غياب اليسار وحديث الخصوصية
ملاحظات ثلاث يسعي هذا المقال الي صياغتها: أولا، تبدو نقاشات المثقفين العرب حول اشكاليات الإصلاح السياسي في اللحظة الراهنة أسيرة لسردية خطر متعددة المضامين. تتواتر في ثنايا أحاديث التغيير الرائجة اليوم عبارات من شاكلة نحن في خطر، العالم العربي يمر بمنعطف شديد الدقة، نجتاز مرحلة فارقة، نقود السفينة في بحر هائج ملئ بالأمواج، ثقافتنا مهددة، الوضع لا يحتمل التأجيل، وغيرها الكثير، ناقلة إدراكا عاما بمرور مجتمعاتنا بلحظة استثنائية في تاريخها المعاصر.
مثل هذه الصياغات وإن كانت ليست بالغريبة عن القاموس السياسي العربي أو عن توظيف النخب الحاكمة والمعارضة لها في لحظات زمنية سابقة وفي ظل توجهات مختلفة، فإن اللافت للنظر هنا هو عمومية استخدام رمزية الخطر والربط التبريري بينها وبين حتمية انجاز التحول الديمقراطي، وتحديث مؤسسات المجتمع والدولة باعتبارهما مكوني الاصلاح المركزيين.
وأحسب أن هذا الأمر يثير العديد من التساؤلات المهمة، فمن جهة هناك شرعية للتدبر في ماهية ومدي اختلاف الأوضاع الراهنة عن حالة المجتمعات العربية في العقود الثلاثة الماضية، والتي اعتاد منتجو الخطابات السياسية والثقافية في المجال العام توصيفها في سياق زمانية الأزمة المستمرة، فما هو جديد الحاضر؟
هل هو الظرف الاقليمي بتعقداته في العراق وفلسطين، أم هي سياسات القوي الخارجية في منطقة الشرق الأوسط ومشاريعها الاصلاحية المتساقطة علينا من السماء والبادية ظاهريا وكأنها تهدد استمرارية وجود بعض النظم الحاكمة؟
هل دخلت شعوبنا النفق المظلم للتو، أم هي والجة به منذ فترة زمنية ليست بالقصيرة في اطار فشل الدولة الحديثة في تنمية وتطوير مجتمعاتها وما رتبه ذلك من فقدانها شرعيتها وتحللها التدريجي. وما هي الفروق النسبية في هذا الصدد بين المغرب ومصر والسودان وسوريا وقطر علي سبيل المثال؟
وبالتبعية هل نحن إزاء جملة تراكمات داخلية واقليمية تسهم في صياغة إدراك عام بوجود أخطار ولحظات فارقة تستحيل معه الأخيرة بمنطق الفعل القولي المنشئ للظواهر الي حقيقة موضوعية كليانية؟ ومن جهة أخري هل تتوافق سردية الخطر هذه مع شروط التحول الديمقراطي
والتحديث أم أن تلك تقتضي سياقا مجتمعيا بخصائص مغايرة؟
أم لم تشكل للحظات الاستثنائية في تاريخ الشعوب مقدمة لصياغة( أو إعادة صياغة) علاقة الدولة ـ النخبة بالمجتمع ـ المواطن علي نحو شمولي قسري؟ بعبارة أخري، أليست هي لحظة البطل المنقذ وفقهها هو الفاشية والهندسة المجتمعية من أعلي إن بمشروع تحديثي أو بدونه؟
بغض النظر عن تأرجح جل الكتابات العربية في هذا الصدد هناك قراءتان متناقضتان ترتبطان عضويا بتحديد تراتبية مستويات مفهوم الخطر وأنماط علاقاتها التبادلية:
قراءة قومية تري له بالأساس مستوي خارجيا يرتكز علي كون سياسات القوي الغربية خاصة الولايات المتحدة الأمريكية منذ الحادي عشر من سبتمبر2001 تعبر عن مرحلة استعمارية جديدة لم تعد معها لسيادة واستقلال الدولة في العالم العربي ـ الاسلامي سوي أهمية محدودة، ومستوي داخلي يري في ضعف ورخاوة الدولة والمجتمع لدينا سبب الانقياد أو الاستسلام امام الهجمة الغربية، وقراءة ليبرالية تستند علي أولوية الداخل بمعني فشل العرب في إنجاز تقدم حقيقي، وتضفي علي دور الخارج وظيفية القوة الكاشفة عن جوهر الفشل هذا، والدافعة بالتالي الي حتمية مواجهتها بمنطق رئيس الجمهورية اليمنية نحلق رؤوسنا بأنفسنا قبل أن يحلقوا لنا.
