أبو بكر الرازي فيلسوفاً
لا تعود الشهرة الواسعة التي نالها، أبو بكر محمد بن زكريا الرازي، في الأوساط العربية والإسلامية والأوروبية، إلى كونه أحد أهم فلاسفة عصره، بل إلى أنه عُرف بوصفه أحد أهم الأطباء في التاريخ القديم، حيث جرى إبخاس حقه كفيلسوف بالنظر إلى اعتبارات عديدة، تخص أفكاره وأطروحاته الفلسفية، التي اتسمت بالجرأة والنقد لمعتقدات ومدارس ومذاهب معاصريه، ودخوله في مناظرات وسجالات مع المتكلمين والإسماعيليين، واختلافه مع الفلاسفة المشائين، فضلاً عن أنه أثار حفيظة علماء الدين، الأمر الذي وسع جبهة خصومه ومنتقديه، سواء من طرف أهل الدين أم من طرف أهل الفلسفة، الذين عمدوا إلى الرد على أطروحاته، والانتقاص منه كفيلسوف، وسار على نهجهم معظم مؤرخي الفلسفة ودارسيها في العالم الإسلامي.
بالمقابل، يعتبر بعض المؤرخين والمفكرين الرازي بأنه من أعظم أعمدة الفلسفة الإسلامية، الذين ساهموا في تطور الفلسفة والفكر، حيث وصفه ابن النديم في الفهرست بأنه أوحد دهره، وفريد عصره، وتمكن من جمع المعرفة بعلوم القدماء لاسيما الطب والكيمياء، فيما قال عنه "ريتشارد وولزر"، أحد أهم مؤرخي الفلسفة العربية الإسلامية، إننا "نشعر عند قراءة كل سطر كتبه الرازي أننا أمام فكر عال، ورجل يعرف قدره الخاص دون أن يؤدي به ذلك إلى الغرور، وهو لا يحسب نفسه أدنى مستوى لا في الفلسفة ولا في الطب"، لكن المؤسف أنه لم يصلنا إلا القليل من مؤلفاته وكتبه، التي بلغ عددها، حسبما قال بنفسه، قرابة مائتي كتاب ومقال في مواضيع مختلفة في العلوم والفلسفة وعلوم التوحيد والإلهيات والحكمة، فيما أحصى له البيروني مئة وأربعة وثمانون كتاباً في الفلسفة والمنطق والإلهيات والطب والكيمياء والرياضيات والفنون وغيرها.
ويُرجح أن الرازي ولد في مدينة "الري"، القريبة من طهران، عام 250 هجري وتوفي في عام 313 هجري. ودرس الطب في بغداد، وعاش حياته في فترة تقاسم فيه الاشتغال الفلسفي كل من فلاسفة المشائية والافلاطونية الجديدة والمذهب الذري، وبتأثير هذه المدارس الثلاث الكبرى بدأ التصوف بالجنوح إلى التفلسف، فيما سعى الرازي وسط هذه الفسحات إلى إشادة فلسفته المستقلة، بالاستناد إلى مجمل الموروث الفلسفي، لكن من دون التمترس أو التقيد بمدرسة بعينها. وقاده طريق التفلسف إلى مقامات فلسفة مغايرة للاتجاهات والمدارس السائدة، طاولت فلسفة الطبيعة والمعرفة والميتافيزيقا والنبوة والربوبية وسواها.
واتسم العصر الذي عاشه الرازي بالإعلاء من قيمة العلم والعلماء والفلاسفة والمفكرين، وترجمت فيه كتب ومؤلفات فلاسفة اليونان القدماء وعلمائهم، ولعب فلاسفة ومترجمون مسلمون كثر دوراً بارزاً في ترجمة وشرح مختلف اتجاهات ومدارس الفلسفة اليونانية، وحققوا إضافات كثيرة في جميع ميادين المعرفة الطبيعية والإنسانية المعروفة في عصرهم. وأسهم كل ذلك في تشكيل الملامح الرئيسة لشخصية أبي بكر الرازي، ونظره العقلاني العميق، وثقافته الموسوعية، وتفكيره النقدي الذي لم يتوان عن استخدامه سلاحاً في وجه كافة أشكال السلطة الدنيوية والدينية.
