حين حان موعد الملحمة الكبرى
رحلة شيقة عبر التاريخ والحقب: هذا الرجل أديب وكاتب وناقد من العيار ("اللي هوَّ") يتنقل متوجساً تارة، حائرًا تارة أخرى، من شغل تدوين وتوثيق تاريخ وتراث إرثه التليد الذي يضرب بعمق في أعماق الأرض، سعيد هو وسعداء نحن حينما يتنقل هذا الشاب الجريئ في فصاحة قلمه بين حقول الأدب وبساتين العلم كما تحوم النحلة بدأبها المعهود بين زهيرات الربيع اليانعة، براعم التراث، تويجات صفحات التاريخ.
يضرب الصخر بشهامة فكره حتى تنبجس منه أعين ودرر من الحكايات والروائع كالسلسبيل؛ ينظمها كالنجيمات في مجرات الثريا في عقد فريد، نظم جديد، لون عصيد، ولحن يزيد. يا للألق ويا للجمال، هنيئا لنا به وهنيئا لعشاق الرواية بما سيكشفه لنا في أنثى بوگافر.
جمال ما ينسج وكمال ما يحكي
إنني لن أغالي يا سادتي إن قلت أن هذا الرجل سوف يغير مسار الرواية في مخيال العقل العربي وفي طريقة سرد ونسج الرواية بلغة رصينة وسردية معصرنة. نعم، خطاب سرديّ سهل ممتنع وممتنع سهل، ودون أدنى شك سوف تتحدث عنه المحافل أكثر وأكثر، لروعة ما يكتب، ولسحر ما يسرد، ولجمال ما ينسج ولكمال ما يحكي، والكمال لله أوله وآخره.
رأى مولد هذا الشاب والكاتب البديع، الرجل الهميم، سعيد في منطقة أكنول في عام ١٩٨٠، فأنتم ترون أنه لا يزال حديث السنّ، بض اليراع، لين النسيج، ورغم ذلك فسوف يتحفنا بالكثير الوفير من فنّ سرده وألق يراعه الذي، في الحقيقة، كريشة التشكيليّ، يتغنى ويرسم بنغمات الملحون المغربي الأصيل وكأنما نراه يجالس حسان السرد وغيان التاريخ على هضبة سايس على علو خمسمائة متر، بين الأطلس المتوسط إلى الجنوب، وتلال ما قبل الريف إلى الشمال.
يعبر بقلمه نهر بوفكران، الذي يفصل المدينة القديمة عن الجديدة. ويذكرني هذا المشهد، ببيت شعر، لأستاذي وشيخي صلاح أحمد إبراهيم، شاعر العرب، عندما يقول: يا مرّية ليتني على الأولمب جالس وحواليّ العرائس. فصلاح صعد هذه القمة وسعيد في الطريق إليها بجهده ومثابرته وفنّه الرفيع.
كرفانات الرواية تتوالي أمام أعين القارئ العربي فالمغرب الحبيب لم يطلق آخر رصاصة في جعبته، ولنذكر من أولئك المُلهَمين الأستاذ عبد العزيز كوكاس، أمامة قزيز، عبد الباسط زخنيني، سعيد الخيز، وغيرهم من الأدباء الأوفياء لقلمهم وتراثهم الأصيل. فسوف تتحدث عنهم صحائف التاريخ وتكتب عنهم بمداد من ماء الزهورات ورحيق الـ ... .
سعيد بودبوز كاتب وناقد مغربي من مواليد منطقة أكنول 15/7/1980. فاز بـ "جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي" (المرتبة الثالثة) عن مجموعة قصصية بعنوان "ثور وثورة" سنة 2017. وفاز بجائزة "الهيئة العربية للمسرح" (المرتبة الثانية) عن نصه المسرحي "الحفّارون وقادة الهرب" سنة 2020.
تحكي هذه الرواية عن سيرة تاريخية لبطلة أمازيغية حقيقية خلّدتها الأشعار والروايات الشفاهية في جنوب شرق المغرب، وهي الشاعرة والمقاوِمة العطّاوية "عدجو" من قبيلة "آيت عطّا" الشرسة التي أظهرت شجاعة خارقة في مقاومة الحملة الاستعمارية الفرنسية في معركة "بوگافر".
وتحكي الرواية كيف بدأت معاناة عدجو مع الفرنسيين منذ احتلالهم واحة تافيلالت نوفمبر عام 1917، حيث اضطرّت عدجو لمغادرة الواحة التي أحبّتها وعاشت فيها أجمل أيام شبابها، فرحلت مع والديها عائدين إلى قريتهم الأمّ في جبل صاغرو.