إن النتيجة المترتبة في كلا السياقين هي أن قضية الاصلاح تستحيل مجرد استراتيجية لحظية ـ مؤقتة لخروج الشعوب العربية من حالة الخطر الراهنة تنتهي أهميتها بالوصول الي شاطئ النجاة المزعوم، ولا يؤسس لها في الوعي العام باعتبارها النهج العقلاني الوحيد لإدارة شئون المجتمعات البشرية مستندة الي مضامين النقد الذاتي وتصحيح مسارات الحركة التاريخية.
الأهم من ذلك أن التأمل في خبرة عدد من المجتمعات المعاصرة في شرق ووسط أوروبا وأمريكا اللاتينية والقارة الافريقية يظهر بجلاء حقيقة تزامن بدء عمليات التحول الديمقراطي مع هيمنة رؤية ايجابية تفاؤلية للحاضر والمستقبل في المجال العام المعني، تركز علي امكانات التغيير لحياة أفضل، ليس درءا للاخطار بل لحاق بروح العصر وأمل في التقدم،.
فلم تكن لحظة نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات في أوروبا الاشتراكية السابقة، علي سبيل المثال، معبرة عن انتفاضات مفاجئة لشعوب خشيت علي وجودها إن بحكم عوامل خارجية( الصراع مع الغرب) أو داخلية( الجمود المجتمعي الشامل)، بل عن دينامية قوي وتنظيمات مجتمعات رغبت في المزيد من الرقي من خلال اصلاح مسار تطورها السياسي( الحريات المدنية) والاقتصادي( مركزية القطاع الخاص)،.
أما مقولات الخطر واللحظات الاستثنائية فلم تنتج تاريخيا إلا بدايات أو ردات فاشية. وأجدني هنا مستدعيا لأفكار الفيلسوف وعالم القانون الألماني كارل شميت(1888 ـ1985) الذي شكلت كتاباته خاصة اللاهوت السياسي(1922) تبريرا معرفيا لوصول النازية الي سدة الحكم في ألمانيا ثلاثينيات القرن الماضي وانقلابها علي نظام جمهورية فايمار الديمقراطي(1919 ـ1933)،.
لحظة شميت الاستثنائية هي لحظة تهديد وجود الدولة والنظام المجتمعي علي أرضية اختلال الانساق القيمية والدينية( تحديد مضامين ثنائيات الصديق ـ العدو، الخير ـ الشر، الصالح ـ الفاسد، الخ) وفقهها هو حق البطل المنقذ( مالك السيادة في لغة شميت) في الإدارة الشمولية للمجتمع واعادة التأسيس الديكتاتوري لمعني القانون والصالح العام.
دعونا نتذكر الترابطات علي مستويي الخطاب والفعل السياسي بين حرب فلسطين وحريق القاهرة وانقلاب الضباط الأحرار في مصر، بين ادعاءات الخيانة والتصفية الجماعية وانقلاب صدام حسين في العراق، وغيرهما الكثير. ميثولوجيا الخطر هي ميثولوجيا البدايات أو الاسترجاعات الشمولية، والجبهات الوطنية الموحدة، وليست المقدمة الوظيفية للإصلاح بصياغتها لوهم الفناء القريب ولإدراك خلاصي زائف. هنا يصير استبدال مكونات الديمقراطية والتعددية والتحديث بفاشية حامية تدعي أيضا توجها اصلاحيا أمرا جد يسير.
وتشير الملاحظة الثانية الي حقيقة غلبة مفردات الليبرالية الجديدة علي خطابات الاصلاح في المجال العام العربي في مقابل غياب ملحوظ لأجندة اليسار واشكالياته. تدور صياغات منتجي رؤي وبرامج التغيير من نخب حكومية وأحزاب معارضة وفاعلي المجتمع المدني ومثقفين.
وبصرف النظر عن مدي صدقيتها وفاعليتها، في فلك البحث عن استراتيجيات لتعظيم مساحات الحرية السياسية واحترام حقوق الانسان والحد من سطوة الدولة القمعية ورقابتها المسحية علي المجتمع وتحديث مؤسساتها، تكاد معالجات الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية للاصلاح أن تقتصر في هذا السياق علي مستويين رئيسيين، من جهة التشديد علي استكمال التحول نحو اقتصاد السوق وحتمية تراجع دور الدولة الاقتصادي وبالتبعية تخليها عن الجزء الأكبر من مسئوليتها إزاء الفئات الاجتماعية.
