ارث الماضي، وفوضى الصراعات الراهنة

تحولت الجامعة العراقية بين عشية وضحاها من حرم لحضور رمز السلطة الواحد الى حرم لرموز سياسية ودينية شتى. تقرير أحمد السعداوي من بغداد

أجواء الجديدة التي صبغت الجامعة العراقية حملت معها جملة من المفارقات، فالعديد من الطلبة اعلنوا رفضهم الجلوس على مقاعد الدرس لمواجهة الاساتذة انفسهم، أولئك الذين كانوا يمثلون سلطة البعث داخل الجامعة، والذين لا يحملون مؤهلات علمية حقيقية، واولئك الذين ساهموا بشكل واضح في التأثير على مصير بعض الطلبة، تبعاً لميولهم الدينية والسياسية.

واكتسب الطلبة ثقة كبيرة عززها التغيير السياسي لمواجهة هؤلاء الاساتذة، بل والمساهمة في تبوء اساتذة ذوي تاريخ نظيف المناصب القيادية في الجامعات، فغدا من غير الممكن لرئيس جامعة او كلية او قسم أن يحتل منصبه دون الرضا الضمني او المباشر من قبل غالبية الطلبة على هذا الاجراء.

ولكن هذه الثقة التي غزت انفس الطلبة تحولت في بعض الاحيان الى عنف يوجه الى الأساتذة والى النظام التعليمي، وتحولت الجامعة بين عشية وضحاها من حرم لحضور رمز السلطة الواحد الى حرم لرموز سياسية متكاثرة، وغزت اللافتات التي تمثل الأحزاب الجديدة جدران الجامعات، وبدا وكأننا نعايش استعادة لأجواء التعددية التي كانت سائدة في الجامعة العراقية قبل زمن البعث.

غير ان التعددية الجديدة اكتسبت سريعاً ملامح طائفية، كما إن البنيان الداخلي المنهك للجامعة لا يؤهلها لتدعيم مصدات إزاء الشارع، بما يحفظ النشاط النوعي داخل جدران الجامعة.

دور السياسة في الجامعة

التأثير السلبي لحضور السياسة واحزابها داخل فضاء الجامعة هو ما دعا الكثير من الكتاب والاكاديميين انفسهم الى الاعلان عن ضرورة تحييد الجامعة سياسياً، وهذه الدعوة وجدت صدى لها أخيراً في الأمر الذي اصدره رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي برفع الرموز السياسية والدينية من فضاء الدوائر الحكومية والجامعات، رغم أن التطبيق الفعلي لهذا الامر لا يقترب كثيراً من الغاية التي دفعت لأصداره.

فالاستاذ هنا يراعي السطوة التي تمثلها الجماعة الايديولوجية التي ينتمي اليها الطالب، ولا يريد ان يورط نفسه بمواجهة غير متكافئة، في مناخ لا يبدو ان (القانون) بمعناه العام حاضر فيه. وقد يقرر الطلبة مجتمعين أن لا يحضروا الدروس لهذا اليوم فلا يملك الاستاذ او الهيئة التدريسية أي أمكانية لمعاقبتهم.

من جهة أخرى غدا الطابع الديني قناعاً يختفي خلفه الكثير من الاساتذة (من البعثيين السابقين او غيرهم) فتخلى الكثيرون منهم عن اربطة العنق، واطلق آخرون لحاهم، وكثر على السنتهم استخدام العبارات الدينية، وإرتداء الخواتم واقتناء المسبحات. بشكل يعلن دون لبس أن عهداً قد انتهى وآخر قد ابتدأ، وعلى الجميع ان يسايره كي يستمروا في عملهم ومعاشهم.

جامعات سنية وأخرى شيعية!

كما ان احداً لا يستطيع اغماض عينيه عن التوجه الاسلاموي العام الذي غطى بلونه على مناحي النشاط الاجتماعي العديدة ومنها تلك النشاطات التي تجري داخل الجامعة، فالصيغة المتشددة من هذا التوجه دفعت في مناسبات عديدة المنظمات الطلابية الى فرض سلوك ولباس معين على الطالبات، وحجمت من النشاطات الجماعية داخل الجامعة، وسط لا مبالاة او خوف طاقم التدريسيين والاساتذة.

​​كما ان الاستقطاب الطائفي الحاد في الحراك السياسي انعكس بشكل مباشر على الجامعات العراقية، فبتنا نرى اصطباغ جامعات معينة باللون السني وأخرى باللون الشيعي، وغدا التخطيط لانتقال الطلبة او الاساتذة يتحرك حسب هذه الموجهات، مع الاعتراف بأن شيئاً من هذا لم يتم إقراره في الخطاب السياسي والتشريعي على انه أمر جائز، ولم يتحدث أحد بكونه أمراً واقعاً. ولكن، إن لم يتم اتخاذ قرارات حاسمة لتلافيه سيقود الجامعة العراقية الى اسوأ اوضاعها.

إن نتائج الاستقطاب الطائفي السياسي، والاحتراب الدامي على الارض جعل الطلبة، والجامعات العراقية اهدافاً مشرعة أمام العمليات المسلحة، وقد شهدت الجامعة المستنصرية في بغداد جملة من أسوأ عمليات التفجير الانتحاري، كان آخرها التفجير بسيارتين مفخختين وحزام ناسف ادى الى سقوط عدد كبير من الضحايا بين الطلبة والاساتذة.