واختار الرازي طريقه الخاص والمستقل في التفكير والعيش، سمّاه "السيرة الفلسفية"، تيمناً بسيرة أستاذه سقراط، التي "سار بها وعليها أفاضل الفلاسفة"، و"هي بالقول المجمل معاملة النّاس بالعدل والأخذ عليهم من بعد ذلك بالفضل واستشعار العفة والرَّحمة والنُّصح للكل والاجتهاد في نفع الكل، إلاَّ من بدأ منهم بالجور والظُّلم وسعي في إفساد السياسة"، لكن خصومه أنكروها عليه، واتهموه بمخالطة العوام، وبالخروج عن الاعتزال والتقشف، لذلك طالبهم في أكثر من مقام بالإنصاف له، لأن سيرته الفلسفية لا تنافي نموذج الفيلسوف المثالي، التي دافع عنها بالقول: "لم أدخل أبداً في خدمة ملك كرجل عسكري أو رجل دولة وفي أي محادثة لي مع ملك لم أتجاوز تخصصي في الطب ودوري في تقديم النُّصح. إن من رآني يعرف أني أبداً لم أُكثِر من طعام وشراب ولم أنحرف على طريقي. كل من يعرفني من الناس يعلمون تمام العلم أني كرست حياتي منذ شبابي للعلم فقط. صبري ومثابرتي في السعي وراء العلم جعلتني أصل لدرجة كتبت فيها عن موضوع علمي واحد فقط ما تجاوز العشرين ألف صفحة من الحجم الصغير وجعلني أمضي خمسة عشر عاماً من حياتي عاكفا ليلاً ونهاراً على كتابة موسوعتي الطبية (الحاوي) وفي تلك المدة فقدت نور عيني وعانت يداي من الشلل وها أنا الآن محروم من القراءة والكتابة ولكني لم أستسلم وأستعين بأصدقاء لي للقيام بذلك."
ونظر الرازي في معنى السيرة الفاضلة التي كان يتوخاها، وهي تحصيل السعادة الأخروية التي تتوج حياة دنيوية مليئة بالعدل والعلم، بعيداً عن الشهوات الجسمانية، وعليه وضع حدّ السيرة الفلسفية الفاضلة في عدم النزول عن الحدّ الأسفل من نيل الملذات، وفي عدم مجاوزة الحد الأعلى منها، وهو معيار يُستنتج بالعقل المحض لديه، وبالتالي توجب عليه توجيه الشكر إلى "واهب العقل وفارج الغم وكاشف الهم".
ولم يتردد في الاعتزاز بقيم العقل الذي يدعو إلى العلم والعدل، بوصفه أنسب طريقة من أجل بلوغ السيرة الحسنة والحكمة والفضيلة. والأمر لا يقتصر على شؤون الدنيا التي تنال بالاجتهاد والتفكير المادي، بل يطاول قضايا الخلاص الأخروي أيضاً، بحيث يكون العقل هادياً إلى ذلك الخلاص المنشود، عكس الطبيعة والهوى المفضيان إلى الهلاك، انطلاقاً من أن تحكيم العقل له دلالته في مختلف القضايا المتعلقة بالغيب والبعث والحساب، كونها تتصل بالنص عن طريق الوحي والنبوة، في حين أن حدود العقل فيها محصورة في المنافع الدنيوية، وأراد الرازي تقنينها بسلطة العقل، وخاصة فيما يتعلق بالملذات والمباحات، التي تخص حياة الناس ومعيشتهم، بحيث "يكون ذلك كله على قصد وسنن وطريق ومذهب عقلي عدلي لا يتعدى ولا يجار عنه"، وبالتالي، يسلك السائر في درب النجاة محاكياً سيرته العليا في أخلاق الرحمة والعدل والعلم، وهو أسمى ما يرمو إليه الفيلسوف المثالي بحسب تصور الرازي، الذي كان يحذوه التطلع إلى مشابهة الواحد وامتثال أخلاقه مباشرة دون واسطة أحد، بحيث تتجسد الفلسفة، بالنسبة إلى الفيلسوف، في "التشبه بالله عزّ وجلّ بقدر ما في طاقة الإنسان، وهذه جملة السيرة الفلسفية".
