تعلم اللغة القومية الأم...حق أساسي من حقوق الإنسان
لقد مضت جمهورية إيران الإسلامية قدماً في انتهاج السياسة التي اعتمدها النظام القديم، وفضلت حظر تعلم لغة أخرى غير اللغة الرسمية (اللغة الفارسية)، برغم أن حصر اللغة الرسمية بالفارسية، فقط يتنافى وروح الدستور. وبهذا المعنى، ففي إيران أيضاً يسري العرف الدارج في بلدان الشرق الأوسط: وطن واحد، لغة واحدة، حتى وإن كان هذا العرف يتناقض مع واقع الحال، والحقائق السائدة على أرض الواقع. ونظرة سريعة على دول الجوار، تبين بيسر وجلاء، حقيقة المشكلة. فالبلاد التي أطلقت على نفسها، بعد الحرب العالمية الأولى اسم الجمهورية التركية، عللت وجودها من خلال مبدأ يزعم أن سكان آسيا الصغرى يتخاطبون بلغة واحدة، ويعتنقون ديانة واحدة لا ديانة سواها.
وبهذا النحو، يتجاهل المرء بكل بساطة وسذاجة الكرد والعلويين. ويجري انتهاج هذه السياسة في تلك البلدان أيضاً، التي أنشأتها الدول المنتدبة فرنسا وبريطانيا باسم العراق وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين، عقب الانهيار الذي تعرضت له الامبراطورية العثمانية، في سياق الحرب العالمية الأولى. ورسمت فرنسا وبريطانيا حدود هذه الدول على الورق، بلا أية مراعاة للاختلافات العرقية والتاريخية بين السكان القاطنين فيها. وفي هذه السياسية يكمن، في الواقع، أحد أسباب الحروب الأهلية، الدائرة رحاها، حالياً، في تركيا والعراق، فهذه البلدان تتمسك بمقولة مفادها: لا مجال للتطلع إلى ما هو غير مسموح به.
سوء استعمال مصطلحات مستوردة
ويزداد الموضوع تعقيدا حين يقذف الطرفان بعضهما بمصطلحات جديدة مستوردة من عالم آخر. بمصطلحات لم يصوغوا ولا حتى مفردات تعبر عنها بنحو سليم في لغاتهم الأم. فعلى سبيل المثال، فإن بعضهم يتهم البعض الآخر، بالمغالاة في الوطنية، وفي الشوفينية، ويقذفه بالدعوة للقومية التركية، وللوحدة العربية، والاستغراق بالأفكار الفاشية، وأنهم لا يكلون، ولا يملون، عن التحدث عن الأمة، والدولة القومية، وما سوى ذلك من مصطلحات مشابهة. وفي حين تحاول الدول الأوروبية، على خلفية ما خاضته من حروب دامية وطويلة، تحرير نفسها من جرثومة الإيديولوجيات، والعقائد العنصرية، مركزة اهتمامها وجهودها، على توحيد صفوفها، في تكتلات اقتصادية، وسياسية، تجمع بينها قيم، ومبادئ مشتركة، لا يزال السياسيون في الشرق الأوسط يصرو انطلاقاً من عظمة حقيقة أو مزعومة شهدتها أممهم في غابر الزمن على نفخ الروح في التقاليد الأوروبية البالية، وبعثها بصيغة جديدة.
