نهاية الثورة الإسلامية في إيران
كان الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه في يوليو/تموز 2015 بين إيران ومفاوضيها الدوليين بمثابة نقطة تحول واضحة في العلاقات بين الجمهورية الإسلامية والعالم الخارجي، وخاصة الولايات المتحدة. ولكن لماذا استغرق تصالح الولايات المتحدة مع ثورة آية الله روح الله الخميني في إيران وقتاً أطول من ذلك الذي استغرقه التصالح مع ثورة ماو تسي تونج في الصين؟
بطبيعة الحال، كان الخطاب الأعوج المنحرف الذي ميز ما أسماه جورج دبليو بوش بحماقة "الحرب العالمية على الإرهاب"، حيث اعتُبِرَت إيران، جنباً إلى جنب مع العراق وكوريا الشمالية، جزءاً من "محور الشر" الدولي، أحد التفسيرات للفتور الشديد الذي غَلَبَ على العلاقة بين البلدين لفترة طويلة. ونتيجة لهذ، كان المسؤولون في الولايات المتحدة ينظرون إلى أي تحرك نحو التطبيع الدبلوماسي باعتباره "استرضاء" غير مقبول.
ولكن السياسة الخارجية المتزمتة أخلاقياً التي انتهجتها إدارة بوش لم تسفر إلا عن تعزيز الموقف الذي تبنته أميركا منذ الثورة الإسلامية في إيران عام 1979. وبوسعنا أن نجد تفسيراً أكثر اكتمالاً وإقناعاً للأحداث الأخيرة في تاريخ ومسار هذه الثورة.
المتشددون...مصدِّرو الثورات
دعك من الثورة الفرنسية كنموذج: ذلك أن ما يسمى أحداث ثيرميدور، عندما أنهى المعتدلون عهد الإرهاب الذي ساد إبان حكم روبسبير، كان استثناءً لنمط الثورات الحديثة. فالنمط المعتاد الذي ساد خلال ذاكرتنا الحية هو أن يأتي المتشددون بعد المعتدلين. ففي الاتحاد السوفييتي على سبيل المثال، كان المتشددون بعد الحرب العالمية الثانية هم الذين جاهدوا لتصدير الثورة الماركسية اللينينية، وحكموا على العالم بعقود من الحرب الباردة.
وكذا كانت الحال مع إيران. فبعد وفاة الخميني في عام 1989، أصبح الرجل البراجماتي على أكبر هاشمي رفسنجاني رئيساً للبلاد، ثم خلفه محمد خاتمي الذي اتسم بعقلية إصلاحية. ولكن المتشددين عادوا إلى السلطة. فبسبب عدم فعالية برنامج خاتمي الإصلاحي، انتُخِب محمود أحمدي نجاد، الضابط الغامض في مليشيا الباسيج، عمدة لمدينة طهران في عام 2003 (بعد ذهاب 12% فقط من الناخبين في المدينة إلى صناديق الاقتراع)، ثم تمكن من إلحاق الهزيمة برفسنجاني في عام 2005 ليصبح رئيساً للبلاد.
الواقع أن أحمدي نجاد، الذي كان مخلصاً متعصباً للخميني، الإمام الأول للثورة، كان بمثابة التذكِرة للبداية الشعبوية للثورة. وكان المقصود من تعزيز سياسة نووية عدوانية تسويغ معركة الخميني ضد أمريكا "الشيطان الأكبر". وفقط عندما فقد الناخبون الصبر على انعدام كفاءة أحمدي نجاد وانتخبوا حسن روحاني في عام 2013، بات من الممكن أن نزعم أن الثورة الإسلامية قد انتهت.
تُرى هل كان بوسع أميركا أن تتجنب إهدار الفرص خلال سنوات أحمدي نجاد؟ لقد بذل أسلافه جهوداً جادة لتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة. وبتشجيع من انتصار التحالف الذي قادته الولايات المتحدة في حرب الخليج عام 1991 ضد العراق (العدو اللدود للجمهورية الإسلامية)، أرسل رفسنجاني في عام 1995 إشارات شديدة الوضوح إلى الولايات المتحدة لرغبة إيران في إعادة العلاقات الدبلوماسية. وتجاهلت إدارة كلينتون جهود رفسنجاني، وفي العام التالي أقر الكونجرس الأمريكي بالإجماع قانون العقوبات على إيران وليبيا.
