عن الحرب الطائفية في العراق

يرى الكاتب العراقي حسين الموزاني أن الأزمة التي يشهدها العراق حاليا تعود إلى الدين الذي كان دوما عامل تجزئة في البلاد وأن الهوية الجامعة للشرائح العراقية المختلفة هي هوية ثقافية محضة.

لم أشكّ يوماً في أن الهوية الحقيقية للعراق لم تكن يوماً هوية دينية إسلامية، بل هويةً ثقافيةً بالدرجة الأولى، جامعةً ومتنوعة. وأنا مقتنع اقتناعاً تاماً بأن الطائفية في العراق هي ليست الخطر الأكبر والوحيد الذي يهدد وحدة هذا البلد المهددة أصلاً فحسب، بل إنّ "الإسلام" نفسه، والإسلام العراقي الجديد بالذات، فكرةً وممارسةً، هو الخطر الأكبر، الذي يتجاوز في خطورته كلّ ما يقال عن الإمبريالية والصهيونية والاستعمار وما إلى ذلك من أقاويل مدروسة يهدف منها تبرير القتل على الهوية.

فلم يعد العراقي يصلّي في مسجد شيعي أو سنّي إلا لكي ينتقم من أخيه. وبات الانتقام السمة الأخلاقية البارزة التي توحد العراقيين الذين أصبحوا "إخوةً" في القتل. ولم يعد أحد منهم قادراً على أن يحفظ "بيضة" طائفتئه ويذود عن حماها إلا بقتل الشقيق، ليس على الشبهة، بلا عمداً بسبب البيانات الشخصية، بمعنى إذا كان الضحية عراقياً أولاً ثم إذا كان سنيّاً أو شيعياً ثانياً، فسيذبح، وليس هناك أيّ سبب آخر.

إذ أنّ العراقي لم يعد له الكثير من الوقت ليطرح أسئلة أخرى قد تؤدي في حالة الشكّ إلى حقن دم الشقيق المشتبه به. إنما إذا كان الشقيق اسمه عمر وما شابه ذلك فيجب أن يجهز عليه فوراً وبأمر مباشر من عليّ وتقرباً إلى الله ونبيه، وإذا كان يحمل اسم عليّ وما شابه ذلك فأنه سيقتل فوراً بأمر من عمر، عملاً بمبدأ التقرّب من الله. وكم كنت أودّ أن أقدم للعراقيين حقيقة أخرى مغايرة لهذه الحقيقة القاتلة، لكن هذه الحقيقة هي في الواقع أكبر بكثير من قدرتي على تحريفها أو طمسها.

حرب أهلية أم حرب طائفية؟

وإذا ما كثر الحديث اليوم عن حرب أهلية مفتوحة، فذلك يعني بأننا لم نتعلم الدرس جيّداً، لأننا مازلنا نجهل الفرق بين الحرب الأهلية والحرب الطائفية. فقد شهدت أنا مثلاً الحرب الأهلية في لبنان، فوجدتها حرباً سياسيّة أيديولوجية بالمفهوم الحرفي للعبارة، أي أنها كانت حرباً بين اليسار واليمين في لبنان، تماماً مثلما كانت الحرب الأهلية الأسبانية بين الجمهوريين والفاشيين. فكان هناك اصطفاف واستقطاب بين القوى المتحاربة، فكنا نرى المسيحي والشيعي والسني والملحد والشيوعي والاشتراكي، وموسكو من ورائهم، في معسكر اليساريين في بيروت الغربية.

ونجد عكس ذلك في بيروت الشرقية، حيث معقل الميلشيات اليمينية والفاشية، المدعومة من واشنطن وحلفائها. وبالطبع الآن تغيّر الأمر بعد اندحار اليسار والتغيير الشامل في المناخ الدولي، وحلول القوى الطائفية محل اليسار في لبنان. أمّا في العراق فلا نكاد نشمّ رائحة لاستقطاب أو لاصطفاف سياسي، إنما نرى العمائم والمسوح الطائفية وحدها ترفرف، سوداء بيضاء، كروية بيضوية، سنيّة وشيعية، ومن ورائها يصطف القتلة، يصلون إلى الحرب بكرةً وأصيلا.

