الاتباع بدل الابتداع ...أسوار ممانعة التغيير
"لم أرفع أبدا راية الفلسفة ولا الدين ولا التاريخ، بل رفعت راية التاريخانية..." يكتب العروي في الصفحات الأولى لآخر كتبه "السنة والإصلاح". وليست التاريخانية في رأيه سوى "معانقة للتاريخ". لن أتوقف عند هذا التعبير الذي يذكر باللغة الدينية، ويؤكد بأن سدنة التاريح لا يختلفون كثيرا عن سدنة المعابد، فالتاريخانية رؤية إلى العالم، تقوم عل فكرة التقدم وتعتبر خط التاريخ تطوريا بالضرورة، إنها نوع من الداروينية التاريخية يفتك فيها الجديد بالقديم ـ لا يجب أن ننسى في هذا المقام مقارنة انجلز لعمل ماركس بعمل داروين، فالثاني اكتشف قوانين البيولوجيا والأول قوانين تطور التاريخ البشري ـ والتاريخاني لا يقرأ في التاريخ، إلا ما يريد قراءته ولا يقرأ في العلم أيضا إلا ما يريد قراءته.
وتهدف التاريخانية من وراء ضبط قوانين التاريخ وتطوره إلى استشراف المستقبل. هذا الادعاء هو ما أثار بالخصوص غضب الفيلسوف الكبير كارل بوبر في "بؤس التاريخانية"، الذي رأى أن التاريخ البشري محكوم إلى حد كبير بالتطور العلمي، تطور لا يمكننا التنبؤ به الآن ما يجعلنا غير قادرين على التنبؤ بشكل التاريخ الإنساني غدا.
ورغم النقد الماركسي، الذي تحامل على بوبر واتهمه بربط التطور التاريخي للإنسانية إلى حد كبير بالتفكير والعلم ورماه بالمثالية لكن لا أحد يمكنه أن ينكر أن التاريخانيين لم يعطوا قيمة للبشر كفاعلين تاريخيين بل أعطوها فقط للتاريخ ذاته أو بالأحرى لسببية تاريخية حتمية ومغلقة، وهو ما يفسر ربط بوبر بين التاريخانية والتوتاليتارية.
التاريخانية ضد الميثولوجيا والفلسفة والثيولوجيا
لكن التاريخانيين، والعروي لا ريب أحد وجوههم المركزية، يفهمون التاريخانية كعلم للتاريخ. وتقترن التاريخانية بأسماء مثل هيغل وكونت وماركس وبعض حركات التفكير الماركسي وبالداروينية الاجتماعية ونشوئية مورغان وغيرها.. وهي اسم لكل النظريات التي تطمح إلى كشف "قوانين" التغيير الاجتماعي.
فماركس مثلا يعتبر أن محرك التاريخ هو الصراع الطبقي، في حين يرى ميل أن تقدم الفكر الإنساني مرتبط بالرغبة في تحقيق مزيد من الرفاهية المادية أو عند ليفي ـ برول يتميز التاريخ بالعبور من العقلية السابقة للمنطق إلى العقلية المنطقية.
أما العروي فيرى أن الفكر التاريخاني هو ذاك، الذي تجاوز أشكال التفكير "التقليدية" و"غير العلمية" ويعني بها الميثولوجيا والفلسفة والثيولوجيا، وبلغة أخرى ذاك، الذي تجاوز الأسس التي يقوم عليها الفكر العربي "المعاصر"، حتى تلك الأكثر تشدقا بالعلم.
يذكر كتاب العروي "السنة والإصلاح" بكتاب كانط "صراع الكليات" رغم اختلاف السياق التاريخي والفكري لكل منهما، فكتاب كانط الذي بحث إشكالية الصراع القائم بين الفلسفة من جهة والثيولوجيا والقانون والطب من جهة أخرى، ينتصر في النهاية لمركزية الفلسفة داخل الجامعة، باعتبارها المتكلمة باسم العقل، في حين يتبنى العروي التاريخانية باعتبارها المتحدثة باسم التاريخ ضد الميثولوجيا والفلسفة والثيولوجيا والتي تعتبر في رأيه أشكالا فاسدة للفكر، إذ "لا علم إلا علم التاريخ" كما يقول ماركس. إنها نزعة مركزية سواء تلك التي حكمت كانط أو هذه التي تحكم العروي وهي غالبا ما تتناسى أقاليم التفكير والتعبير الأخرى، بل هي تتناسى بأن التاريخ نفسه يمشي "كأن به قلق".
ويدهشنا العروي بهجومه السطحي في أغلب الأحيان على الفلسفة، الذي يذكر بماركسية القرن التاسع عشر وبالوضعية التي نادت بموت الفلسفة، وبخسه لدورها التاريخي والتنويري والمعرفي والتربوي، مستعملا عضلاته التاريخانية أو الايديولوجية، غير واع بعظمة الانتقال من "المفهمة" إلى "التأويل" داخل الفلسفة، فليست الفلسفة بالضرورة وعدا أو طوبى، ليست بالضرورة ماركسية، فالمفاهيم لا سماء لها يقول دولوز، بل إن العبور من التفكير إلى التأويل، لهو من أهم عمليات العلمنة التي عرفها الفكر البشري، لأن ذلك يمثل خروجا من نفق المفاهيم إلى أفق اللغة والمجتمع والعلاقة مع الآخر، وهذا ما تحقق مع فلسفة الحياة وهايدغر والهيرمينوطيقا و"النظرية الفرنسية" والبراغماتية اللغوية"، وهو ما يمثل تنسيبا لكل أشكال الفكر الحتمي.
