية العرب، أجد نفسي في الزمن الذي تعيشه أوروبا فيه.
لا تستعمل في "فينيسيا" آلات موسيقية شرقية. ولكن على رغم ذلك ثمة ما هو شرقي بيّن في العمل. ما هي علاقته بالموسيقى الشرقية العربية والموسيقى الغربية؟
عازرية: ليس العود والقانون ما يصنع الموسيقى الشرقية، وليس أيضا البيانو والكمان هما اللذان يكونان سببا لتكون الموسيقى غربية. الموسيقى إما جيدة وإما رديئة. لذلك بوسعنا أن نصغي إلى الموسيقى الجميلة سواء أكانت أندلسية أو إسبانية أو تنتمي إلى أي مكان من العالم، ونتمتع ونتأثر ونحصل على لذة عميقة.
"فينيسيا" عمل موسيقي ينتمي إلى حوض البحر الأبيض المتوسط وهو شرقي تأليفا وألوانا وأجواء وتعبيرا وانفعالا، ومن أيامنا هذه، علينا أن نغير آذاننا لنستمع إليه ونستمتع به.
تبدو"فينيسيا" مبنية موسيقيا طبقة فوق أخرى. هل تحدثنا عن هذا البناء من جهة، ومحافظتك على ما هو عضوي من جهة ثانية؟
عازرية: حتى أحافظ على عفوية التأليف واللحظة الأولى أحاول أن أسجل رؤوس أقلام موسيقية، أعود إليها بين فترة وأخرى. هذه الملاحظات أو رؤوس الأقلام الموسيقية تبقى وكأنها الجانب الشرقي السماعي الموروث في طبيعتي.
وبعد ذلك تجيء مرحلة العودة الدائمة والمتواصلة إضافة واشتغالا على رؤوس الأقلام الموسيقية، وهذا ما يوصلني إلى مخطوطة موسيقية، هي التي نقوم بعزفها وأدائها عند التسجيل. وكل ذلك في سبيل الحفاظ على حرارة اللحظة الأولى كي لا تطغى برودة العقل والتفكير على حرارة الوهج الفطري الأولي للعمل الفني.
تبدو وكأنك تسعى إلى جمع القوى المتناثرة كما يقول كلود دي بوسيه، والمصادر الداخلية الغامضة داخل العمل، في وحدة موسيقية عضوية.ماذا عن بحثك الموسيقي في هذا المجال؟
عازرية: في كل فنان مصادر غامضة تدفعه من كل الأطراف ليجمع ما بينها، ويصوغ وحدة عضوية تعبر عن كل هذه الغوا مض الموجودة في أعماق ذاته. هذا ما أسميه بالقوى الداخلية الغامضة الموجودة داخل الفنان. أما فيما يخص جملة كلود دي بوسيه، فكل هذه القوى تحتاج إلى معادل خارجي من القوى المشاركة حتى تضحي الأشياء الداخلية مادة فنية قوية، منها الصدفة في اللقاءات: لقاء المشاركين في العمل من موسيقيين ومهندسي صوت ومنتجين يشكلون قوى مبعثرة تسهم في تحقيق هذا الحلم الداخلي الذي يدفعه الفنان من بعيده الباطني إلى الخارج.
هل يحتوي العمل الجديد على أشكال موسيقية قديمة وحديثة؟
عازرية: "فينيسيا" سفرة قمت بها في خيالي، عبر الأشكال الموسيقية الغربية، ابتداء من الغناء الغريغوري، وانتهاء بالموسيقى المعاصرة. لكن المسافر يظل طيلة السفرة محافظا على زوادته الشرقية، والزوادة هي الملوانة، التي أستعملها وكأنني أقرب إلى الرسام مني إلى الموسيقي الكلاسيكي
ثمة اختلاف وتباين بين أعمالك السابقة وعملك الجديد حتى ليبدو وكأنه غير مرتبط بهم؟
عازرية: في الموسيقى العربية كل تكرار متعة. أما بالنسبة لي فكل اكتشاف أو كل تجاوز يتميز به أي عمل جديد لي مقارنة بالعمل الذي سبقه هو المتعة. كل عمل جديد لا يشبه سابقه هو ما أبحث عنه. الهدف الموسيقي والفني لايمكن التقاطه والحصول عليه نهائيا. كل عمل جديد هو قبض أو حصول على جزء منه.
أجرى المقابلة صالح دياب، حقوق الطبع قنطرة 2004.