ولن انسى شخصياً تلك الصورة المؤثرة التي عايشها من انشغلوا باخلاء الجرحى، حيث ظلت الهواتف الخلوية ترن في جوقة غرائبية، معلنة نداءات الطمأنينة من ذوي الضحايا.

مشكلات الأمن وحرية التنقل

ها هنا تقع الجامعة في بؤرة التوتر، وتسجل على ارضها، وباجساد طلبتها الممزقة نقاط لصالح الجهة الفلانية، الامر الذي جعل من وتيرة الدراسة تتباطأ يوماً بعد اخر، وتضاف حزمة جديدة من المشاكل الى المشاكل الموروثة من العهد السابق.

أعرف طلبة لا يحضرون الى الجامعة الا مرة واحدة في الاسبوع، او لا يحضر لوقت طويل، مطمئناً ان الجامعة لن ترقن قيده، كذلك اجرى بعض طلبة معهد النفط في بغداد فترة التطبيق العملي في مستشفى حكومي، رغم ان فترة التطبيق يجب ان تجري في مصفاة الدورة، ورفض الطلبة الشيعة الدوام في مصفاة الدورة خوفاً من المسلحين السنة المنتشرين في هذه المنطقة الساخنة من بغداد.

كما ان الكادر التدريسي في جامعات عدة داخل بغداد يعاني من نقص، وهرب العديد من الاساتذة في الاختصاصات العلمية الى خارج العراق بسبب التهديدات بالقتل، او بسبب مقتل زملائهم.

والمعاناة مع الوضع الامني القائم تكاد تكون مضاعفة مع الطالبات، فحالات الاختطاف، على ندرتها، تشكل هاجس خوف دائم أمام ذوي الفتيات اللائي يدرسن في الجامعات العراقية ببغداد، وبعضهن يعاني من الهيمنة الذكورية الواضحة على اجواء الجامعة، والتي تجعل من بعض الطلبة المتشددين نوعاً من شرطة الآداب، ويستطيعون محاسبة اية طالبة على نوع لباسها او ماكياجها.

لا شك ان الجهات المعنية تعمل بشكل أو بآخر على تلافي بعضٍ من اهم المشكلات التي تعاني منها الجامعة، ولكن جزءاً من هذه المشاكل يتعلق بالسياق الاجتماعي والسياسي العام، والذي لا يساعد على خصوصية اجواء الجامعة، وعلى بلورة خطاب معرفي وثقافي خاص يساهم في إنارة الوضع العام وتصويب اخطائه.

كما ان المرحلة البينية الرجراجة التي تعيشها صورة البلاد على مختلف الصعد، لا تتيح للناظر رؤية أفق واضح تتقدم باتجاهه الجامعة العراقية أو أي فضاء مؤسسي للممارسة المجتمعية في العراق.

ضرورة إبعاد الجامعة عن دائرة الصراعات

الذهاب الى الجامعة الان غدا بالنسبة للكثير من الطلبة، نوعاً من اسقاط الفرض، من دون مغادرة الرغبة بانهاء سنوات الدراسة سريعاً، والطموح بالترقي العلمي يكاد يكون أضيق. ولعل إعادة انفتاح الجامعة العراقية على جامعات العالم، واستعادة بعض من تلك الاجواء الليبرالية التي عرفها العراق في بدايات تاريخه المعاصر، سيساهم في تجديد الدماء في اخلاقيات الجامعة العراقية، ويرفد كوادرها بنخبة جديدة من ذوي الشهادات العليا في مختلف الاختصاصات، والممنوحة من كبريات الجامعات العالمية، كما كان الامر سائداً قبل نصف قرن من الزمان.

وهذا طريق تبدو الخطوة الاولى فيه، هو حل المعضلة السياسية والامنية في البلاد، وتحييد الجامعة عن دائرة الصراعات، ومنح السلطة الرمزية للاستاذ الاكاديمي وخطابه العلمي حماية دستورية وقانونية أكبر، لتدعيم الثقة بالنفس من اجل المساهمة في الاصلاح الذي يفترض ان تكون الجامعة، في اي مكان من العالم، هي المساهمة الاكبر فيه.

بقلم أحمد السعداوي
حقوق الطبع قنطرة 2007

أحمد السعداوي كاتب وصحفي مقيم في بغداد

قنطرة

عن المثقفين في زمن الاستبداد
مئات من المثقفين العرب والعراقيين كانوا خلال العقود الماضية يروجون "لثقافة" نظام صدام حسين وحزب البعث. بعد أربع سنوات من سقوط هذا النظام، هل ثمة مبادرات للتعامل النقدي مع هذه المرحلة؟ بقلم الكاتب والصحفي أحمد السعداوي

الإعلام العراقي وحرية التعبير
تحول كبير جرى في كل مفاصل العمل الاعلامي في العراق عقب سقوط النظام البعثي. وهو تحول غير مسبوق، كان اشبه بالنهوض من سبات طويل لواقع اعلامي متأخر على المستويات كافة. بقلم أحمد السعداوي