إشكالية التحول الديموقراطي

لم يعد بوسع المرء تخيُّل الخطاب السياسي في الكثير من البلدان الإسلامية من دون الحركات الإسلاموية . لكن ماذا يُقصد بالإسلاموية عموماً؟ هل هو تعصّب الخاسرين وحسب؟ وكيف يتوجّب على الغرب أن يتعامل مع "الإسلامويين المعتدلين". سونيا زِكري تجيب عن هذه التساؤلات.

​​تعتبر الكثير من الحركات والجماعات الإسلاموية نفسها بديلاً للأنظمة الفاسدة والمستبدّة على امتداد المساحة الممتدة بين الرباط ودمشق. وتأتي جماعة الأخوان المسلمين في مصر في مقدمة هذه الحركات، وهي الحركة الإسلامية الأقدم والأكبر والأكثر تأثيرا. أما فلسطين، النزاع المرجعي الرمزي لمجمل المنطقة، فهي حالة لها خصوصيتها في كثيرٍ من الجوانب، وأما الحركات الإسلاموية الموجودة في الدول المجاورة بالدرجة الأولى، فقد عدلت عن العنف منذ زمن طويل. يقول الباحث السياسي ضياء رشوان من مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية في القاهرة: "تعلَم حكوماتنا جيدًا، أن الأخوان المسلمين لا يخططون لانقلابٍ على الدولة".

التساؤل عمّا إذا كان نبذ العنف الذي تعلنه المجموعات الإسلاموية صادقاً أم مجرد تكتيكٍ سياسيٍ يعد أحد التساؤلات المصيرية في العالم العربي، إلا أن عددا من الباحثين الإسلاميين من أمثال أوليفر روي يدعون بدايةً إلى تفاؤلٍ شجاع، إذ يرى روي أنه لا بد من تقييم الإسلامويين بحسب أفعالهم وليس بحسب نواياهم: "لأن السريرة لا تُعدُّ مخططاً سياسياً".

تصدم الجهادية العدمية الغرب من خلال نشاطات إرهابية تتجاوز كل الحدود ولا يمكن منعها على ما يبدو، إلا أن الإسلاموية المعتدلة تحقق النجاح وتلقى القبول على الصعيد المحلي، حيث أيد حزب العدالة والتنمية (PJD) في المغرب مدونة الأسرة التي طرحها الملك محمد السادس، وهي قانون تقدمي للأسرة، يعطي المرأة حق الطلاق، ويرفع عمر الزواج الأدنى إلى ثماني عشرة عاماً، ويفرض توزيع الممتلكات بالتساوي في حال انفصال الزوجين. وأما سياسيا فقد أدان الأخوان المسلمون في الأردن على سبيل المثال حرب العراق، في الوقت الذي شارك فيه أقرانهم في الحكومة العراقية.

البراغماتية المرنة لدى الحركات الإسلاموية

تبوأ الإسلامويون مكانة المعارضة الفعلية الوحيدة في الكثير من البلدان عبر هذه البراغماتية المرنة. ففي مصر، حيث يُعتبر حزب الأخوان المسلمين محظوراً من الناحية الرسمية ولا يمكنه إلا ترشيح مستقلين للإنتخابات، نجده قادراً على الحصول على ثلاثين في المائة من الأصوات على الأقل في انتخابات حرّة بحسب تقديرات ضياء رشوان، وهذه النسبة مرشحة للارتفاع، لاسيما وأن الحزب قادر على تعبئة أنصاره في أي وقت كان، بينما جرى تهميش الاشتراكيين والليبراليين والقوميين منذ زمن طويل. إن قضاء الأنظمة على المعارضة العلمانية أيضًا تحت ذريعة خطر قيام الدولة الدينية، لا يعود بالنفع إلا على الإسلامويين .