إنها الحرب الأشد قذارة في تاريخ العراق، لا سيما في الوقت الراهن، لأنها باتت وسيلةً لإحكام السيطرة "السياسية" والجغرافية والاقتصادية على العراق. ثم إنّ الطائفي لا يرى في العراق هويته الوطنية، إنما يشمّ في هذا البلد رائحة الطائفة البغيضة التي تهبّ دائماً من وراء الحدود. فالشيعي الطائفي لا يعمل إلا بما تقتضيه الإدارة الإيرانية حصراً، والسنّي الطائفي لا ينفذ إلا ما تراه الطغمة الوهابية السعودية، وكلاهما شرّ على العراقيين. لكن هل هناك شيعي أو سنّي غير طائفي؟

مشروع الفيدرالية

كلا، إنما لابد أن يكون كلاهما طائفي، لأنه مأمور بذلك، ولا ينام إلا وسيف علي أو عمر تحت مخدته؛ لكن هذين السيفين يأتيان أحياناً على صورة "آية الله"، وأخرى على صورة "أمير" وهابي. وبهذا المعنى فإنني لا أجد في ما يسمى بالمجلس الأعلى للثورة الإسلامية وحزب الدعوة وجيش المهدي وما إلى ذلك من أتباع وأطياف إلا دليلاً ساطعاً على تغلغل النفوذ الإيراني من أجل تمزيق العراق إرباَ إرباًَ.

​​وهذا هو بالتحديد ما يقع اليوم، وهذا بالضبط ما فعلته إيران في لبنان بواسطة حزب الله الذي ورطته في حرب غير متكافئة أدّت إلى تدمير لبنان بلداً وشبعاً. وكذلك لا أرى في هيئة علماء المسلمين وفي الوقف السنّي والحزب الإسلامي وما إلى ذلك من بعثيين وزرقاويين إلا عصابات للإرهاب والذبح على الهوية، تحقيقاً للرغبات والنزعات السعودية. إذن لقد انتفت سمة العراقي وصفته عن كل ما هو شيعي وسنّي، لأن كلاً منهما تخلى عن هويته العراقية من أجل هويته الطائفية.

وهذه الحرب الطائفية بدأت تنهش جسد العراق، ولم تتوقف فقط عند نهش لحم أبنائه. والبشائر لهذا النهش المنظم والمخطط له تحت العمائم الإيرانية هو ما يسمى بمشروع الفيدرالية، أي تقسيم العراق على أسس طائفية، لتسهيل عمليه ابتلاعه من قبل دولتي إيران والمملكة السعودية؛ ولابد قبل ذلك من التمهيد لهذا التقسيم من خلال التطهير العرقي.

وفي الوقت الذي جعلت إيران من مذهب التشيع مركز جذب أساسي للالتفاف حول الدولة العرقية القومية، الفارسية بوجه خاص، حيث أضحى التشيع هويةً عامة للقوميات الفارسية والآذارية والبلوشية والعربية والتركية والكردية، تلك القوميات التي تكون أحياناً متوازية ومتعادلة من ناحية سكّانية جغرافية، نرى في التشيّع العراقي سبباً للإنقسام والتشرذم والانكفاء الذاتي.

إذ أنه تشيّع فقير ومتخلّف، لا يستند إلى قاعدة ثقافية واسعة ومؤثرة، لأن النخبة التي تقوده جاهلة وخالية من أبسط المشاعر الوطنية. وإلا فكيف يمكن أن نفهم منطقياً أن تطالب الأغلبية بالانفصال عن الوطن الأمّ، إدارياً وجغرافيّاً على الأقل؟ فنحن يمكن أن نفهم ذلك إذا ما طالبت به أقلية صغيرة، لكن ليس أن تطالب به أغلبية مطلقة تمثل روح العراق وعمقه تاريخياً وعربياً وثقافيّاً؟

دور المملكة العربية السعودية

ومن الناحية الأخرى نرى الحكم السعودي الطائفي "يغازل" السنّة عن بعد، وحتى بدون أن يقدم لهم المغريات، ما عدا تجنيد القتلة والتنسيق مع النظام السوري، مستخدماً هذه الطائفة للدخول في حلبة الصراع على هذا البلد العديم الهوية والمفرّغ من وطنيته.

ولعلّ سوء حظّ العراق هو أن البلدين الجارين، السعودية وإيران، اللذين يستحمان في دم أبنائه هما من الدول القوية سياسيّاً واقتصادياً ودينيّاً، ولا هم لهما سوى أن يغرق العراق في حرب طويلة الأمد تتيح لهما تصدير أكبر قدر ممكن من النفط، تحت شعار "دم العراقيين من أجل نفط الجيران وثراء سلطتهم الحاكمة"!

إنّ الهوية الحالية للعراق - وهنا أقول للأسف الشديد للمرّة الأولى- قائمة على مذاهب الموتى من الخلفاء، لكن هذه الهوية المحتضرة مازالت تمارس القتل مثل ظُفر كليب بن ربيعة بعد مصرعه، وستأتي ذات يوم على آخر عراقي.

ونحن على قناعة تامة، ومنذ زمن بعيد، بأن الهوية الجامعة للمكونات الاجتماعية العراقية كلّها هي هوية ثقافية محضة، إذ لم يكن هذا البلد منذ أيام السومريين متجانساً عرقياً ولغوياً ومذهبياً ودينياً. بل كان تنوعه الثقافي هذا مصدر قوته وديموته، وكان العامل الديني فيه عامل تفريق ليس إلا. وكلما ابتعد العراقيون عن الدين، وثنيّاً كان أم إسلاميّاً، واقتربوا من الثقافة والإبداع، تعززت وحدتهم وثقل وزنهم السياسي.

