استئناف الثورة: جولة جديدة في معركة الحرية العربية
انطلقت موجة جديدة من الاحتجاجات الشعبية، عمّت دولا عربية كانت قد أفلتت من الموجة الأولى عام 2011؛ لاعتبارات داخلية متصلة بمستوى الوعي الجماعي، وبنية النظام الحاكم في البلد، أو لاعتبارات خارجية متعلقة بالجغرافيا، والموقع الاستراتيجي في معادلة التوازنات بين القوى الإقليمية والدولية.
عمّت الموجة الثورية الثانية أربع دول عربية جديدة، وهي السودان والجزائر والعراق ولبنان، كانت حتى وقت قريب؛ ولأسباب موضوعية، خارج دائرة توقعات الباحثين والخبراء.
بيد أن منطق التاريخ؛ في الكثير من الأحيان، لا يقبل الخضوع للتقدير والتوقع، فشعوب الأنظمة الطائفية والعسكرية المعروفة تاريخيا بالولاء، قررت بدورها التمرد وإعادة المد الثوري إلى الشوارع العربية.
تميزت هذه العودة بسمات كانت مفتقدة في الموجة الأولى، والراجح أن غيابها كان السبب وراء انزياح جل الثورات (مصر، اليمن، سوريا، ليبيا) عن تحقيق أهدافها. وفي المقابل شكل ذلك، حسب سياق كل بلد، مدخلا عبّد الطريق أمام قوى الثورة المضادة للردة والنكوص، وفرملة التغيير والإصلاح الذي سعى إلى منح دول عربية بطاقة دخول لنادي الدول الديمقراطية.
إقرأ مقال خالد فهمي: ثورات الربيع العربي...المارد خرج من القمقم
ملف خاص: الربيع العربي.. بين حسابات الحقل وحصاد البيدر
الأجيال الجديدة عازمة على التغيير
دالت أوضاع وأحوال المنطقة العربية، ما بين عامي 2011 و2019، مؤكدة نهاية متلازمة الاستقرار مقابل الاستبداد التي جثمت على الإقليم منذ خروج الاستعمار. فبعد زمن قياسي؛ في مسار الثورات، لم يتعد ثمان سنوات فقط، قررت الشعوب العربية استئناف المد الثوري، بخوض جولة الإياب في مباراة التحرر من القهر، والانعتاق من براتين السلطوية.
[embed:render:embedded:node:38254]
اغتنمت الشعوب العربية سيادة مناخ عالمي يطبعه الاحتجاج، وسطت توقعات بأن تشهد سنة 2020 موجة أقوى من السخط والغضب الشعبي، لتستأنف معركتها من أجل الحرية والتغيير، بعدما استقت الدروس والعبر، وراجعت نفسها وحساباتها. وقد أبانت عن ذلك السمات التي طبعت المد الثوري الجديد، والتي نذكر من جملتها:
أولا: لم تحظ النسخة الثانية من الثورات العربية بذات الاحتفال الجماهيري، والتلقي الإعلامي الذي نالتهما الأولى، فالشكوك والمخاوف من أن تلقى نفس مصير سابقها كبيرة، خاصة، وأن ما يشهده السياق الدولي من متغيرات يساعد على وأدها في المهد، ما حولها طيلة أسابيع لمجرد أحداث عادية، لم تسترع الانتباه إقليميا ودولية، حتى بدأت تعطي ثمارها، بإجبار رموز النظام على الاستقالة والتنحي.
كان هذا التجاهل في صالح المحتجين، حيث ظلوا بعيدين عن ضغط الصحافة وتغطيات الإعلام المباشرة، ما أتاح لهم فرصة التحكم في إدارة المعركة، وإنضاج القرارات والخطوات بهدوء وروية. كما ساهم نسبياً، بمعية عوامل أخرى داخلية وإقليمية وحتى دولية، في الاستبعاد المؤقت لحلف الثورات المضادة.
ثانيا: تعلم المتظاهرون من التجربة المصرية درسا بليغا، جعلهم يرددون في السودان "إما النصر أو مصر"، والجزائر "يتنحاو كاع" (يرحلوا جميعا)، وفي لبنان "كلهن يعني كلهن" (جميعهم)... مؤكدين بأن أصل المشكل مع النظام برمته، لما يمثله من تحالف موضوعي لقوى منتفعة من الاستبداد والفساد، على امتداد عقود من الزمن، دون اهتمام بالأسماء والأشخاص.