ومن جهة أخري الدفع بعدد محدود من القضايا النوعية ـ القطاعية من شاكلة تمكين المرأة وايجاد مجتمع المعرفة وتحديث البني التعليمية الي صدارة النقاش العام في محاولة لإضفاء شرعية مجتمعية عليه. أما اختلال معدلات توزيع الثروة في عالمنا وأزمات البطالة والفقر والتهميش المتصاعد للطبقات الوسطي وتراجع سرعات الحراك الاجتماعي مقارنة بمراحل سابقة، خاصة الخمسينيات والستينيات، فتغيب عن حديث الاصلاح.
أعلم ان استعادة المجتمع من قبضة الدولة السلطوية تقتضي تراجع مجالات فعل الاخيرة والهبوط التدريجي لسقف استحقاقات المواطنين تجاهها وتزايد أهمية المبادرات الأهلية غير الحكومية. فـالدولة الاب التي ينتظر منها كل شيء ويفترض ان تبسط شباك أمنها المجتمعي الشامل علي رعاياها، هي دولة تجرد هؤلاء، فرادي وجماعات في ذات اللحظة، من حقوق المواطنة والحريات السياسية والمدنية.
إلا أن ذلك لايعني بالضرورة انسحابها التام في اطار عمليات التحول الديمقراطي او تراجع مركزية التعامل مع الابعاد غير السياسية للتغيير. تقترب الصورة الليبرالية الجديدة التي ترسمها معظم خطابات الاصلاح العربية من الحقبة التاتشرية في بريطانيا الثمانينات، ومن واقع بعض الدول الأوروبية الشرقية في النصف الأول من التسعينيات.
لكن الفارق بينها وبيننا هو وضعية المجتمعات المتقدمة أو ذات الحظوظ المتوسطة من التطور هناك وحقيقة التخلف هنا. بل ان مثل هذه الحالات الصارخة للاهوت الليبرالية الجديدة بدولتها المتراجعة واقتصاديات السوق المتجاهلة للالتزام الاجتماعي قد انتهت جزئيا في أوروبا إما بعودة اليسار( التقليدي والجديد) أو بتشكيل قوي يمينية وقومية لحكومات ائتلافية ركزت في سياساتها علي مسئولية الدولة تجاه المواطنين.
لانملك في العالم العربي تجاهل قضايا المساواة والعدالة التوزيعية وتكافؤ الفرص والضمانات الاجتماعية ان اردنا بالفعل اصلاحا تؤيده قطاعات وحركات مجتمعية واسعة ولايقتصر علي النخب، حكومية وغير حكومية، ويخطط له فقط في مجالس مغلقة وأمانات نوعية مفتقدة للقواعد الشعبية تبقي مضامين الاصلاح بدون الوصول إلي توازن توافقي بين حتمية اخلاء الدولة لعدد من مساحات الفعل السياسي والقبول بتعددية فاعليها وتواصل دورها الاقتصادي والاجتماعي في ظل مشاركة مع القوي المدنية والأهلية غامضة ومعرضة في نهاية الامر لهيمنة الفهم التكنوقراطي علي الجوهر السياسي لعمليات التغيير وهو احتمال جد خطير.
فقد يصبح تحديث الدولة والمجتمع مجرد آلية لتجديد دماء الاحزاب والنخب الحاكمة ويختزل الحكم الرشيد في شفافية علاقة مؤسسات الدولة ببعض القوي الاجتماعية علي أرضية الاهتمام المشترك بعدد من القضايا النوعية وليس التداول الديمقراطي للسلطة وحكم القانون والمساءلة السياسية.
تقع مسئولية مواجهة الأجندة الليبرالية الجديدة نظريا علي عاتق قوي اليسار العربي بتنويعاتها المختلفة القديمة والجديدة البرلمانية وغير البرلمانية الماركسية والقومية،. لكنها لاتقوي في التحليل الأخير وبحكم وضعيتها الراهنة علي انجاز هذه المهمة، فهي قد أضحت ازاء أزمات فقدان التواصل مع القواعد الشعبية وفقدان المصداقية مع انضواء بعضها تحت أجنحة الدولة السلطوية مدعية العلمانية وفقدان السيطرة علي عدد من مساحات فعلها التقليدية( النقابات العمالية والمهنية) لصالح قوي أخري وفقدان مفردات الخطاب السياسي العصري الذي يستطيع التأطير لقضايا من شاكلة المساواة والعدالة في الوعي العام في أحسن الأحوال مهمشة وفي أسوئها كيانات بيروقراطية ورقية لا حول لها ولا قوة.