لا أحد يستطيع أن ينكر أن بل كلينتون ومستشاريه كان لديهم الكثير من الأسباب للشك. فقد كان رفسنجاني رهينة ولو جزئياً على الأقل للمعارضين المتشددين الحريصين على تخريب مبادرات السياسة الخارجية بأفعال إرهابية دقيقة التوقيت في باريس، وألمانيا، والأرجنتين. ولكن كلينتون ووزيرة خارجيته مادلين أولبرايت تعاملا بجدية مع الاقتراح الذي طرحه خاتمي خليفة رفسنجاني، في الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2000 لإقامة "حوار بين الحضارات" لفتح ما أسماه "صدع في جدار عدم الثقة" بين إيران والولايات المتحدة. ولكن من المؤسف أن المرشد الأعلى الإيراني آية الله على خامنئي، أرغم رئيس البلاد ووزير خارجيتها على تجنب المصافحة المخطط لها مسبقاً مع نظيريهما الأميركيين.
خطاب "محور الشر"
وكان الأسوأ في انتظار أولئك الذين يأملون في تحسين العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران. فأولا، كان هناك خطاب "محور الشر" الذي ألقاه بوش في عام 2002. ثم في فبراير/شباط 2005، عندما كان أحمدي نجاد المتشدد على وشك أن يبدأ ولايته الأولى رئيساً للبلاد، رفض بوش رسمياً الاتفاق النووي الذي تم التفاوض عليه بعد جهود جهيدة بذلها روحاني (ممثل خامنئي آنذاك في المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران) وبعد التوقيع عليها في عام 2004 من قِبَل فرنسا وألمانيا وبريطانيا.
ومع استكشاف إيران للأفق الاستراتيجي، بدا من الواضح أن الولايات المتحدة غزت العراق لأن صدّام لم يكن يملك أي أسلحة دمار شامل. وهذا ما أعطى إصرار أحمدي نجاد على "حق" إيران النووي شعبية كبيرة بين الجماهير الإيرانية وأبناء الطبقة المتوسطة على السواء.
وبرغم الاستياء الشعبي من عهد أحمدي نجاد، فإن هذه المشاعر لا تزال سائدة في إيران. ولكن الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه الشهر الماضي كان نتاجاً لسياق سياسي مختلف: فقد كان الرئيس باراك أوباما حريصاً على التوصل إلى اتفاق مع إيران كجزء من إرثه، وهذه المرة كان روحاني، في منصب الرئيس، قادراً على التفاوض بدعم كامل من خامنئي، الذي عمل معه (على عكس خاتمي) بشكل وثيق.
تصدير الثورة الإسلامية من إيران الشيعية فقد جاذبيته
ولكن هناك سببا أعمق وراء نجاح المفاوضات النووية: فقد انتهت ثورة الخميني الإسلامية أخيرا ــ وخامنئي يدرك هذا. ويتعين عليه أن يعلم أيضاً أن تصدير الثورة الإسلامية من إيران الشيعية فقد جاذبيته، حيث حل محله في العالم الإسلامي أولاً الجهاد العالمي الذي شنه تنظيم القاعدة، ثم الآن تنظيم الدولة الإسلامية المزعومة وخلافة أبو بكر البغدادي.
إن أكثر ما يهم إيران الآن ليس الإيديولوجية، بل المصالح الوطنية والواقعية السياسية. ولهذا السبب، تجد نفسها حالياً تدعم معارضي الإسلام الثوري: بشار الأسد ضد الإسلاميين في سوريا، والحوثيين ضد تنظيم القاعدة في اليمن. وهي لنفس السبب توقع على اتفاق نووي مع الشيطان الأكبر، بل وتتعاون ضمنياً معه ضد تنظيم الدولة الإسلامية، العدو المشترك. والآن بعد أن انتهت الثورة، فمن المرجح أن يصبح التعاون في مجالات أخرى جذاباً بنفس القدر.
سعيد أمير أرجوماند
ترجمة: مايسة كامل
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت 2015
سعيد أمير أرجوماند أستاذ علم الاجتماع ومدير معهد ستوني بروك للدراسات العالمية بجامعة ولاية نيويورك في منطقة ستوني بروك.