ثم شارك أبوها في معركة البطحاء التي أسفرت عن تحرير تافلالت في أكتوبر عام 1918، ولكن في هذه المعركة تفقد عدجو والدها، فتزداد كراهيتها للفرنسيين، وتخوض تدريبات شاقة على السلاح بمساعدة خطيبها لَحْسَن الذي سيتزوّجها عام 1920.
غير أنّ الفرنسيين المطرودين من تافلالت، شرق صاغرو، سرعان ما يحتلون واحات درعة غرب صاغرو، وكذلك واحة تودغى في شماله، ثم أخيراً يحتلون تافيلالت يناير عام 1932.
حين حان موعد الملحمة الكبرى
وكان زوجها يمنعها من المشاركة في المناوشات التي يشنّها المقاومون على مراكز العدوّ الفرنسي، إلى أن حان موعد الملحمة الكبرى في فبراير عام 1933، حيث تصعد عدجو إلى الجبل مع آلاف من الأسر العطّاوية الرافضة للاستعمار، والمؤيدة للمقاومين. وبعد معارك طاحنة، تفقد زوجها، ثم تفقد أمها التي توفيت مع العشرات ممن توفوا نتيجة الأمراض الناجمة عن روائح الجثث. لكن عدجو تكون على رأس النساء العطّاويات الرافضات لأي تفاوض أو صلح مع الفرنسيين، إلى درجة أن من جنح لمصالحة الفرنسيين من الرجال، يخلّدن ذمّه في قصائدهنّ.
وتحكي هذه الرواية بتفصيل فنّي تلك المعجزة التاريخية التي تحقّقت على يد عدجو، وهي أنّ عدجو دحرجت صخرة عملاقة على فرقة عسكرية فرنسية فأسقطت ما لا يقل عن 40 جنديا محتلّا دفعة واحدة !
وأخيراً، بعدما يتفاوض بقية المقاومين مع الفرنسيين بشأن الاستسلام مقابل شروط معينة، ينزل المقاومون عن الجبل، وتبقى عدجو وحدها مسلحة هناك، ثم تحاصرها فرقة عسكرية فرنسية، فتقاتلها عدجو حتى تستشهد.
*** *** ***
نبذة عن مدينة مكناس - التي لعبت دورا هاما في تاريخ الغرب الإسلامي
تقع مدينة مكناس في هضبة سايس على علو خمسمائة متر، بين الأطلس المتوسط إلى الجنوب وتلال ما قبل الريف إلى الشمال. يعبر المدينة نهر بوفكران، الذي يفصل المدينة القديمة عن المدينة الجديدة.
ومكناس تتوسط منطقة فلاحية خصبة، تمتاز بكثرة أشجار الزيتون، والذي يستغل منه الكثير للعصر واستخراج الزيت.
وزيت الزيتون المكناسي مشهور بجودته. كذلك تشتهر المنطقة بحقول العنب والذي يمتاز بجودته ويتم تصديره إلى عواصم أوروبية.
وتعتبر مدينة مكناس من أكثر مدن المغرب إنتاجا للمحاصيل الزراعية، نظرا لمناخها المناسب ووفرة مياه الأمطار.
كما تقع المدينة في ملتقى الطرق التجارية التي كانت تربط بين عدة جهات مما جعل منها منطقة عبور واستقرار منذ عهد قديم، خصوصا في العصر الوسيط حيث برز اسمها لأول مرة كحاضرة، ثم في العصر الحديث كعاصمة من أبرز العواصم التي لعبت دورا هاما في تاريخ الغرب الإسلامي.
تأسست مدينة مكناس في عام 711 من طرف قبيلة مكناسة الأمازيغية، ومنها تستمد اسمها. هي واحدة من المدن الإمبراطورية الأربع في المغرب وسادس أكبر مدينة في المملكة وفقا للتعداد وكانت عاصمة للمغرب في عهد مولاي إسماعيل (1672-1727). وتم تسجيل مدينة مكناس تراثا تاريخيا لليونسكو منذ عام 1996.
في تعداد عام 2014، بلغ عدد سكان مدينة مكناس 520428 نسمة بعدما كان في عام 2004، 469169 نسمة.
تاريخ مكناس
رغم أن مدينة مكناس أسست في القرن الثامن الميلادي، إلا أنها لم تصبح حاضرة إلا مع مجيء المرابطين حيث ازدهرت المدينة، وظهرت بعض الأحياء أهمها القصبة المرابطية "تاكرارت" كما شيدوا مسجد النجارين وأحاطوا المدينة بسور في نهاية عهدهم. ويعتبر الحي الذي لا يزال يوجد قرب مسجد النجارين المشيد من طرف المرابطين أقدم أحياء المدينة.
تحت حكم الموحدين عرفت المدينة ازدهارا عمرانيا حيث تم توسيع المسجد الكبير في عهد محمد الناصر (1199-1213م)، وتزويد المدينة بالماء بواسطة نظام متطور انطلاقا من عين "تاكما" لتلبية حاجيات الحمامات والمساجد والسقايات كما عرف هذا العهد ظهور أحياء جديدة مثل حي الحمام الجديد وحي سيدي أحمد بن خضرة.