واتبع الرازي نهجاً فلسفياً دفعه إلى تقديس العقل وتحكيمه في مختلف المسائل والقضايا، وخاصة تلك المتعلقة بالغيب والبعث والحساب، ورح يحشد حججه العقلية التي تعزز فرضية العدل بين البشر وتساوي مكانتهم بالنسبة إلى خالقهم، لأن الله منحهم نفس المقام، دون تمييز لقوم دون آخرين، وقاده ذلك إلى نقد الأديان والنبوة، عبر اسقاط وساطة الوحي، ودعوة البشر إلى البحث المستقل عن الخلاص الشخصي، كمقدمة لديانة الضمير الفردي، ودونما حاجة إلى شرائع الأنبياء، وذلك كي يصبح للعقل مذهباً وسيرة في التفكير والنظر، يستقل به عن المدركات الأخرى التي يرد فيها الوحي بالدرجة الأولى.
وتطرق الرازي في فلسفته إلى موضوع كفاية العقل في معرفة المصالح والمفاسد، دون إرشاد سابق من الوحي، وراح يؤكد على رد الاعتبار في الأمور إلى دليل العقل وحده، واعتماده في الحكم عليها سلباً أو إيجاباً، معللاً ذلك بالقول: "إن البارئ -عزّ اسمه- إنما أعطانا العقل وحبانا به لننال ونبلغ به من المنافع العاجلة والآجلة غاية ما في جوهر مثلنا نيله وبلوغه، وإذا كان هذا مقداره ومحله وخطره وجلالته فحقيق علينا أن لا نحطه عن رتبته ولا ننزله عن درجته، ولا نجعله وهو الحاكم محكوما عليه، ولا هو المتبوع تابعاً". وبذلك تجاوز الرازي ما عُرف عن المعتزلة في تقديم العقل على النقل عند التعارض، وفي تخصيص العقل بالتقبيح والتحسين في غياب الشرع، وأبعد كثيراً عما كان يرمي إليه الكلاميون، بغية وصل المعرفة والحكمة من الإله إلى البشر مباشرة، من دون وسائط نبوية، وذلك كي يصل الأمر به إلى نظريته الخاصة في الربوبية.
لقد رفض الرازي مبدأ الزعامة في مسائل المعرفة، وبوصفه فيلسوفاً ربط قضايا المعرفة بموضوع الاجتهاد في الفلسفة، وذلك في إطار سعيه إلى إشادة منظومته الفلسفية، التي تناولت النظر في مسائل شتى، وطاولت طبيعة الوجود والعالم الذي يحتويه، حيث أرجع العالم إلى مكونات خمسة أبدية، وهي الباري (الله)، والنفس الكلية (الروح)، والهيولى المطلقة (المادة)، والمكان المطلق (الخلاء أو الفراغ)، والدهر (الزمان). وهذه المكونات الخمسة وجدت متزامنة كونها تشترك جميعها في الأزلية.
والقدماء الخمسة هي مطلقات، يتميز فيها الباري بأنه عقل تام، محض، وتفيض منه الحياة مثلما يفيض النور من الشمس. ووضع الرازي نظرية عن الفعل الإلهي ودوره في خلق العالم، والباري فيها كائن قبل ظهور العالم، وبما يجعل المطلقات الأربعة الأخرى تستمد مطلقيتها من عدم التركيب، لأن انتقال الباري من عدم إرادة خلق العالم إلى إرادة خلقه يقتضي باعثاً عليه، وهذا التغير في الإرادة لا يصح أن يكون عبثاً، وحصل هذا الباعث من المطلق الثاني الذي يشارك الباري في الفعل والحياة وهو النفس.
وتحضر النفس بوصفها جوهراً حيّاً، لكنها تتصف بأنها جاهلة، خلافاً للباري. وبسبب جهلها تعلقت بالهيولى، وهي أيضاً أزلية. وقد خلق الباري العالم من أجل أن تتمتع النفس بالشهوات التي طمحت إليها. أما الهيولى فهي متقومة بالباري وبالنفس معاً ولا بد أن تكون مساوقة الوجود لهما. وبما أن العالم، كما هو مشاهد مصنوعاً من الهيولى، بالتركيب لا بالإبداع، فإن الهيولى سابقة عليه، أي أنها أزلية. ويحضر الخلاء كضرورة يقتضيها تركب الهيولى، بمعنى أن وجود الخلاء لازم لوجود الهيولى المطلقة، أي المادة، وهو قديم أيضاً، بينما فرّق الرازي بين الزمان المطلق والجزئي، وآثر استخدام مفهوم "الدهر"، بوصفه الزمان المتطاول.