نظرة "ماركسوية" إلى الثيولوجيا
يهاجم العروي من جهة أخرى الثيولوجيا، فهي في رأيه تتبع ولا تبتدع، إنها سلوك اتباعي. ويغفل في حكمه التطور الكبير الذي حدث داخل الثيولوجيا والزلازل التي تعرض لها البناء الثيولوجي من الداخل وتحت تأثير الخارج، ولنأخذ المسيحية مثلا، فهل مسيحية القرون الوسطى التي كانت تحشر أنفها في كل كبيرة وصغيرة وتقوم على شيطنة كل أشكال التفكير الأخرى هي نفسها مسيحية البابا بنيدكت السادس عشر الذي يدعو إلى حوار بين العقل والدين وإلى الانفتاح على الأديان والثقافات الأخرى؟ لقد شهدت الثيولوجيا المسيحية تحولا كبيرا وثورات داخلية وتاريخا طويلا من العلمنة ومراجعة الذات، بل وداخل الإسلام نفسه عرف الأصل قراءات مختلفة وتطورت عنه مذاهب مختلفة بله ومتناقضة، بعضها ذهب إلى حد المطالبة بإعادة النظر بالأصول.
لقد كان العروي في نظرته إلى الثيولوجيا فيلسوفا تقليديا أكثر منه تاريخانيا يطلب القبض على قوانين تطورها التاريخية. لقد حكم عليها منذ البدء بأنها تمثل حقيقة مطلقة ومغلقة لا تقبل الاجتهاد. لهذا فإن العنوان الحقيقي لكتاب العروي هو "السنة ضد الإصلاح". إن العروي لا يصغي إلى التاريخ، بل إلى قوانينه التي اختارها بنفسه له واختزله فيها شأن كل تاريخاني، فتتحول التاريخانية إلى شكل من أشكال "التأرخخ"، أو إلى ثيولوجيا للتاريخ، إنها الرؤية الماركسية التقليدية ولا يفعل العروي أكثر من إسقاطها على التاريخ الإسلامي ومجمل الفكر الإسلامي، وبجرة قلم واحدة يطرد الاختلاف من داخل هذا الفكر.
لم تقم الثيولوجيا الإسلامية على الاتباع، بل حتى في اتباعيتها كانت مجددة:"فهم رجال ونحن رجال"!
وكما ينتصر العروي للمؤرخ على الفيلسوف، يدافع عن المؤرخ ضد الفقيه، متهما الفقيه بالتدليس وخدمة السلطة والاحتماء بكلام الله لسرقة حقوق البشر، ويرى أن دور المؤرخ يقوم على فضح حيل الفقيه، وبلغة أخرى على تجاوز النص إلى الواقع، فكرة درج العروي على ترديدها في العديد من كتبه، كما لو أن النص ليس جزءا من الواقع وصدى له. إن استعمال العروي لكلمة "السنة": إيديولوجي، فهي في نظره رؤية إلى العالم، تؤبد القديم وترفض التجديد، وواجب الفكر التاريخاني إنقاذ العلم والسياسة منها. قد نفهم دفاع العروي عن العلم ضد السنة، لكن من ننقذ ممن: السنة من عبث السياسة أم السياسة من السنة؟
إن الثيولوجيا التاريخية التي تسكن فكر العروي، لن تستطيع أكثر من استبدال جثة بجثة أخرى على حد تعبير سيوران في نقده للأنوار التي ثارت على الله لتسقط في الذات. إنها نوع من النوستالجيا اللاتاريخانية إلى زمن انقضى زمنه ورؤية إلى العالم انفض عنها العالم.
رشيد بوطيب
قنطرة 2008
قنطرة
كتاب "رمضان بلوز":
"نحن" و"هم"...محاكمات ثقافية اختزالية
يتزايد يوماً بعد يوم عدد الصحفيين الأوربيين الذين يقومون برحلات إلى الشرق الأوسط لكي يقدموا بمقالاتهم رؤى متعمقة عن المنطقة. وهذا تحديداً هو هدف كتاب "رمضان بلوز" للصحفية ياسنا تسايتشك الذي تحاول فيه أن تسلط الضوء على الثقافة الإسلامية، غير أنها ظلت حبيسة أفكارها الخاصة بها. هناء لابونتي تعرفنا بهذا الكتاب.
آفاق الإسلاموية الراديكالية:
أجيال الغضب- راديكالية سياسية بلغة دينية
ماذا يغذي الإسلاموية الراديكالية؟ وما الفوارق بين تياراتها المختلفة؟ فولكر بيرتيس، الخبير المعروف في شؤون الشرق الأوسط يقدم في تحليله المعمق فروقا جذرية بين هذه التيارات ونقاطا محددة للدور البنّاء الذي يمكن لأوروبا أن تضطلع به في العالم الإسلامي.
حوار مع محمد مجتهد شبستاري:
"الإسلام دين وليس برنامجاً سياسياً"
يعد محمد مجتهد شبستاري واحدا من أهم علماء الدين الشيعة وفلاسفتهم المعاصرين. في الجزء الأول من الحوار الصحفي المسهب، الذي أجرته معه فاطمة صغير تحدث الفيلسوف والفقيه الإيراني المرموق عن العلاقة المعقدة بين الدولة والدين ودور القضايا الدينية في عصر العولمة.