خلال العهد المريني شهدت المدينة استقرار عدد كبير من الأندلسيين قدموا إلى مكناس بعد سقوط أهم مراكز الأندلس. وقد شيد السلطان المريني أبو يوسف يعقوب (1269- 1286م) قصبة خارج المدينة لم يصمد منها إلا المسجد المعروف بلالا عودة. كما عرفت مكناسة الزيتون بناء مدارس عتيقة كمدرسة فيلالة، والمدرسة البوعنانية ومدرسة العدول، و مساجد مثل مسجد التوتة ومسجد الزرقاء، وخزانة الجامع الكبير ومارستان الباب الجديد وحمام السويقة.
في عهد الدولة العلوية، خاصة إبان فترة حكم السلطان المولى إسماعيل، استعادت المدينة مكانتها كعاصمة للدولة، بحيث عرفت أزهى فترات تاريخها. فقد شيدت بها بنايات ذات طابع ديني كمسجد باب البردعيين ومسجد الزيتونة ومسجد سيدي سعيد، وتوحي منارات هذه المساجد من خلال طريقة تزيينها بتأثير سعدي واضح. بالإضافة إلى القصور وبنايات أخرى هامة، فقد قام السلطان المولى إسماعيل بتشييد الدار الكبيرة فوق أنقاض القصبة المرينية وجزء من المدينة القديمة.
كما أنه أنجز حدائق عديدة (البحراوية-السواني)، وإسطبلات للخيول ومخازن للحبوب وصهريجا لتزويد الأحياء بالماء، وأحاط المدينة بسور تتخلله عدة أبراج عمرانية ضخمة وأبواب تاريخية كباب منصور وباب البردعيين.
قرب هذه الأبواب أعدت عدة فنادق أو محطات لاستراحة القادمين من مناطق بعيدة، أما الأسواق فكانت منظمة وتعرف بحسب نوع الحرفة أو الصناعة، مثل سوق النجارة وسوق الحدادة وغيرها.
لم تتنازل مكناس عن أهميتها كمدينة مخزنية وحاضرة كبرى حتى عندما فقدت صفتها كعاصمة سياسية للعلويين خلال المنتصف الثاني من القرن 18م لفائدة جارتها فاس في بداية الأمر إذ كانت سكنا مفضلا لعدد من الأمراء ورجال الدولة.
خلال خضوع المغرب للحماية الفرنسية ابتداء من سنة 1912، شيد الفرنسيون المدينة الجديدة على الطراز الأوروبي بشوارعها وعماراتها وحدائقها وأحيائها الصناعية والتجارية والسكنية وكافة مرافقها الإدارية والعسكرية والرياضية والثقافية في المنطقة المعروفة بحمرية، حيث بدأت المدينة تستعيد بعض أدوارها كموقع استراتيجي له أهمية عسكرية واقتصادية بالدرجة الأولى.
محمد بدوي مصطفى
حقوق النشر: محمد بدوي مصطفى 2022
نُشرت لسعيد بودبوز العديد من النصوص والمقالات بالعديد من المجلات والصحف المغربية والعربية، منها مجلة "الرافد" الإماراتية، مجلة "الإمارات الثقافية"، مجلة "الجوبة" السعودية، مجلة "قوافل" السعودية، مجلة "الهلال" المصرية، مجلة "حسمى" السعودية"، مجلة "سيسرا" السعودية"، مجلة "المجلة العربية" السعودية، مجلة "إشراق" المصرية، مجلة "قوارئ" السعودية، مجلة "رؤى" الليبية، مجلة "الرقيم" العراقية، مجلة "روز اليوسف" المصرية، مجلة "الثقافي" العراقية، مجلة "طنجة الأدبية"، جريدة "الجريدة" العراقية، صحيفة "الزمان" الدولية، صحيفة "القدس العربي"، جريدة "أگراو أمازيغ" المغربية، جريدة "الاتحاد الاشتراكي" المغربية، جريدة "تاويزا" المغربية، جريدة "الخبر" المغربية، جريدة "سايس أخبار" المغربية، جريدة "العرب" الصادرة بلندن (بريطانيا)، صحيفة "الثورة" السورية، صحيفة "المجلس الثقافي" الليبية، جريدة "بيان اليوم" المغربية، جريدة "المستشار" العراقية، جريدة "أخبار اليوم" المغربية.
ترجم له الشاعر الفلسطيني "منير مزيد" قصيدة بعنوان "قصيدة من الشعير" إلى اللغتين؛ الإنجليزية والرومانية، وتم إدراجها ضمن الأنطولوجيا العربية المسماة "قلائد الذهب الشعرية".