هل بعض الصدق كافيا؟
مُنح صنع الله إبراهيم، أحد أبرز الروائيين المصريين، جائزة ابن رشد من مؤسسة ابن رشد للفكر الحر التي تسعى إلى دعم حرية التعبير والديمقراطية في العالم العربي. تقرير يوسف حجازي
في أكتوبر/تشرين الأول 2003 إعتلى صنع الله إبراهيم خشبة دار الأوبرا المصرية في القاهرة. لم يغني، ولم يقدم عرضا مسرحيا بالمعنى المباشر للكلمة. يومها أراد وزير الثقافة المصري، في نهاية حفل إختتام ملتقى الرواية العربية، منحه جائزة الرواية العربية، البالغ قيمتها مائة الف جنيه مصري (قرابة ثلاثة عشر الف يورو).
بعد تصفيق الحضور الحار، الذي ضم أكثر من ثلاثمائة كاتب وكاتبة من كل الدول العربية، صعد إلى خشبة المسرح وكأنه يريد إستلام الجائزة -التي كان قد أصبح معروفا قبل يومين من الإعلان عنها، أنه حازها- وألقى كلمة إستغرقت دقائق معدودات. رفض فيها الجائزة، وعلل أسباب هذا الرفض بالإحتجاج على الأوضاع السياسية اللاديمقراطية في مصر وطالب الحاضرين بالتحرك معبرا أنه أمر غير مقبول:
"أن يغمض (المثقف) عينيه أو يصمت أو يتخلى عن مسؤوليته"، وحث المصريين على مناهضة النظام وعلى المطالبة برفع حالة الطوارئ المستمرة في البلاد منذ عشرات السنيين، مؤكدا أن "هذه الجائزة مقدّمة من حكومة لا تملك –في نظري- مصداقية منحها".
هذه الإطلالة لصُنع الله إبراهيم بقيت فردية (صولو)، بالرغم من أن الحضور المذكور عاود التصفيق مؤيدا له، بعد أن أنهى كلمته. وبالرغم من جدل طويل دار بين مؤيد ومعارض "لفعلته". ومنهم من شكك حتى بمصداقيته متسائلا:
"لماذا يرفض صُنع الله جائزة من الحكومة المصرية بينما يقبل جائزة سلطان العويس الخليجية في عام 1994؟ وهل أمراء الخليج أكثر ديمقراطية وحرصا على المصالح العربية من رؤساء عرب آخرين ومن الحكومة المصرية؟". لكن بغض النظر عن هذا الجدل، وعن أصوات التأييد أو الرفض فقد أكد صُنع الله إبراهيم أن رفض القائم ممكن، وكان مثالا حيا على ذلك، وفتح أفقا لإمكانية أن تتحول هذه التجربة المفردة إلى تجربة جماعية.
رواية السجون
ولد صُنع الله إبراهيم عام 1937 في القاهرة ودرس القانون في جامعتها. التحق بالتنظيم الشيوعي السري في مصر. سُجن لمرات عديدة إبان فترة حكم جمال عبد الناصر وملاحقة اليسار، كان أطولها لخمس سنوات ونصف من 1959 حتى صدور العفو العام 1964.
"الرواية في العالم العربي وليدة السجون" يقول الكاتب اللبناني الياس خوري في إحدى مقابلته مع جريدة "دي تسايت" الألمانية. ويشير إلى صُنع الله إبراهيم ويوسف إدريس وآخرين. وبالفعل فقد كتب صُنع الله إبراهيم روايته الأولى "تلك الرائحة" بعد خروجه من السجن والتي صَدَرَتْ وصودِرَتْ عام 1966، ولم تنشر كاملة حتى 1986. وكان قد قرر في زنزانته أن يبدأ الكتابة، إذ إعتبرها وسيلة أنجع لتحقيق التغيير السياسي والإجتماعي.
عمل صُنع الله إبراهيم بعد السجن لسنوات في الحقل الصحافي حيث كان محررا في وكالة أنباء الشرق الأوسط في القاهرة ومن ثم محررا في وكالة ADN في الجزء الشرقي من برلين (عاصمة المانيا الديمقراطية في حينها) حتى عام 1971، انتقل منها إلى موسكو ليدرس الدراما حتى 1974 وليعود بعدها إلى موطنه مصر متفرغا للكتابة الأدبية والترجمة.
في مرحلة الستينات حيث عم نهج الواقعية الإشتراكية في الأدب العربي الملتزم، وبينما كتب مُجايلي صُنع الله إبراهيم عن الثورة وانتصار العمال والفقراء حيث يتغلب بطل الرواية على كافة الصعاب وينتصر الخير المحقق في نهاية القصة.
كتب صُنع الله عن تناقضات حركة التحرر الوطني التي تحارب القوى الرجعية وتقمع الجماهير وتخاف من الديمقراطية وتعلي من شأن السلطة، هم الصقوا الأدب بالإنسان العادي وقدسوه، وهو إنتقد إن لم نقل إستفز هذا الإنسان عبر سرده عن حقيقة وسلبيات هذا الإنسان.
فكتب عن الجنس وحب المال في رواية "بيروت بيروت" (1984) التي تناولت الحرب الأهلية اللبنانية، والولاء غير المنطقي لثوريين تحولوا إلى خدم للسلاطين في رواية "وردة" (2000) التي تناولت الثورة الظفارية في عُمان السبعينات.
