الشعب يريد حكومة وحدة وطنية قادرة على إنهاء الانقسام في ليبيا
"الشعب يريد حكومة وحدة وطنية!" - هكذا كان يهتف المتظاهرون بشكل جماعي في ساحة الشهداء في العاصمة الليبية طرابلس بعد ظهر يوم جمعة في شهر نيسان/أبريل 2016. لم يكن عدد هؤلاء المتظاهرين كبيرًا، بيد أنَّ وجودهم يُعدّ أمرًا مهمًا، وذلك لأنَّ الصراع على السلطة في العاصمة الليبية يدور بشكل صامت.
"نحن ندعم (رئيس الوزراء) فايز السراج ليس لأنَّنا ننتطر الكثير منه"، مثلما قال أحد المتظاهرين: "ولكن حقيقة كونه سياسيًا وصل حديثًا إلى رئاسة حكومة الوحدة الوطنية وكونه مدعمومًا من الغرب، فهذا سبب كافٍ من أجل تأييده".
منذ اندلاع الحرب الأهلية في ليبيا قبل عامين اضطر معظم الليبيين إلى تقليص توقعاتهم السياسية بشكل كبير. والخطابات الحماسية حول الثورة والديمقراطية الخاصة بالسياسيين المنقسمين لم تعد تفيد في أي شيء تقريبًا، لأنَّ المواطن العادي لديه اهتمامات أكثر جوهريةً.
الهروب إلى المنفى
وبالإضافة إلى الوضع الأمني السيء تسود في ليبيا أزمة سيولة حادة مع انخفاض قيمة العملة المحلية. ولذلك فإنَّ الكثيرين باتوا يريدون أن يُجَرِّبوا حظَّهم في الخارج، إذا كانوا لا يزالون قادرين على فعل ذلك. ولكن في حين كان بوسع المواطن الليبي في السابق أن يسافر من دون أية صعوبات نسبيًا، أصبحت الحرب الأهلية الليبية وأزمة اللاجئين في أوروبا تُعَقِّدان الآن الحصول على تأشيرة شنغن للسفر.
وحتى أنَّ بعض الدول في المنطقة - مثل مصر وتركيا - قد فرضت قيودًا صارمة على دخول الليبيين إلى أراضيها. كما أنَّ الحدود البرية إلى تونس كثيرًا ما يتم إغلاقها، وعلى أية حال فإنَّ الطريق الوحيدة المؤدِّية بشكل مباشر إلى هناك تم إغلاقها في موقع قريب من طرابلس بسبب نزاع محلي. ولذلك فقد بات يتذكَّر المرء في ليبيا في هذه الأيَّام عزلة البلاد في فترة التسعينيات، عندما تم فرض عقوبات دولية ضدَّ نظام القذافي، ولم يكن لدى الأهالي تقريبًا أي اتِّصال مع العالم الخارجي.
أمَّا الرحلات الجوية القليلة من طرابلس فهي تُقلع من مطار معيتيقة العسكري، الذي حلَّ محلَّ مطار العاصمة الدولي المدمَّر منذ عام 2014 بسبب المعارك. وبحسب مسار الرحلة يتعيَّن على الطيَّارين أن يتوقَّفوا في شرق ليبيا، من أجل ختم جوازات سفر المسافرين بختم الدخول المحلي، وذلك لأنَّ الحكومة الانتقالية في مدينة البيضاء في شرق ليبيا تعتبر نفسها السلطة الشرعية الوحيدة في ليبيا.
حكومة وحدة وطنية محاصرة
ومن جانبه دعا البرلمان المستقر في الشرق (طبرق) - أي مجلس النوَّاب المُنتخب في عام 2014، والذي من المقرَّر بحسب اتِّفاقية السلام الموقَّعة في شهر كانون الأوَّل/ديسمبر 2015 أن يستمر في ممارسة مهامه - إلى عقد عشرات من الجلسات للتصويت على حكومة الوحدة الوطنية المستقبلية. غير أنَّ جميع المحاولات الرامية إلى إجراء الانتخابات قد انتهت في فوضى حتى الآن.
سواء من خلال عمليات إغلاق قاعة الاجتماعات، أو من خلال اختفاء سجلات الحضور، أو الهجومات اللفظية والجسدية على البرلمانيين أو حتى من خلال غياب رئيس مجلس النوَّاب: فإنَّ معارضي حكومة الوحدة الوطنية يحاولون وبجميع الوسائل منع التصويت على هذه الحكومة، وذلك لأنَّهم يخشون من فقدانهم لها. وهذا ما يدَّعيه على الأقل أنصار حكومة الوحدة، الذين أصدروا في يوم الخميس الماضي وللمرة الثانية منذ شهر شباط/فبراير 2016 بيانًا يفيد بأنَّ صوتهم يجب أن يُعترف به باعتباره ساري المفعول رسميًا. وهم يزعمون أنَّهم يشكِّلون الأغلبية.
