العراقيون يدفنون إرث الحاكم الأمريكي بريمر
انتخب العراقيون قوائم علمانية وليبرالية ووطنية. وعلى الرغم من أنَّ نسبة المقترعين الذين أدلوا بأصواتهم قد بلغت 44,5 في المائة فقط من بين الناخبين العراقيين البالغ عددهم أكثر من اثنين وعشرين مليون ناخب عراقي، ولكن ربَّما يكون هؤلاء الناخبون قد أنجزوا لبلاد الرافدين شيئًا غير مسبوق. فمنذ نحو خمسة عشر عامًا يسيطر على مصير العراق تحالفٌ شيعي متشدِّد دينيًا، ويتم تقسيم المناصب والوظائف الحكومية بحسب مبدأ المحاصصة والتمثيل النسبي على كلّ واحدة من المجموعات الشعبية. لكن هذا انتهى الآن. فمع الانتخابات التشريعية الحالية تم دفن إرث الحاكم الأمريكي بول بريمر، الذي أدخل نظام المحاصصة والتمثيل النسبي إلى العراق. الفائز في الانتخابات العراقية حركة شعبية، تحالف جماهيري مكوَّن من ستة أحزاب وجماعات مختلفة، يجمع محافظين [متدينين] مثل رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر و[يساريين مثل] الحزب الشيوعي تحت اسم قائمة "سائرون" ويُوَحِّد ممثِّلين عن جميع المجموعات الشعبية في العراق. منذ الآن أصبحت حقبة العراقيين الجديدة، التي تقسِّم الحياة إلى ما قبل وما بعد "داعش" - أي ميليشيا تنظيم "الدولة الإسلامية" الإرهابية في العراق - مهمةً من الناحية السياسية أيضًا، بعد أن فازت تحالفات وقوائم جديدة في الانتخابات، ودخل أشخاصٌ جدد إلى البرلمان في بغداد، ولم يتم انتخاب القدماء.
المتشدِّدون، مثل النائب الذي كان يريد فرض حظر عام على الكحول في العراق وقد قدَّم من أجل ذلك مشروعي قانونين، أو النائبة التي كانت ترى أنَّ تزويج الفتيات الصغيرات دون سنّ الرابعة عشرة أمر طبيعي تمامًا، لم يعودوا ممثَّلين في البرلمان العراقي الجديد. لم يبقَ سوى القليل فقط من الوجوه القديمة وعلى العموم فإنَّ الملصقات الانتخابية التي لا تُعَد ولا تحصى والمعلقة في الغالب بعضها فوق بعض في العاصمة بغداد، لا تظهر سوى ما ندر من الوجوه القديمة. وتقريبًا لا يشاهد المرء - باستثناء رئيس الوزراء حيدر العبادي وسلفه نوري المالكي - إلَّا مرشَّحين ومرشَّحات جدد، تنافسوا على واحد من الثلاثمائة وتسعة وثلاثين مقعدًا في مجلس النوَّاب. كما توجد في العراق كوتا نسائية، يتعيَّن بموجبها أن يكون ربع النوَّاب من النساء. ووفقًا لذلك كانت صورة الشارع متعدِّدة الألوان خلال الحملة الانتخابية. وقد أكَّد الناخبون في الواقع هذا الاتِّجاه الملحوظ. وقد ساورت الناخبين أيضًا حالة من الشكّ، فقبل أربعة أعوام قيل لهم إنَّ العراق سيدير ظهره للأحزاب الدينية والتحالفات العرقية. ثم جاء تنظيم "الدولة الإسلامية" وأصبح كلُّ شيء أكثر تطرفًا. لكن الآن تم تحقيق تقدُّم نحو بدايات سياسية جديدة. لقد كان المشهد الحزبي مختلطًا تمامًا في مرحلة التحضير للانتخابات. انهار التحالف الشيعي الديني، وانهارت أيضًا الكتلة الكردية، ولم يعد لدى السُّنة أي حزب أو تحالف وباتوا موزَّعين على جميع القوائم. وحتى أنَّ رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي وسلفه نوري المالكي، اللذين كانا في السابق أعضاءً في "حزب الدعوة" ذي الطابع الديني المتشدِّد، ترشحا في قائمتين مختلفتين. وكان من الواضح أنَّ هناك تصويتًا ضدَّ تقسيم السلطة بحسب الخطوط العرقية والدينية. وقد حدث هذا أيضًا بعد الاقتراع. ضدَّ المحسوبية والفساد تحوَّلت مكافحة الفساد المستشري إلى الموضوع الرئيسي في الحملة الانتخابية. وبما أنَّ جميع التحالفات والقوائم السابقة لها علاقة بالفساد، فقد صوَّت الناخبون لصالح قوائم جديدة "سمعتها نظيفة". وقد بدا لهم أنَّ قائمة "سائرون" هي القائمة الأكثر أصالة. نشأت قائمة سائرون نتيجة تظاهرات الجمعة عام 2015 و2016، عندما كان الناس يتظاهرون من أجل زيادة الكهرباء وتحسين نوعية المياه، وفي وقت لاحق من أجل الإصلاحات وإنهاء الفساد، وأصبحت وسيلة المجتمع المدني.