وإلى حد ما، يعكس هذا الاستعمال المتعسف، للمصطلحات المستوردة، موروثاً شائعاً. فاكتشاف تاريخ إيران „العظيم“ على يد علماء ألمان، متخصصين بعلم الآثار واللغويات، كان الذريعة، التي احتج بها البعض، لتصدير جرثومة التعصب العنصري إلى إيران. ولم يقتصر الأمر على إيران فقط، فهذه الجرثومة، جرى تصديرها إلى البلدان المجاورة، أيضاً. وغني عن البيان أن مقولة أتاتورك „محظوظ من هو من أبناء الترك“، ليست سوى مقولة تدخل في قائمة تلك التصريحات، التي يتعين على أحد الفتية وإحدى الفتيات، التغنى بها، في صبيحة كل يوم، وإنشاد السلام الوطني قبل بدء الدرس الأول، وإلزام كافة التلامذة الآخرين ترديد ما يتغنى به الاثنان. والآن، وبما أن الحكومة صارت تحاول التفاهم مع الأكراد، لذا فإنها تزعم، بأن ترديد مقولة أتاتورك، ضمن النشيد الوطني يجب أن تفهم على أن المقصود منها الانتماء إلى الجمهورية التركية، وليس إلى الشعب التركي.
وفي خضم الجدل حول تدريس اللغة الأم في إيران، يستعين البعض تارة بمقولات علمية وتارة أخرى، بمقولات زائفة، لا سند لها، تحفز في نهاية المطاف على اندلاع العنف والعنف المضاد، بين ممثلي النظام من جهة والناشطين من أجل حقوق الإنسان من جهة أخرى. فالشعوب التي لا يجوز لها تعلم لغتها الأم، تتهم «الفرس» بالمغالاة في الوطنية وفي الشوفينية، وتؤكد على أن «الفرس»، يقمعون الشعوب التركية والكردية والبلوشية ويضطهدونها، ويحظرون عليها الإعلان عن انتماءاتها القومية. ومن ناحيتهم، يتهم الناطقون بالفارسية هذه الشعوب، بأنها تسعى للانفصال، وتتمسك بمبادئ القومية التركية وأفكار القومية العربية. وفي إشارة منهم إلى اللغة الفارسية الوسطى (اللغة البهلوية)، يؤكد هؤلاء على أن الآذريين ليسوا من ملة الأتراك، وأن العرب ما هم عرب أصلاً، وذلك لأن خوزستان (عربستان حتى عام 1925) ــ الإقليم الذي امتدت حدوده إلى أعماق العراق في سابق الزمن، كانت إيرانية دائماً وأبداً، وأن المدائن، عاصمة الامبراطوريتين البارثية والساسانية، لا تبعد إلا بضعة أميال من بغداد. وغني عن البيان، أننا هنا، إزاء جدل لا قيمة له بالنسبة لحقائق ومعطيات اليوم الراهن.
ما معنى فارسي يا ترى؟
في إيران لا يوجد شعب بهذا الاسم. هل المراد بهذا الاسم الأفراد المقيمون في إقليم فارس؟ وما هي حقيقة السلطان الذي يتمتع به هؤلاء الأفراد، بحيث يكون بمقدورهم رسم السياسة الإيرانية، في المجال اللغوي؟ هل المقصود بهذه التسمية محافظة خراسان وكرمان وأصفهان، وما سوى ذلك من محافظات إيرانية ينطق سكانها باللغة الفارسية؟ إلا أن هؤلاء الأفراد لن يطلقوا على أنفسهم تسمية أخرى غير خراساني وكرماني وأصفهاني. وإذا كان لهذا الشعب وجود حقيقي في يوم من الأيام، فمتى حكموا مجمل البلاد، ومتى استطاعوا أن يخضعوا إيران لسلطانهم يا ترى؟ فعقب انهيار الإمبراطورية الساسانية، وانتهاء السلطان، الذي مارسه العرب على مدى مائتي عام، تولى حكم إيران، قبائل تركية ومغولية في المقام الأول. ومن نافلة القول الإشارة هنا، إلى أن هذه القبائل هي التي ساعدت على انتشار اللغة الفارسية، ليس في إيران فحسب، بل وفي آسيا الصغرى وبلاد القوقاز وفي أواسط آسيا والهند أيضاً.