الرواية التوثيقية والتناص
يمكننا القول إن صنع الله إبراهيم من كتاب الرواية التوثيقية التأريخية كما نلاحظ من الروايات المذكورة وذلك ينطبق على الشأن المصري أيضاً، بدأً من "تلك الرائحة" مروراً "بنجمة أغسطس" (1974) التي دارت حول بناء السد العالي وما إستتبعه من أضرار لحقت بالفلاحين والفقراء و"اللجنة" (1981) التي تشبه الى حد كبير "محاكمة" كافكا.
وقد صدرت بالألمانية عن دار لينوس (1987 و 1993) و"ذات" (1994) و "شرف" (1997) وقد تناوبتا نقل السلطة من ناصر للسادات ومن ثم إلى مبارك والتغيير الإقتصادي الذي حصل وإفرازاته على شرائح المجتمع ومواقفها من ذلك.
فيما روايته الأخيرة "أمريكانلي" (2003) والتي تعني على الطريقة الأمريكية أو -أمري كان لي- بحسب قراءتها، وتعالج الرواية مقارنة بين المجتمعين الأمريكي والمصري من خلال شخصية أستاذ مصري زائر في الولايات المتحدة الأمريكية ليس هو سوى الكاتب نفسه، إذ كان قد عمل في عام 1988 كأستاذ زائر في جامعة بيركلي في كليفورنيا.
وتميزت كتابات صنع الله إبراهيم الروائية بأسلوب يغلب عليه "التناص" أي تضمين نصوص مقتبسة كمقتطفات من الصحف تتخذ شكل الكولاج وكما قال في معرض إجابته على أسئلة الصحفيين: "إن وضع خبر بجنب الآخر من شأنه أن يكشف (للقارئ) أبعاد التطور والتغيير". وتشبه كتاباته السيرة الذاتية الملتحمة بالحدث السياسي وبذلك يسعى صنع الله إبراهيم إلى "التوصل إلى وحدة الرواية والواقع والكاتب".
جائزة ابن رشد
حاز صنع الله إبراهيم على جائزة ابن رشد للفكر الحر التي قدمت له آخر نوفمبر/تشرين الثاني من مؤسسة ابن رشد للفكر الحر غير الحكومية والتي تسعى إلى مساندة حرية التعبير والديمقراطية في العالم العربي. وهي مؤسسة خيرية، مسجلة في ألمانيا، أعلنت عن تأسيسها عام 1998.
وقد "اختير اسم المؤسسة تقديراً لإنجازات الفيلسوف ابن رشد الفكرية واستقلاله في تفسير الأفكار والمعتقدات الإسلامية، وتسامحه إزاء المعتقدات والثقافات المغايرة الأُخرى" كما جاء في بيان التأسيس.
وجاءت كلمة صنع الله إبراهيم التي القاها بمناسة منحه الجائزة، والتي حملت عنوان "نوع من الصدق"، وتناولت بشكل أساسي مسألة هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية والشركات العالمية والعولمة من جهة، مستشهدا على ذلك بإقتباس عن الكاتبة الهندية أروندهاتي روي:
"نحن نعلم أن مدننا سوف تدمرها الصواريخ، وقرانا ستسيج بالأسلاك الشائكة، ودوريات الجنود الأمريكيين ستسير في شوارعنا (...) لكن طالما ظلت أسواقنا مفتوحة وظلت احتكارات مثل انرون وبيكتيل وهاليبورن وأندرسون مطلقة اليدين، فإن زعماءنا- وبعضهم منتخبون ديموقراطيا -يمكنهم بلا خوف أن يموهوا الفروق بين الديموقراطية وحكم الأغلبية والفاشية. أما الاحتجاج ضدهم فيوصم بأنه إرهاب".
من جهة أخرى تناول كيفية تعاطي المثقف العربي مع ذلك مؤكدا ما معناه أن هناك من التزم الحياد مثل نجيب محفوظ، أو "من توافد على مراكز التمويل الأجنبية وتألقوا على الشاشات الفضائية " مثل أحمد فؤاد نجم، ومنهم من عارض مثل سعدي يوسف الذي "رفض الذهاب إلى بغداد المحتلة".
مدح الناصرية
بالرغم من كل ما جرى بقي صنع الله إبراهيم أسير الستينات. فوصف بالتفصيل: "يباد الشعب الفلسطيني على رؤوس الأشهاد، وتضع الإمبراطورية الأمريكية يدها علي بترول العراق وتستعد للسيطرة علي بترول إيران، ويُصنع من الإسلام غولا يستخدمه رأسماليو أوروبا في التغطية على استغلالهم لمواطنيهم، وتوضع القوانين الفاشية باسم محاربة العداء للسامية."
ووجه النقد لأفراد إرتدوا عن الطريق وإمتدح الحقبة الناصرية "بالرغم من كل شيئ"، لكننا لم نسمع أية تقييم للقوى التي تبنت مشروع التغيير ولماذا فشلت في إنجازه وبقي سؤال برسم الإجابة، فهل يبقى "بعض الصدق" كافيا؟
يوسف حجازي، قنطرة 2004