إن تفريغ الديمقراطية من محتواها هو ثمن قمع الحركات الإسلاموية باسم الحرية، كما نتبين من مصر وتونس مثلاً وهو الأمر الذي يُشكل مأزقًا للغرب. فالإسلامويون اليوم من أشدِّ المؤيدين لحرية التعبير والانتخابات النزيهة والتعددية، وهذه هي صُلب القيم الغربية. كما تنشأ تحالفات يصعب فهمها، فحركة الاحتجاج المصرية "كفاية" التي هُمِشَت مؤخراً والتي تُشكل تجمعاً لقوى سياسية مختلفة، تظاهرت جنباً إلى جنب مع الأخوان المسلمين ضد مشروع مبارك للإبقاء على حرس نظام مبارك. كما يتعاضد في الآونة الأخيرة كتّابُ المدونات والإسلامويون في الشبكة الالكترونية الدولية عند مطالبتهم بمزيد من الحرية.

ضبابية موقف الحركات الإسلاموية تجاه الديمقراطية

​​في حين لا يعرف أحدٌ الصورة الحقيقية لعلاقة الإسلامويون بالديمقراطية، تُطرحُ تساؤلات من نوع: هل تتخطى هذه العلاقة حدود التوظيف؟ وهل سيقبلون فعلاً بالتنازل عن الحكم في حال عدم انتخابهم مستقبلاً؟ أم أن فهمهم للتعددية يُختزل بفكرة برنارد لويس القائلة: "شخص واحد، صوت واحد، ولمرة واحدة"؟ أي أن لكل شخصٍ صوتا يدلي به مرة واحدة فقط. الباحث الاجتماعي الشاب من مدينة الرباط محسن الأحمدي، الذي عاش لمدة عشر سنوات في باريس والذي يدرس الحركات الإسلاموية في المغرب يحذر من أن الإسلاميين يعملون بما هو "مقدّس" في ساحات السياسة والتاريخ غير المقدّسة، ويقول بهذا الصدد: "لم يدرك الإسلامويون قط، أن الديمقراطية قيمة ضرورية في عصرنا الحالي".

بيد أن احتساب تعداد الأحزاب وحجمها لن يعكس حجم تأثير الحركات الإسلاموية، فهي ليست ظاهرة سياسية ولا حتى دينية بحتة، بل هي تحوّلٌ اجتماعيٌ ثقافيٌ هائل. يسمي محسن الأحمدي هذا التحوّل بـ"الثقافة المضادة"، وتقارنه الباحثة الإسلامية البرلينية غودرون كريمر Gudrun Krämer بحزب الخضر قائلةً: "ليس هناك هيمنة سياسية للخضر اليوم، إلا أن رؤى حزب الخضر لها تأثير واسع. كذلك هو الأمر بالنسة للإسلامويين من الناحية الوظيفية المحضة: فهم يحددون للناس شكل الملبس، وطبيعة المأكل، وهم ناجحون في هذه الأمور إلى حد كبير".

تحوّل اجتماعي ثقافي هائل

حتى وإن لم يحظ الإسلامويون بالسلطة قط، إلا أنهم غيّروا العديد من أنماط العيش في بلادهم. فقد استطاعوا من خلال توفير شبكة من المستشفيات وحضانات الأطفال ومرافق الرعاية التي لعبت دوراً اجتماعياً كبيرا تثبيت جذورهم وتعميق وجودهم. كما أنه من الملاحظ أن الحجاب من العناصر المرئية للتحوّل في الرباط، والجزائر والإسكندرية، بينما كانت التنانير القصيرة والفساتين بلا أكمام موضة قبل ثلاثين عاماً. كذلك الأمر بالنسبة لأركان الصلاة في محطات المترو في القاهرة، وكلمة "الله" المنحوتة في الصخر في وسط الصحراء، وساعات الصلاة المزودة بالتوقيت الهجري وببوصلات تشير إلى القِبلَة في مكة، وعلى الرغم من كل الحيل التي يمكن أن يستخدمها الفرد ليفلت من الواجبات الدينية، يجري التغلغل الديني في المجتمع بناءً على توافقٍ شعبيٍ عريض.

ثمة مظاهرات احتجاج مناوئة لإسرائيل وأمريكا، وأخرى ضد الرسوم الكاريكاتورية التي طالت النبي محمد وأخرى ضد الإرهاب وحتى ضد الحكومات، لكن ليس هناك مظاهرة ضد الأسلمة ولا حتى من النساء. وبالتالي لا تعطي تلك المحاولات الماركسية التي ترى في التديُّن رد فعل على الفقر والحرمان تفسيرات كافية، إذ إن أبناء الطبقة الوسطى المثقفة من أكثر الناس التحاقا بهذه الحركات وكذلك الأمر ذاته ينسحب على المجتمعات الخليجية.

