غياب صوت معتدل وإنساني

يعم تركيا الآن الذهول بعد اغتيال واحد من أشهر صحفييها من مواطنيها الأرمن. هذا الحدث المأساوي ألقى الأضواء على ملف حقوق الانسان في تركيا وطريقة تعاملها مع الأقليات فيها. تقرير دوريان جونس من اسطنبول.

يعم تركيا الآن الذهول بعد اغتيال واحد من أشهر صحفييها من مواطنيها الأرمن. هذا الحدث المأساوي ألقى الأضواء على ملف حقوق الإنسان في تركيا وطريقة تعاملها مع الأقليات فيها. تقرير دوريان جونس من اسطنبول.

هرانت دينك الذي يبلغ الثالثة والخمسين من عمره والذي يعتبر واحدا من أشهر الصحفيين الذين كرسوا حياتهم لبناء جسور الحوار والمصالحة بين الأتراك والأرمن كان قد اغتيل رميا بالرصاص قرب مبنى صحيفة "آجوس" التي كان يتولى رئاسة تحريرها رئيس تحريرها، وهي الجريدة الوحيدة الصادرة في تركيا باللغتين التركية والأرمنية.

مواجهة الماضي

كان دينك قد شن حملات طالب فيها تركيا بمواجهة ماضيها المتعلق بالمجازر المرتكبة ضد الأقلية الأرمنية قبل حوالي تسعين عاماً، واصفا إياها بكونها ابادة جماعية، وهذا ما تنفيه تركيا بصورة قاطعة. هذه الحملات لم تكن صادرة من الشعور بالمرارة او الثأر، وانما كوسيلة لتحقيق المصالحة بين الشعبين. كان دينك قد قال:

"يلعب الأتراك دوراً بالغ الأهمية بالنسبة للهوية الأرمنية، وخصوصاً في ما يتعلق بالشتات الأرمني. بالنسبة لهم فإن اعتراف العالم وخصوصاً تركيا بما تعرضوا له من ابادة جماعية سوف يعزز أواصر الترابط والتعاضد في ما بينهم ويساعدهم على التعرف على هويتهم. والأمر لا يختلف بالنسبة للأتراك الذين يعتبرون الأرمن أعداء لهم والمطالبة ويرون في الاعتراف بارتكابهم إبادة جماعية ضد الأرمن بمثابة تهديد لبلادهم. القاسم المشترك بين الجانبين هو أن كل طرف يعتبر الطرف الآخر عدواً له. ما يجب ان نناضل من أجله هو كسر دائرة الشر هذه."

إنتهاك المحرمات

كان دينك يحارب دائما وبدون أي تقاعس على الجبهة الأمامية، متحدياً المحرمات السياسية في تركيا. فقد ظل يتكلم علناً عن الظلم الذي يواجهه الأكراد في تركيا وعن حقوق الانسان بصفة عامة، فضلا عن كونه اشتراكيا بكل جوارحه.

شجاعة دينك هذه جعلت منه مشاركا دائما في ندوات التلفزيون التركي. وكان يواجه باستمرار معارضين متساوين بدرجة غضبهم وعنفهم بحجج عقلانية تتميز بروح من الانسانية والمرح، حيث أمكن، إذ كان يتجنب في حججه المرارة الفظيعة التي يلمسها المرء في الشتات الأرمني تجاه تركيا.

كان دينك قد ذكر في إحدى مقابلاته أن الفرق بينه وبين الأرمن في الشتات هو أنه عاش مع أتراك اليوم أما هم فما زالوا يعيشون مع أتراك العام 1915. مواقفه هذه كثيرا ما قادته الى مواجهة الحركة القومية التركية المعروفة بقوتها وخطورتها والى مواجهة الدولة التركية، رغم جهوده في بناء جسور المصالحة.

دعاوى الاساءة الى القومية التركية

أمضى دينك العديد من السنوات تحت وطأة القوانين التركية الكثيرة الصارمة التي تحد من حرية التعبير، وفي السنة الماضية وُجهت له تهمة "الاساءة الى القومية التركية" استناداً الى الفقرة 301 المشبوهة من القانون التركي.

لم يكن دينك الوحيد الذي حوكم بناء على المادة 301، بل تعرض العديد من الكتاب ومن بينهم الكاتب التركي الفائز بجائزة نوبل للأداب، اورهان باموك، للمحاكمة بناء على نفس المادة، إلا ان دينك كان الوحيد الذي تمت ادانته. هذه الادانة كانت السبب الوحيد الذي ذكره قاتله أوغون ساماست للشرطة كدافع للجريمة.