ترأس مقتدى الصدر هذه الحركة، وقام بحلّ حزبه القديم وأجبر الوزراء الفاسدين على الاستقالة من مناصبهم، وبات يدعو لتجديد البلاد. وقد أكسبه هذا الكثير من القبول والاستحسان لدى جميع فئات الشعب في العراق. لا يزال النائب حامد المطلك واحدًا من بين النوَّاب القدماء، الذين أعيد انتخابهم الآن. لقد انضمّ هذا النائب السُّنِّي المنحدر من محافظة الأنبار شمال غرب بغداد إلى ائتلاف "الوطنية" بقيادة إياد علاوي، وهو أوَّل رئيس وزراء في مجلس الحكم الانتقالي بعد غزو القوَّات الأمريكية للعراق في عام 2003. وإياد علاوي نفسه شيعي، ولكن كان لديه دائمًا في صفوفه حلفاء من السُنة والمسيحيين وحتى من بعض الأكراد. لكن في مراحل السياسة الطائفية برئاسة رئيس الوزراء نوري المالكي، الذي يعتبره الكثيرون في العراق الشخص المسؤول عن دخول داعش، لم يكن لدى إياد علاوي أي فرصة. أمَّا الآن فمن الممكن أن يشارك في تشكيل الحكومة المستقبلية. يقول حامد المطلك مقيِّمًا آخر التطوُّرات في المشهد السياسي العراقي: "نحن السُّنة لم يعد يوجد لدينا حزب خاص، ولكننا موجودون في كلِّ مكان". ومع ذلك فإنَّ ما يقلقه أكثر من تشتُّت السُّنة ليس فوز مقتدى الصدر وقائمته "سائرون"، بل التحالف الذي احتل المرتبة الثالثة في الانتخابات: "الفتح". خطر أفراد الميليشيات الشيعية هذه القائمة - تمامًا مثل "سائرون" - جديدة أيضًا على الساحة السياسية، ولم يكن من الممكن تصوُّرها من دون تنظيم داعش في العراق. فهي مكوَّنة من أعضاء الميليشيات الشيعية، المعروفة مجتمعة باسم هيئة "الحشد الشعبي"، والتي كانت تقاتل بالتعاون مع "فيلق القدس" الإيراني ضدَّ تنظيم "الدولة الإسلامية" وقد سيطرت على سبيل المثال على محافظة تكريت، مسقط رأس صدام حسين. لعب "الحشد الشعبي" دورًا مهمًا في الموصل أيضًا. يرى السياسي حامد المطلك أنَّ هذا الوضع خطير للغاية. بعد القضاء في أواخر العام الماضي 2017 على "الخلافة" المعلنة من قبل الجهاديين، أقرّ البرلمان العراقي القديم قانونًا يعرف باسم قانون "الحشد"، ينصُّ على أنَّ تكون هذه الميليشيات الشيعية البالغ عدد أفرادها نحو مائة ألف عنصر "تشكيلًا يتمتَّع بالشخصية المعنوية ويُعَدُّ جزءًا من القوَّات المسلحة العراقية ويرتبط بالقائد العام للقوَّات المسلحة". لقد صوَّت حامد المطلك ضدَّ هذا القانون. وحول ذلك يقول حامد المطلك: "أردت أن يكون الحشد الشعبي جزءًا من القوَّات المسلحة العادية وألَّا يحتل مكانة خاصة". وعندما دخل قادة الحشد الشعبي المعترك السياسي، عارضهم رئيس الحكومة حيدر العبادي. ولكن على الرغم من معارضته فقد حدث ذلك. [embed:render:embedded:node:30956] ومن جانبة كان رئيس أكبر ميليشيا منضوية تحت مظلة هيئة الحشد الشعب، أي منظمة "بدر"، هادي العامري، يرى نفسه خليفة لحيدر العبادي. وضمن هذا السياق يقول حامد المطلك محذِّرًا: "عندما يحصل أفراد الميليشيات على حصانة بموجب وضعهم في مجلس النوَّاب، فعندئذ يمكنهم أن يفعلوا ما يريدون". ويخشى من تعرُّض السُّنة للمزيد من التمييز، الموجود بالفعل بحسب قوله، ولكنه سيزداد بسبب الوضع السياسي. يقول حامد المطلك لقد باتت العقوبات الجماعية بحقِّ قرى كاملة، كان فيها بعض السكَّان المتعاطفين مع تنظيم "الدولة الإسلامية" أو المنخرطين في هذه الميليشيا الإرهابية، جزءًا من الحياة اليومية. ويضيف أنَّ السُّنة يُعاملون بشكل مختلف عن الشيعة والأكراد والمسيحيين. وأنَّ ممتلكاتهم باتت عرضة للمُصادرة أو التدمير أو السلب والنهب. أفراد ميليشيات الـ"حشد الشعبي" الشيعية مكروهين لدى السُّنة. يعتمد مدى تأثير تحالف "الفتح" داخل الحكومة المستقبلية على تشكيل الائتلاف الحكومي. وذلك لأنَّ مقتدى الصدر وتحالفه "سائرون" لا يمكنهم أن يحكموا بمفردهم. وعلى أية حال فإنَّ حامد المطلك لا يرى في تحالف الفتح شريكًا محتملًا في حكومة ائتلافية. ويقول إنَّ قائمة الفتح "هي مشروع مضاد لسائرون". ومع تحالف "الفتح" ستجلس طهران تلقائيًا مع العراقيين على طاولة مجلس الوزراء. وهذا بالذات ما يريد تجنُّبه مقتدى الصدر. ولكن إن كان سينجح حقًا في فعل ذلك، فهذا سؤال آخر. برغيت سفينسون ترجمة: رائد الباشحقوق النشر: موقع قنطرة 2018ar.Qantara.de