ويرى هادي العلوي أن مطلقات الرازي الخمس تشترك في الأزلية واللا تناهي، وفي كونها فير متحركة في البدء. وينفرد الباري بالعقل، ويشترك مع النفس في كونهما حييّن فاعلين، فيما تختص الهيولى بكونها منفعلة. أما الزمان والمكان فيشتركان في عدم الحياة والعقل وعدم الفعل والانفعال.
ويعتقد الرازي أن الله لم يخلق العالم من عدم، بل قام بإعادة ترتيب العالم من المكونات الاربعة الأخرى التي وجدت بصورة مسبقة، وعمد إلى إعادة تشكيل الروح ومنحها خصائص فيزيائية بما يتناسب مع رغبته، ثم منحها لقدرة على التفكير لتجد طريقها نحو العبودية والحرية وتكون قادرة على إدراك المبادئ الأربعة الأخرى أي الإله والفضاء والمادة والزمن. وبنى تصوره لخلق العالم عبر الاستاد إلى مفهوم الخلق بوصفه تصويراً للمادة العديمة الصورة حسبما اعتقد أفلاطون، فضلاً عن أن فكرة الفيض اجترحتها الأفلاطونية المحدثة، وعن تغلغل العناصر العرفانية إلى فلسفة الرازي الميتافيزيقية، بغية تفسير تكون العالم عبر اتحاد النفس بالهيولى، وبفعل الخلق، حيث يتجلى مغزى الخلق عنده في إعطاء الحركة طابعاً منتظماً لتكوين العالم.
واعتقد الرازي أن الله ساعد النفس بخلق العالم، وأحدث فيه صوراً قوية مديدة العمر، وذلك من أجل حصول النفس في تلك الصور على اللذات الجسمانية، وعليه خلق أو بالأحرى أحدث الله الإنسان، وأرسل إليه العقل في العالم من جوهر إلهيته، بغية إيقاظ النفس من نومها في هيكل الإنسان، وباتت النفس تتذكر عالمها الحقيقي بفضل العقل، كما باتت تدرك أيضاً أن هذا العالم المادي هو عالم الآلام، وعليه جعل الرازي نهاية العالم تحدث كنتيجة لانفصال النفس الكلية عن الهيولى، فيما يتبدى الانفصال كثمرة إدراك النفس لآلام العالم المادي، وتطهرها التدريجي في جميع رحلاتها الدنيوية.
ويحضر أبو بكر الرازي بوصفه فيلسوفاً، أشاد منظومة فلسفية وعلمية، وتميزت فلسفته بجرأة وروح نقدية عالية، وطاول نهجه النقدي فلاسفة كثر من سابقيه، وخاصة أرسطو، الذي خرج على كثير من افتراضاته الطبيعية والميتافيزيقية، وطاول كذلك الأديان ومحاولات التوفيق بين الفلسفة والدين. كما تميزت فلسفته بنزعة إنسانية واضحة، شكلت ميراث منهجه الفلسفي، لكن سيرته الفلسفية والعلمية كانت مثار نقاش فلسفي ولاهوتي كبيرين، بحيث ظهر فيها الرازي قامة فلسفية قلقة، جراء أسئلتها الجريئة، القوية في حدتها وجدّتها، والتي خالف بها سابقين عليه ومعاصري في نِدية واضحة، بحيث "وضع الرازي نفسه في مقابل أسلافه، فلم يتصرف معهم كشارح أو مدرس فلسفة"، بل كناقد جريء ومستدرك ومجتهد، وظل يعتقد طوال حياته أن الفلسفة، فضلاً عن أنها طريقاً للتشبه بالإله في مرحلتها العليا يسعى الفيلسوف إلى بلوغها، هي أيضاً، بالنسبة إلى الناس المتساوون في الهمم والعقول، طريقاً للخلاص الإنساني من شرور العالم، والذي قد يفضي إلى الخلاص من العالم نفسه.