صحيح أنَّ مثل هذا الاعتراف يتعارض مع اتِّفاقية السلام، التي يتعيَّن بموجبها التصويت على الحكومة، ولكن يبدو أنَّ حتى الأمم المتَّحدة أصبحت مستعدة لغض النظر عن هذه النقطة التفصيلية القانونية. ففي هذا الصدد قال على سبيل المثال الألماني مارتن كوبلر، وهو المبعوث الأممي الخاص بليبيا: "على الرغم من أنَّه ليس قرارًا رسميًا، غير أنَّه جيِّدٌ بما فيه الكفاية وهو دليل على أنَّ الحكومة يمكن أن تبدأ عملها".
وعلى بعد أكثر من ألف كيلومتر غرب طبرق، أي في طرابلس العاصمة، لا يزال يجب نزع الكثير من العقبات الأخرى. إذ إنَّ ما يُعرف باسم المجلس الرئاسي - المكوَّن من تسعة أعضاء والذي يعتبر بمثابة جوهر اتِّفاقية السلام المعيَّن كجزء من حكومة الوحدة الوطنية - قد نقل مقره بشكل مؤقَّت إلى داخل ميناء القوَّات البحرية، ولا يكاد يجرؤ على الاقتراب خطوة من العاصمة. وذلك لأنَّ: "الوضع في طرابلس لا يزال بعيدًا عن أن يكون جيدًا، فهذه المدينة تخضع لسيطرة الـمُسَلَّحين"، مثلما يعترف أيضًا مارتن كوبلر، ويضيف أنَّ: "قوَّات الأمن النظامية تعتبر بدائية".
"حكومة الإنقاذ الوطني المخلوعة"
ولكن في الواقع إنَّ دخول المجلس إلى العاصمة يعتبر بمثابة إنجاز. في صباح يوم ثلاثين آذار/مارس 2016 تمكَّن رئيس الوزراء فايز السراج ورفاقه من الوصول عن طريق البحر على متن فرقاطة من تونس إلى طرابلس. "حكومة الإنقاذ الوطني" المعارضة كانت قد دعت قبل بضعة أيَّام من وصولهم كافة قوَّات الأمن و"الثوار" إلى الاستعداد ضدَّ "حكومة الانتداب المفروضة من قبل الغرب" وأغلقت المجال الجوي من أجل منعهم من دخول البلاد.
ولكن مع ذلك فقد تمكَّن مجلس الرئاسة من كسب أقوى المجموعات المسلحة في منطقة طرابلس إلى جانبه، وبالتالي فقد نجح في خلع "حكومة الإنقاذ الوطني" - على الأقل مؤقتًا، لأنَّ رئيسها خليفة الغويل قد أعلن بعد تراجع قصير الأمد عن أنَّه لا يريد الانسحاب.
تظهر زيارة القاعدة البحرية الخاضعة لحماية مشدَّدة إلى أي مدى لا يزال وضع أعضاء المجلس الجديد متأزمًا. "هناك أصوات معارضة، ولكن معظم الليبيين يريدون الوحدة"، مثلما أكَّد موسى الكوني، وهو أحد النوَّاب الخمسة لرئيس الوزراء فايز السراج، أثناء لقاء معه، وأضاف أنَّ: "التصويت في مجلس النوَّاب ليس سوى أمر شكلي. فقد كان يجب على المجلس أن يعترض خلال عشرة أيَّام".
وبالتالي فلا شيء يقف في طريق تولي الحكومة السلطة، بحسب تعبير موسى الكوني. والحكومة تعمل بنشاط من أجل تولي الوزارات وتحاول بالتعاون مع البنك المركزي السيطرة على الأزمة المالية. ولكن هذه العملية مُرْهِقة والسلطات غير متَّفقة على الأوامر التي يجب تطبقها الآن.
تحدي تنظيم "الدولة الإسلامية"
تتم حراسة منطقة الميناء من قبل "قوة الأمن المركزي" - وهي منظمة سلفية، كانت تؤدِّي دورها الأصلي كشرطة عيَّنت نفسها بنفسها للآداب ولمكافحة المخدرات وقد أعلنت الحرب على تنظيم "الدولة الإسلامية"، الذي انتشر في ليبيا منذ بداية عام 2015. وحول ذلك يقول موسى الكوني: "نحن بحاجة إلى المساعدة من جميع الجماعات المسلحة من أجل محاربة تنظيم الدولة الإسلامية". ويضيف أنَّ: "إصلاح الجيش ودمج المقاتلين سوف يحتاجان وقتًا طويلاً - وهذا الوقت غير متوفِّر لدينا الآن".