لم تكن التهديدات بالقتل غريبة على دينك خلال عمله، إلا انها زادت حدة وكثافة وجدية بعد ادانته. فقد كتب في آخر مقال له قبل اغتياله، "من يعرف كل انواع الظلم الأخرى التي أواجهها، ولكن الظلم الأخطر وغير المحتمل بالنسبة لي هو العذاب النفسي الذي أشعر به."

وكان دينك أيضاً قد تحدث عن شعوره بالاحباط بسبب عدم أخذ السلطات التهديدات التي تصله على محمل الجد، واصفا نفسه بالحمامة:

"ربما اشعر بما تشعربه الحمامة من قلق روحي، ولكنني أعرف ان الناس في هذه البلاد لا يؤذون الحمام الذي يعيش في قلب المدينة، بل وحتى بين حشود البشر. نعم انه نوع من القلق ولكنه في نفس الوقت نوع من الحرية."

"كلنا هرانت، كلنا أرمن"

بالرغم من قلق أصدقائه على أمنه، إلا انه رفض مغادرة البلاد مؤكداً انه سيفعل ذلك فقط، ليس خوفاً على أمنه الشخصي، بل في حال ما إذا تمت ادانته بتهمة الاساءة الى تركيا، "لا أظن انه يمكنني العيش معهم في هذه البلاد وأنا أشعر انني قد أسات اليهم. إذا ما أخفقت في التوصل الى نتيجة ايجابية فمن الأشرف لي مغادرة البلاد."

الكثيرون في تركيا يتمنون لو انه فعل وغادر البلاد لانقاذ نفسه. ثمة شعور عميق بالحزن في تركيا يتشاطر به الأرمن والأترك على حد سواء. فبعد ساعات على اعلان خبر اغتياله توجه الآلاف من الناس الى مبنى الصحيفة مرددين، "اليوم كلنا هرانت، كلنا أرمن."

ذهول وخسارة

لم يتسبب مقتل دينك بخلق حالة من الذهول فحسب، بل بشعور بالخسارة، وبأن تركيا خسرت شخصية فريدة وصوتاً معتدلاً وانسانياً في حين تتحه البلاد الى حالة من التنافر بسبب شبح العنف السياسي المتزايد.

كتب يافوز بيدر، أحد الصحافيين الأتراك قائلا: "ربما أكون قد خسرت صديقاً ولكن الجميع يعلم ان عملية التسامح والسلام والتفاهم قد خسرت أحد أقوى وأوفى مدافعيها. كان حلمه ان يرى تركيا متصالحة مع ماضيها وموطناً لحرية التعبير". لتستقر روحه العظيمة في سلام! إنه سيعيش من خلال زوجته وأولاده الثلاثة.

بقلم دوريان جونس
ترجمة منال عبد الحفيظ شريده
حقوق الطبع قنطرة 2007

قنطرة

معاقبة التاريخ بالقوانين الجزائية
في نوافذ المتاجر في تركيا يشاهد المرء إعلانات كتب عليها: "قاطعوا البضائع الفرنسية". بدأ هذا الاحتجاج بعد أن وافق البرلمان الفرنسي على قانون لمعاقبة إنكار المذابح الجماعية التي اقترفت في تركيا بحق الأرمن إبّان الحرب العالمية الأولى. تقرير عمر إرزيرين

النقد المحرم
تتزايد في تركيا القضايا المرفوعة ضد مؤلِّفين وصحفيين، حيث استُدعي في العام الماضي الكاتب التركي أورهان باموك للمثول أمام المحكمة بسبب انتقاده المذابح الجماعية التي ارتكبت بحق الأرمن في تركيا. بيد أنّ هذه القضية الأكثر شهرة تمثّل فقط قمّة الجبل الجليدي. مقال كتبه غونتر زويفرت

تابوات حول قضايا الأقليات
لم يتوقف سيل الدعاوى الموجهة ضد بعض المثقفين الأتراك وتبريرها بدعوى تحريض الشعب والاستهانة بسمعة الانتماء القومي التركي. فبعد القضية الموجهة ضد الروائي باموك تعين على اثنين من المستشارين الحكوميين المثول أمام القضاء منذ الأسبوع الماضي بسبب تقرير نقدي أعداه حول قضية الأقليات. تقرير كتبه غونتر زويفارت.