وقناعتي أن مناط الخروج من هذا المأزق لن يتأتي سوي باعادة اكتشاف اليسار والتأسيس لدوره في المجال السياسي( أحزاب) والمجتمع المدني( نقابات ومنظمات أهلية) وفي سياق عملية انفتاح مزدوجة الوجهة علي الاجندة العالمية لحركات مناهضة الرأسمالية المعولمة وخطابها الليبرالي الجديد من جانب، ومن جانب آخر علي بعض الفاعلين المحليين الذين رفضوا باستمرار التعامل معهم واستبعدوا
المرة تلو الأخري من خانات القوي الملتزمة مجتمعيا علي الرغم من صراحة توجهاتهم في هذا الصدد وعمق تجذرهم الاجتماعي، وأعني هنا تحديدا القوي الدينية المعتدلة.
ترتبط الملاحظة الثالثة جزئيا بواحدة من الاشكاليات التي تطرحها تلك القوي الدينية المعتدلة وان لم يقتصر عليها بأي حال من الأحوال حديث الخصوصية ذو المضامين التاريخية والدينية والثقافية.
يكتشف الناظر إلي النقاشات العربية الراهنة حول الاصلاح سريعا محورية الدفع بتفردنا في سباقات متعددة، علي صعيد أول تمثل الخصوصية العربية بل وخصوصية كل مجتمع عربي حصان طراودة في مواجهة النخب الحكومية وغير الحكومية لمشاريع التغيير الخارجية الأمريكية والأوروبية التي توصم بالمركزية الغربية وعدم فهم حقائق واقعنا واختزاله في صياغات شديدة العمومية لا تنفع وقد تضر.
توظف حجة الخصوصية ثانيا من جانب النظم الحاكمة في محاولتها التحكم الأحادي في ايقاع التغيير ازاء مطالبة بعض القوي الاجتماعية والسياسية في عالمنا باصلاحات عامة مثل التداول الديمقراطي للسلطة وتعديل الدساتير وذلك علي أرضية ادعاء اختلاف كل حالة عربية عن الاخري.
بمنطق مايصلح في المغرب قد لايصلح في سوريا. اخيرا يستخدم عدد من الفاعلين غير الحكوميين، يافطتي الخصوصية والاصالة لاضفاء هالة من القداسة واحتكار الحقيقة المطلقة علي رؤاهم الذاتية حول الدولة والمجتمع واستبعاد تصورات اخري تتهم بغربتها وعدم ملاءمتها، وهي الممارسة التي تبرعت بها، ولاشك الحركات الدينية برمزيتها الاختزالية واحالاتها المتكررة إلي الاصول الثابتة والجواهر النقية.
العقدة هنا هي اطلاقية حديث الخصوصية ونتائجه السياسية شديدة المحافظة. بداية لايمكن توصيف مجمل ماضي أو حاضر مجتمع استنادا فقط إلي ادعاءات التفرد التاريخي، إذ تتشابه وتتقاطع مراحل تطور الحياة البشرية في الشرق والغرب، كما تختلف في لحظات بعينها.
إننا نعيش بالقطع في عوالم ذات زمانيات متناقضة( الحداثة ماقبلها ومابعدها) وان كانت وبنفس القدر منفتحة ومتواصلة ومتأثرة ببعضها البعض.
اما خطابات الخصوصية الدينية والثقافية حال اطلاقها، وهي بالمناسبة ليست حكرا علي عالمنا العربي ـ الاسلامي ـ فالاصل بها انها لاترتكز علي شواهد موضوعية وتنبني علي رؤية معكوسة لترابطات الدين ـ الثقافة المجتمع تجعل من الاول والثاني مهيمنين علي الاخير.
في حين ان وقائع التاريخ لاتعرف إلا متغيرات دينية وثقافية تتغير معانيها ووظائفها بتبدل أحوال المجتمع. سياسيا، واذا ما استثنينا مساحة التأكيد القوي علي الاستقلال والسيادة الوطنية التي تسترضي مشاعر الجماهير العربية الجريحة لاينتج التشديد الاطلاقي علي خصوصية الداخل بتمايزاته في مواجهة الخارج المنادي بعموميات، سوي تمييع معايير الاصلاح وفتح الباب علي مصراعيه أمام صياغات من شاكلة التداول الديمقراطي للسلطة وفقا لظروف كل دولة.
بقلم عمرو حمزاوي، أستاذ العلوم السياسية في دامعة القاهرة
صدر المقال في صحيفة الأهرام ونعيد نشره بالاتفاق مع الكاتب