يستهزئ محسن الأحمدي من الوسوسة الروحية القائمة على مقولة "نعمل لآخرتنا كأننا نموت غدًا!"، إلا إنه يرحب بها أيضًا باعتبارها حصانةً ضد سطوة العولمة التي تجعل الجميع متشابهين، ويقول: "الحركات الإسلاموية هي مؤشراتُ ثقافةٍ تُدافع عن نفسها ضد معتدٍ خارجي"، مضيفاً أن العالم الإسلامي يضع إمبريالية القيم الروحية مقابل إمبريالية القيم المادية. يُذكِّر هذا بكلام صموئيل هونتينغتون.

وفي ردهم على مسألة حقوق المرأة وحقوق أبناء الأقليات يرد الإسلامويون بالقول بأن قيم العدل ونصرة الضعيف والتسامح قيم موجودة في القرآن. ولا يُحمَّلُ النبيُ وزر اضطهاد المرأة، بل أولئك الذين يأوِّلون كلامه. ولكن المثلية الجنسية التي توصف بالرذيلة في الكثير من البلدان العربية التي يحكمها العلمانيون موجودة. وكره إسرائيل وأمريكا ليس حكراً على الإسلامويين فحسب، بل تقوم الجهات الرسمية بتوجيهه باذلةً لذلك جهداً كبيراً.

لم تُؤد كل محاولات عزل المتدينين أو تحييدهم حتى الآن إلا إلى الإرهاب الدموي (كما في الجزائر)، أو إلى القمع (كما في مصر). ولم تستطع إيقاف تطرف بعض المجموعات ولا أن تمنع مسار أسلمة الجماهير البطيء . أوروبا القديمة الحذرة، التي لم تحقق العلمانية ولم تتجاوز القومية والفاشية إلا بعد حروب تكبدت فيها أفدح الخسائر، هي أوروبا التي تنظر لهذا الولع باليوتوبيا بعين الريبة، إذ لم يسبق أن استطاعت دولة ما أن تأخذ عن دولة أخرى عبء مرورها بتجربة أليمة. والمنطلقات الأساسية للحركات الإسلاموية تشكك في المقام الأول في جدوى الأنماط الديمقراطية. كما أن ردة الفعل المتسمة بالخوف والريبة على كل مطالب الإسلامويين بالمشاركة هي نتاج لسياسات أوروبية مرتبكة غير واضحة المعالم.

سونيا زِكري
ترجمة: يوسف حجازي
حقوق الطبع: زود دويتشه تسايتونج/ قنطرة 2008

قنطرة

الإسلام في منظور المفكر التركي علي بولاج:
البديل الوحيد للحداثة الغربية
يرتبط نهوض الحركة الفكرية الإسلامية الحديثة في تركيا بإسم علي بولاج أكثر من أي مفكر إسلامي آخر، فقد اجتذبت كتاباته مئات الألوف من القراء مثلما استقطبت الكثير من المثقفين غير الإسلاميين الى دائرة الإسلام وعلاقته بالحداثة. بقلم غونتر زويفيرت

ملف خاص
الإصلاح والإسلام
ما هو الدور الذي يمكن يلعبه الإسلام في إصلاح ودمقرطة المجتمعات الإسلامية؟ نقدم بعض النماذج التي يطرحها مفكرون مسلمون بارزون.

التحدي الاسلاموي:
من "الإسلام هو الحل" الى الديمقراطية والتعددية
في الدور الذي يلعبه الإسلامويون الآن في حياة العالم العربي وسعيهم ليكونوا بديلا للحركات القومية الأخرى التي قادت بلدانها الى الإخفاق ينبغي عليهم التأكيد على أن وصولهم للسلطة سوف يكون مبنيا على الديمقراطية والتعددية واحترام مبادئ حقوق الإنسان للنهوض بالعالم العربي من سباته الطويل. تقرير كتبه عمار علي حسان