ما من شكِّ في أنَّ تنظيم "الدولة الإسلامية" يشكِّل خطرًا كبيرًا بالنسبة لليبيا ويشكِّل قبل كلِّ شيء تحديًا بالنسبة لحكومة الوحدة الوطنية. حيث تسيطر هذه الميليشيات الإرهابية في سرت وسط ليبيا على منطقة ساحلية تمتد لمائتين وخمسين كيلومترًا، بالإضافة إلى وجود خلاياه في أجزاء أخرى من البلاد. وعلى الرغم من أنَّ المجتمع الدولي يريد في الواقع مساعدة حكومة الوحدة الوطنية في معركتها ضدَّ تنظيم "الدولة الإسلامية"، ولكن من أجل ذلك يجب على الحكومة في طرابلس أن تحافظ على السلطة وتستعيد الوضع الأمني إلى حدّ ما على الأقل هناك.
"نحن مع حلّ الصراع سياسيًا ومع الوحدة الوطنية، من أجل التعاون في محاربة أكبر أعدائنا، أي تنظيم الدولة الإسلامية"، مثلما يقول أيضًا القائد أبو بكر فرشوح، وهو من أبناء مدينة مصراتة الساحلية المؤثِّرة، التي تقع على بعد مائتي كيلومتر شرق طرابلس. وكتيبته ("كتيبة الحلبوص") تعرَّضت كثيرًا لهجومات في الأشهر الأخيرة من قبل تنظيم "الدولة الإسلامية". وهذه الكتيبة تعتبر واحدة من عدة كتائب من مصراتة، قد وعدها فايز السراج قبل عدة أشهر بالدعم وهي تتولى حماية حكومته.
"الوضع في طرابلس هادئ، ولكن لا يمكن ضمان الأمن هناك مائة في المائة، وذلك لأنَّ كلَّ فصيل سياسي لديه أتباعه المسلحون"، مثلما قال أبو بكر فرشوح في حديث معه. وبعد يومين فقط من هذا الحديث وقع في منطقة سكنية في العاصمة تبادلٌ لإطلاق النار بين مجموعتين أمام منزل أحمد معيتيق، نائب رئيس الوزراء في حكومة الوحدة الوطنية. وكالعادة انتشرت بعد ذلك شائعات متناقضة، ولكن على الأقل لا يمكن استبعاد محاولة اختطاف فاشلة لهذا السياسي.
انقسام سياسي ثابت
لم تتمكَّن حتى الآن اتِّفاقية السلام المدعومة من قبل الأمم المتَّحدة من إنهاء الانقسامات السياسية في ليبيا. وهنا تتمثَّل نقطة الخلاف الرئيسية في دور الجيش في شرق ليبيا، حيث يقود قائده خليفة حفتر منذ عامين حربًا ضدَّ الجماعات المتطرِّفة. وأنصاره يريدون منع تنفيذ اتِّفاقية السلام في شكلها الحالي، وذلك لأنَّهم يَرون في هذه الاتِّفاقية خضوعًا "للإسلاميين" في مصراتة وفي مناطق أخرى غرب ليبيا. وهم يتهمون هؤلاء الإسلاميين بأنَّهم متواطئون مع تنظيم "الدولة الإسلامية".
ومن ناحية ثانية يرفض في غرب ليبيا المتشدِّدون داخل ما يعرف باسم تحالف "فجر ليبيا" - أي الطرف المعارض في الحرب الأهلية - التنازل عن السلطة لحكومة الوحدة، التي يزعمون أنَّها سوف تقوم أوَّلاً بجلب القوَّات الغربية إلى البلاد.
وكذلك لا يوجد أي ضمان لولاء الجماعات المسلحة. وهذه الجماعات لا تعتبر مجرَّد وكلاء لمختلف الفصائل السياسية، بل إنَّ بعضها أيضًا أطراف فاعلة مستقلة في الصراع الدائر على النفوذ والأموال العامة.
تشكِّل قبل كلِّ شيء السيطرة على العاصمة موضوع خلاف؛ وفي عام 2014 كانت العاصمة سبب الحرب الأهلية. "طالما يعمل المرء على إرضاء الميليشيات، فإنَّ هذه الميليشيات تشاركه، ولكن من الممكن أن يتغيَّر هذا بسرعة"، مثلما يقول حسن، وهو مهندس من طرابلس.
لا يهم مع مَنْ نتحدَّث أو مَنْ نسأل في شوارع العاصمة الليبية - لأنَّ الليبيين يريدون أن تتحمَّل الشرطة والجيش المسؤولية مرة أخرى. ولكن حكومة الوحدة الوطنية المعتمدة على حسن نوايا الفصائل التابعة لها سوف تحتاج الكثير من رأس المال السياسي من أجل البدء بصورة جادة في نزع سلاح المقاتلين ودمجهم.
فاليري شتوكر
ترجمة: رائد الباش