أمّا الدين، ومهما كان عمقه ورسوخه، لم يكن إلا عامل تجزئة وانقسام، وسبباً في اندلاع الحروب الأهلية. فالوحدة العراقية لم تكن وحدة جغرافية أو سياسية أو حتّى دينية، إنما كانت وحدة ثقافية، بقيت ثابتة أمام تقلبات الأزمان والحدود السياسية المتغيرة التي وضعها الغزاة والمحتلون. ومنذ أن اخترع أوّل عراقي حروفَ الكتابة وصنع أوّل آلة موسيقية وأنشد أوّل ملحمة ووضع أوّل قانون وإلى اليوم لم نرى في هذا البلد إلا صورة المثقف وحده؛ وليس هناك صورة لسواه، فهو الصانع الحقيقي لهوية هذا البلد.

الثقافة وبناء الهوية

ولذلك فإن الطغمة الطائفية الحاكمة في العراق اليوم، شيعيةً أم سنيّةً، هي العدو الأول للثقافة العراقية الأصيلة. وتكشف، على سبيل المثال، الطريقةُ التي عيّن بها وزير الثقافة السابق نوري الراوي هذه الحقيقة.

إذ أنه منح هذه الوزارة، غير السيادية حسب المصطلح الطائفي الجديد، لأنها لا تدر أرباحاً ولا تسمح بالكثير من السرقة وشراء الذمم مثل وزارات النفط والداخلية والخارجية والدفاع، مُنح هذه الوزارة محاصصةً، لأنه سنّي فقط، رغم أن المسكين لا علاقة له بالثقافة ولم يسمع إلا باسمها، إنما كان رجل شرطة في عهد صدّام ثم بائعاً للعلف! وقد قُبل طلبه وأدخل الوزارة، لأن التكتلات الحزبية الأخرى ظنّت بأن الأمر يتعلق بنوري الرواي، الفنّان المعروف!

وأود في الأخير أن أطرح أسئلة بسيطة على المعنيين بالأمر: ما فائدة مشاهد الأولياء وأضرحتهم إن كانت لا توفر أبسط شروط الحماية للناس الزوّار؟ ومن هو مثلاً ذاك الذي قتل عبد المجيد الخوئي ابن المرجع الأعلى للطائفة الشيعية في حضرة الإمام علي نفسه، حضرة جده الأعلى، وبتر إصبعه؟ ومن هم أولئك السدنة وحملة مفاتيح سرداب الظهور الذين ساعدوا على تفخيخ الروضة العسكرية في سامراء وقدموا الدعم للإرهابيين وأمروا بذبح أطوار بهجت؟

ونحن حين نطرح هذه الأسئلة لا نتوقع بالضرورة إجابة من المعنيين، بالأخصّ من أولئك الذين أعمى الطمع والحقد أبصارهم، بل أردنا التأكيد على دور الثقافة في بناء الهوية الوطنية للعراق. فلابد من وضع حدّ لمخططات التقسيم العرقي.

ولذلك فإن المثقفين العراقيين يتحملون المسؤولية كاملةً في إحباط هذه المخططات، ويتحملون المسؤولية كذلك فيما يتعلق بحاضر العراق ومستقبله، والحفاظ على ما بقي من وحدته المهددة يوماً بعد آخر؛ وعليهم أن لا يتركوا العراق مرتعاً سهلاً لعبث هؤلاء الجهلة الأشرار المتسربلين بمسوح الدين.

بقلم حسين الموزاني
حقوق الطبع حسين الموزاني 2006

حسين الموزاني كاتب عراقي، مقيم في بون، المانيا.

قنطرة

جمهورية العراق الاتحادية
يطرح فولكر بيرتيس، مدير مؤسسة العلم والسياسة في برلين، سيناريوهات مختلفة لتطور العراق في المستقبل القريب ويرى أنه من الممكن أن تتحول البلاد إلى دولة فيدرالية بعد انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية وبمساعدة الأوروبيين

العراق والديمقراطية
هيمنة الدين والتقاليد العشائرية على السياسة العراقية الحالية هو نتاج نظام البعث العربي الاشتراكي الذي خرب أثناء فترة حكمه البنية التحتية لبناء مجتمع مدني ومشهد سياسي تعددي. تحليل سامي زبيدة

الفن العراقي ثقافة مهجر؟
يقام في برلين حتى السادس والعشرين من فبراير/شباط 2006 في مقر "اتحاد الأعمال الفنية في برلين- معهد الفن المعاصر" معرض "تصويرات عربية معاصرة. المعادلة العراقية". يعد هذا المعرض بإعطاء صورة عن عالم الفن العراقي سواء في غضون العقود المنصرمة أو في الوقت الراهن.