فاللغة التي كانت متداولة في بلاط السلاجقة الروم، في غرب الأناضول، كانت الفارسية بلا أدنى شك، والعاصمة قونيا كانت مركز الآداب الفارسية، ففي هذه المدينة عاش وألف عملاق الشعر الفارسي مولانا جلال الدين رومي. وكانت السلالة المغولية التي أسسها تيمورلنك قد جعلت من الفارسية لغة البلاط في الهند، وشجعوها، وساعدوا على انتشارها، على مدى قرون من الزمن، برغم أن لغتهم الأصلية كانت اللغة الجغانية التركية. ولم يكن سبب العناية بهذه اللغة يكمن في شعورهم بمعزة عارمة تجاه شعب معين أو بأواصر قربى متينة مع هذا الشعب أو ذاك، إن كل ما في الأمر هو أن متانة اللغة الفارسية قد بهرتهم. فمن مسلمات الأمور هو الأمر الذي نال استحسانهم ما كانت له علاقة بقوة الشعب الفارسي، فهم هزموا هذا الشعب وانتصروا عليه انتصاراً مبيناً، إن لغة الفردوسي هي التي حظيت باستحسانهم. وفي العالم الراهن أيضاً، تحظى اللغة الإنجليزية بالتقدير والتبجيل حتى في تلك الأوساط، التي يكن فيها الأفراد شيئاً من الضغينة والعداء للولايات المتحدة الأمريكية.
كما لا يوجد سند تاريخي يؤيد التهمة التي يرددها الطرف الآخر، أعني تهمة السعي للانفصال. حقاً تبلورت في إيران نزعات انفصالية. ومن حقائق الأمور أيضاً، أن هذه النزعات موجودة في اليوم الحاضر أيضاً. بيد أن هذه النزعات، تُغذى من خارج البلاد، وليس من الداخل. وتتجلى أقدم هذه النزعات، في محاولات الامبراطورية العثمانية، فصل إقليم أذربيجان الناطق بالتركية عن إيران، علماً أن هذه المحاولات قد توقفت، بنحو نهائي، مع اندلاع الحرب العالمية الأولى. فالجيوش العثمانية كانت، في بعض الأحيان، شديدة الفاعلية، واستطاعت احتلال أذربيجان ولم تنسحب منها، إلا بعد أن كبدهم الآذريين والقزلباش (الجماعة التي انحدر أغلبهم من الأناضول) خسائر فادحة. ومن حين لآخر، كان الطرفان يتركون وراءهم أراضيَ محروقة. وقامت الإمبراطورية الروسية، أيضاً، بمحاولة لاحتلال الأراضي الإيرانية. وكانت هذه المحاولة قد أسفرت عن الاستيلاء على سبع عشرة مدينة، من مدن غُلستان وتركمانجاي.
وكان الإيرانيون قد درجوا على وصف عملية الاستيلاء هذه، بأنها وصمة عار في جبين المحتل. واندلعت المحاولة الأخرى، للاستيلاء على أذربيجان وفصلها عن إيران كلية، في سياق احتلال الحلفاء إيران إبان الحرب العالمية الثانية. إلا أن البلاشفة لم يستطيعوا أن يحققوا ما نجحت في تحقيقه روسيا القيصرية، أي إنهم عجزوا، عن فصل أذربيجان عن إيران، واحتلالها بنحو دائم، وذلك لأن الدول العظمى رفضت، في هذه المرة، التجاوب مع نوايا البلاشفة، لاسيما أن السكان ما كانوا يتجاوبون مع البلاشفة أصلاً. وكأخر محاولة فاشلة، تندرج في هذا السياق، الحرب التي شنها صدام حسين بهدف الاستيلاء على خوزستان (عربستان). وفي هذه المرة أيضاً، وقف أبناء عربستان - الذين هم من سلالة العرب - في الخطوط الأمامية من الجبهة ودافعوا عن وحدة أراضي البلاد (المسماة حالياً إيران).