لقد رفض المحتجون، في كافة العواصم العربية؛ في الخرطوم والجزائر كما في بغداد وبيروت، حلا جاهزا يتمثل في التضحية برمز أو أكثر من النظام، تجنح إليه السلطويات متى اشتد عليه الخناق، بفعل تصاعد وثيرة الاحتجاج، وفشل العنف والقوة في إرهاب المتظاهرين. فحيلة تحويل فرد إلى مشجب يحمل أوزار منظومة بكاملها، لم تعد تنطل على أحد. ما جعل مطالب الشعوب في هذه النسخة الجديدة، تتجاوز الإطاحة برأس النظام نحو استهداف البنية الاستبدادية في الدولة بأكملها.
ثالثا: ضمور البعد الإيديولوجي بشقين الطائفي والحزبي في الساحات والميادين، فحضرت الأعلام والشعارات الوطنية الجامعة لكافة التنظيمات والقوى المجتمعة في البلد، بينما غابت بيارق الأحزاب والطوائف والهوياتية المذهبية، في مشهد وطني قلما تراه في بلد عربي، فبالأحرى في دول كالعراق ولبنان حيث بنية الدولة قائمة على أساس المحاصصة الطائفية.
تشكل هذه الخاصية الجديدة نقلة نوعية في الوعي السياسي الجمعي بهذه الدول أولا وبكامل المنطقة العربية ثانيا، لأن النجاح في تجاوز العقدة العرقية (أمازيغ، عرب، كرد...) والطائفية (سنة، شيعة، مسيحيين...)، يمثّل قفزة نوعية وتحولاً جوهريا من شأنه إعادة صياغة بنية هذه المجتمعات على أساس وطني عابر للتصنيفات، وكذا بنية ممارسة السلطة داخلها، وفق قواعد ديمقراطية حقيقة لا صورية كما يقع حاليا.
رابعا: كانت هذه الموجة أكثر جذرية، مخافة تكرار أخطاء الموجة الأولى، ورغم الاختلاف في التفاصيل والشروط الموضوعية لكل بلد، فثمة قاسما مشتركا بينها يتمت في تجاوز المؤسسات الوسيطة بين الشعب والسلطة. فالمتظاهرون في هذه الدول، باستثناء السودان (تجمع المهنيين)، رفضوا أن يتولى أي تنظيم أو هيئة مهمة الحديث باسمهم، فلم يعد المحتجون يثقون فيهم.
إرادة الشعوب قد تتراجع ولكنها لا تهزم
أتاح القرار للمتظاهرين القدرة على إدارة المعركة في مواجهة الماسكين بالسلطة، فبقيت التظاهرات وفية للسلمية رغم مجابهتها في بعض الدول بالعنف المفرط (السودان، العراق...). كما أبعد الثوار عن التبعية لخطط وإملاءات التنظيمات المعارضة (إسلامية، يسارية...)، مخافة تحريك المشهد الثوري وفق أجندتها. بهذا نجح المتظاهرون في تحصين حراكم من أي شكل من أشكال القرصنة أو التوجيه أو المزايدة.
لا ينبغي لتطورات الموجة الثانية للربيع العربي أن تدفعنا إلى الإفراط في التفاؤل، فما قد يبدو نعمة في سياق قد يتحول إلى نقمة في سياق أخر. فعلى سبيل المثال، غياب القيادة الثورية الذي بدا ملمحا رئيسيا في هذه النسخة، عكس الأولى التي سيطرت عليها نخب المعارضة التقليدية، قد ينقلب إلى مشكلة. فبقاء الحراك بدون مخاطب، من شأنه أن يعيق علمية التغيير والتحول.
فالثوار إصلاحيون في نهاية المطاف، ما يعني بالضرورة إفراز نخبة لقيادة المرحلة الانتقالية، على غرار ما حدث في السودان، من شأنها التفاوض مع النظام، فالتاريخ مليء بالثورات التفاوضية.
أما البقاء عند حدود الاحتجاج لإسقاط النظام دون تقديم بدائل، فمن شأنه أن ينقلب مع مرور الوقت لمصلحة الأنظمة الاستبدادية، المسنودة من قبل دول مضادة للثورات، قصد استئصال بذرة الثورة التي زرعت في التربة العربية مطلع عام 2011.
محمد طيفوري
حقوق النشر: قنطرة 2019
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
المزيد من المقالات التحليلية من موقع قنطرة
السودان - نجاح الثورة المدنية قد يصبح للمنطقة قدوة ولهذا تدعم العسكرَ دولٌ عربية
ملف خاص حول ثورات الربيع العربي
هل يمكن لحكومة فاسدة محاربة الفاسدين والمفسدين؟
مظاهرات دامية ضد النخبة الحاكمة: ماذا يحدث في العراق؟
انتفاضة شعبية ضد الفساد والمحاصصة الحزبية والطائفية والقومية
هذا الثالوث المدمر وراء الانتفاضات الشعبية في لبنان والعراق