من هنا، فإنه لأمر مثير للاستغراب فعلاً، أن يتهم المرء هؤلاء المواطنين، بأنهم يتطلعون للانفصال عن إيران. فمن حقائق الأمور أن هؤلاء المواطنين ما كانوا بحاجة، لا لتبني أيديولوجيات يراد منها حشد النخوة الوطنية، ولا لترديد مصطلحات من قبيل الأمة والدولة القومية. فمنذ حكمها الأخمينيون، كانت إيران دولة متعددة الأعراق دائماً وأبداً، وحافظت على وجودها من غير أن تكون بحاجة لهذه المصطلحات المستوردة.
وتأسيساً على ما سبق، فإذا كان المرء يزعم، تارة بأن الآذريين ليسوا من سلالة الأتراك، بل هم قوم درجوا على استخدم اللغة التركية، في حياتهم العامة، وذلك لأنهم كانوا يتكلمون، في غابر الزمن، لغة تنتمي إلى مجموعة الفارسية الوسطى، وتارة أخرى، بأن الكرد من سلالة المدينيين، أي أن جذورهم تمتد إلى أول شعب آري، حكم إيران، فليس ثمة شك في أن هذه المزاعم، ليست ذات نفع يذكر، في حل المشكلة، التي نحن بصدد الحديث عنها. فهذه التبريرات تذكرنا بإصرار الكماليين، أعني معتنقي أفكار مصطفى كمال أتاتورك، على تسمية الكرد بأتراك الجبل. فنحن هاهنا إزاء مقولات، تخفي بين طياتها نزعات عنصرية، لا تساعد على حل مشاكل هذه الشعوب. فهذه الشعوب تتخاطب حالياً بالتركية والكردية أو بالعربية، وتتطلع لأن يتعلم أبناؤها دروسهم بلغتهم الأم في مدارس البلاد.
تسييس حق أساسي من حقوق الإنسان
إن الربط بين التطلع إلى التعلم باللغة الأم في المدرسة والنزعات الانفصالية، يجسد، في الواقع، تسييس حق أساسي وذلك من خلال تبني تصورات زائفة، وادعاءات باطلة. فنحن هنا، إزاء حق أساسي من حقوق الإنسان، إزاء حق يختص بالتخاطب باللغة الأم، إزاء حق جرى تأكيده في الكثير من المعاهدات والمواثيق الدولية. وعبد دستور الجمهورية الإسلامية الطريق، أمام حق التعلم باللغة الأم. فالمادة ٥١ من الفصل الثاني تشير إلى أن: „اللغة والكتابة الرسمية والمشتركة لشعب إيران هي الفارسية، فيجب أن تكون الوثائق والمراسلات والنصوص الرسمية والكتب الدراسية بهذه اللغة والكتابة.
ولكن يجوز استعمال اللغات المحلية والقومية الأخرى في مجال الصحافة ووسائل الإعلام العامة، وتدريس آدابها في المدارس إلى جنب اللغة الفارسية.“ إن هذه المادة تنطوي على إشكاليات متعددة. فما معنى „وتدريس آدابها في المدارس“؟ أليس من المنطق، أن يكون التلاميذ قد تعلموا، من قبل، قراءة وكتابة هذه اللغة، لكي يكون بمستطاعهم قراءة النص الأدبي وفهم مغزاه. ولماذا أحجم المرء عن التحدث، بصريح العبارة، عن ضرورة التدريس باللغة الأم؟ أما إذا كان المقصود هاهنا الأدب المترجم، فإن من نافلة القول الإشارة هنا، إلى أن هذا النوع من الأدب، لا قيمة له في تعلم اللغة الأم. وما معنى، „يجوز“ استعمال اللغات المحلية والقومية في المدارس؟ فهل المقصود أن اللغة الأم، يتعلمها التلاميذ كمادة اختيارية، أم أنها من جملة المواد، التي عليهم أن يتعلموها من خلال الدروس الخاصة؟ ومَنْ هو الطرف الذي سيتحمل الأعباء المالية المرتبطة بالدروس الخاصة؟ ومَنْ سيكون مسؤولاً عن اختيار الكتب، وتدريب المعلم واختيار أعضاء الهيئة التدريسية؟
إننا ها هنا إزاء مشاكل وتعقيدات، لم تهتم الحكومات السابقة ببيان السبل الناجعة والوسائل الضرورية لحلها. إزاء مشاكل وتعقيدات نالت اهتمام المرشحين لرئاسة الجمهورية في حقبة الحملات الانتخابية فقط. فما أن يحين موعد الانتخابات، سرعان ما يتوجه المرشحون إلى تبريز، المدينة التي تأوي أكبر تجمع من الأقليات، معلنين أنهم سيعملون ـ حالما يفوزون بمنصب رئيس الجمهورية ـ على إيجاد الحل الشافي، لمسألة اللغات الأم غير الفارسية. هذا ولم يكن الرئيس الحالي حالة استثنائية فيما يخص المسألة. علماً بأن تأكيد روحاني على „إن تدريس لغات الإيرانيين الأم، سيتم تنفيذه بنحو رسمي على مستوى المدارس والجامعات انسجاماً مع منطوق المادة ٥١ من الدستور، وذلك لأنه ضمانة لتعميق ثقافة وآداب الشعوب الإيرانية والسياج المنيع للحيلولة دون التدهور“، قد كان من أهم الأمور التي تعهد روحاني بتنفيذها. إن روحاني ذهب خطوة أبعد، فقد كان قد أشار إلى أن من ضروريات الأمور أن يتم في تبريز تأسيس أكاديمية ترعي اللغة الآذرية وآدابها. إلا أن من حق المستمع لخطاب حسن روحاني، أن يستغرب ويسأل نفسه، عما إذا كانت هذه النوايا ممكنة التحقيق، لاسيما أن الواقع يشهد على وجود فشل واضح في تنظيم عملية تعليم اللغات الأم للناطقين بغير الفارسية في مدارس البلاد. بيد أن هذه التعهدات الكلامية أعطت ثمارها وأثبتت فاعليتها.
ففي المحافظات التي تشكل فيها هذه الشعوب الأكثرية السكانية، كان عدد الناخبين الذين صوتوا لصالح روحاني أعلى من عدد الأصوات، التي حصل عليها ــ في المتوسط ــ على مستوى البلاد ككل. ومع أن العام الدراسي الجديد قد بدأ فعلاً، إلا أن الأمر البين هو أنه لا توجد أية بادرة تشير إلى تدريس التلاميذ لغتهم الأم أو تشير إلى وجود خطة لتنفيذ هذا الأمر، فهذا أمر طواه النسيان وما عاد أحد يسمع عنه شيئاً ذا بال. والحق كل الحق مع الخبراء، حين ينبهون إلى عدم وجود الكتب المدرسية والمعلمين، القادرين على تنفيذ هذه المهمة الجليلة. كما لا يجدي نفعاً ها هنا، الاستغراب من السبب الذي حال دون اتخاذ الخطوات الضرورية، وتنفيذ الشروط المناسبة، لتحقيق هذا الهدف الدستوري، برغم انقضاء خمسة وثلاثين عاماً، على التصديق على الدستور. وإذا ما لفت المرء انتباه المسؤولين، إلى أن هذه اللغات يجري تدريسها، في الدول المجاورة، فإن جوابهم هو، أن الواجب يقتضي، تحاشي انتقال النزعات الانفصالية، من هذه البلدان إلى إيران. وهكذا، يتردد على أسماعنا مرة أخرى الفزع من النزعات الانفصالية.
الفزع من جرثومة النزعات الانفصالية القادمة من وراء الحدود
وأخيراً، لقد حقق أكراد العراق، الهدف الذي كانوا يصبون إليه، على مدى زمن طويل. فإقليم كردستان يتمتع بمزايا الحكم الذاتي، وباتت اللغة الأم تُدرس في المدارس. وفي تركيا، حيث اندلعت، في سابق الزمن، وعلى مدى عقود كثيرة من الزمن حروب وصراعات لا نهاية، صارت اللغة الكردية الأم مادة اختيارية، منذ العام 2013.
والملاحظ هو أن اللغات العربية والآذرية والتركمانية تُدرس منذ سنوات كثيرة في مدارس البلدان المجاورة. إن الإيرانيين، الذين يفضلون استمرار النقص في الكتب المدرسية، والكادر التدريسي المتخصص في هذه اللغات، لا لشيء إلا لأنهم يتهيبون، من اتخاذ خطوات جادة، للعمل مع هذه البلدان، يخشون أن تنتقل النزعات الانفصالية إلى إيران، نعم إن هؤلاء الإيرانيين إما تنقصهم الثقة بالنفس، أو إنهم يقرؤون التاريخ بنحو معكوس مصرين على السير إلى الخلف، وضد التيار. على صعيد آخر، أي بلد من هذه البلدان تسوده الديمقراطية، ويمكن أن يشكل محور جذب، يحفز جزءاً من إيران على الانضمام إليه والخضوع لحكومته؟ أضف إلى هذا أن أجزاء من هذه البلدان كانت جزءاً من إيران في سابق الزمن، أي من قبل أن يستولي عليها العثمانيون والروس. وبهذا المعنى، فلو كانت هناك تطلعات للانفصال و„الالتحاق“ بدولة أخرى، وهو أمر مستبعد بكل تأكيد، فإن الأمر الأكثر احتمالاً هو أن تتطلع هذه الأطراف إلى الانضمام إلى إيران ثانية. وغني عن البيان، أننا ها هنا إزاء تصورات ما عادت واقعية، ففي عالمنا الراهن ما عاد تغيير الحدود، من طرف واحد، أمراً وارداً أصلاً. إننا نعيش في عصر، يشهد تعميق التلاحم، بين دول الاتحاد الأوروبي، وسعي هذه الدول الدؤوب لتوحيد سياساتها الخارجية والاقتصادية والثقافية، من غير التفكير بتغيير الحدود الوطنية. وهكذا وفي عصرنا الراهن، على وجه الخصوص، بات الحديث، عن تغيير الحدود الخارجية، أمرا مستحيلاً، وغير منطقي.
إن الحديث عن تغيير الحدود ذريعة لا غير. أما أولئك الذين لا يزالون يخشون تغيير الحدود، لا يسعنا إلا أن ننصحهم بأن يأخذوا بالاعتبار أن الثقافة في أفغانستان لا تزال حية، برغم ما شهدته البلاد من حروب أهلية دامية دامت عقودا كثيرة من الزمن وحملات غزو مختلفة تعرضت لها على مر السنين، نعم إن الثقافة في أفغانستان لا تزال حية بفضل الكتب التي جاءتها من إيران. فلو لم تحصل أفغانستان على هذا الغذاء الفكري، لكانت هذه الثقافة الجديرة بالاحترام قد انهارت بكل تأكيد. وما هو الأمر الذي يمنع إيران من أن تستورد المؤلفات المكتوبة بالعربية وبالتركية وبالتركمانية والبلوشية من خارج الحدود أيضاً، معززة بذلك التنوع والتعددية في المجالات اللغوية والأدبية؟ هل هناك سبب منطقي يحتم على البلاد الاستغناء عن هذا الرأسمال الغزير؟ ولو كان المسلمون الأوائل قد أشاحوا بوجوههم، في اللقاء الذي جمعهم بالثقافة الإغريقية والإيرانية والسورية والمصرية والهندية، لما كان بوسعهم، بكل تأكيد، أن ينجبوا مفكرين عظاماً من قبيل الكندي والفارابي وابن سينا والرازي وابن خلدون وابن رشد.
منوتشهر أمير بور
ترجمة: عدنان عباس
حقوق النشر: معهد غوته - مجلة فكر وفن
منوتشهر أمير بور هو مشرف على الطبعة الفارسية من مجلة "فكر وفن".