إنكار حقيقة المحرقة التاريخية تعبير عن نرجسية بعض النخب العربية والإسلامية
تلقي التصريحات الأخيرة لعدد من ممثلي النخبة الإسلامية والعربية بظلالها على كيفية تعاطيها مع الحقبة النازية الألمانية التي تعد أكثر الحقب البشرية بشاعة وتجريداً للإنسان من آدميته. الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد بدأ التصعيد اللفظي الأخير حين وصف جريمة إبادة يهود أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية بأنها "خرافة"، مثيرا موجة من الاستنكار من قبل الأسرة الدولية. ثم سار المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين في مصر محمد مهدي عاكف على دربه حين قال إن محارق النازية "أسطورة".
كما أضاف عاكف، الذي تمثل جماعته أكبر قوة معارضة في البرلمان المصري الحالي في بيان له: "حملت الديمقراطية الغربية على كل من يرى غير رؤية بني صهيون فيما يخص أسطورة الهولوكست أو المحرقة." وفي السياق نفسه قال محمد حبيب نائب المرشد العام للإخوان إن التقارير الخاصة بمحارق النازية "مبالغ فيها". كما أضاف: "ليس لدينا أشياء مؤكدة تمكننا من أن نثبت هذا الأمر أو ننفيه.
المسألة تحتاج إلى توثيق لكن ما يمكن للواحد أن يتأكد منه هو أنه تم الاعتداء على اليهود وليس بوسيلة غرف الغاز أو ربما ليس بهذا العدد أو بهذه الكثافة." ومن أجل دعم رأيه، ذكّر عاكف بالكاتب الفرنسي روجيه جارودي "الذي حوكم لإنكاره المحرقة والمؤرخ البريطاني ديفيد ايرفينغ الذي اعتقل في النمسا منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي".
تكمن خطورة كيفية تعاطي عدد من ممثلي النخبة العربية والإسلامية مع أحد أبشع فصول تاريخ البشرية بشاعة في أنه يمثل تجسيداً لانعطافة نكوصية تناقض أبسط بديهيات المنطق وتغيب مبادئ العقلانية. فبغض النظر عن أقلية أوروبية لا وزن لها ولا أهمية لها في صناعة القرار وفي الخطاب السياسي والثقافي المعاصر، من ديفيد ايرفينغ الى روجيه غارودي، فإن إنكار وجود المحرقة النازية يعد مسألة ما عادت تُطرح للمناقشة الجدية إلا في أوساط اليمين المتطرف أو الأوساط الاجتماعية المتردية فكرياً وتعليمياً، علاوة على نشطاء سياسيين يحتاجون إلى رعاية نفسية أكثر من إحتياجهم إلى حوار مقنع وبناء!
توظيف سياسي لأنكار المحرقة
وفضلاً عن ذلك فإن وصف الرئيس الإيراني أحمدي نجاد لجهود علماء التاريخ من اجل توثيق جرائم النازية بـ"وجهة النظر الأكاديمية"، يضع علامات استفهام حول قدراته الفكرية وموضوعيته، وقبل كل شيء رغبته في استيعاب دروس التاريخ، خاصة وأنه انتُخب بأصوات ملايين الإيرانيين البسطاء الذين وعدهم بالـ"العدالة الاجتماعية" و"العودة إلى قيم الثورة الإسلامية الأصيلة". لكن يبدو أن عجزه الواضح عن الوفاء بوعوده الانتخابية وعن تحقيق أي تقدم فعلى في سياسته الهادفة إلى توزيع عوائد النفط على ناخبيه الفقراء، دفعه إلى إثارة مشاعرهم ومحاولة تأجيج الكراهية لديهم ضد إسرائيل خاصة واليهود عامة. تعاطي عربي نقدي مع الحقبة النازية في الثلاثينيات الصورة النمطية المتميزة بالتبسيط والتي تدعي أن كل العرب تعاطفوا مع النازيين وفقاً لمبدأ "عدو عدوي صديقي"، لا تستطيع الصمود أمام أية جدلية عقلانية، خاصة إذا قمنا بتحليل هذه الظاهرة من منظور علمي وبشكل تفريقي دقيق.
اقرأ/ي أيضًا |
جدل معاداة السامية والصراع الإسرائيلي الفلسطيني
"معاداة الصهيونية لا تعني بالضرورة كراهية اليهود"
عداء للسامية أم معاداة الصهيونية أم نقد مبرر للسياسة الإسرائيلية
كارثتا الكوارث: المحرقة والنكبة - لا تنفك إحداهما عن الأخرى
الهولوكوست من منظور عربي: إنكار الهولوكوست يضر بسمعة العرب والفلسطينيين
وبالإضافة إلى ذلك لم يتبلور موقف عربي معين تجاه الأيديولوجية النازية والكوارث التي تسببت في وقوعها في القرن العشرين، بل على العكس من ذلك تميزت ردود الفعل في الدول العربية بالتباين الشديد من دولة إلى أخرى. وفي هذا الإطار ينبغي الإشارة إلى نتائج الأبحاث الجديدة التي تبرهن على أن النخبة العربية المثقفة كانت تشعر بالقلق من نشأة منظومة شمولية (توتاليتارية) في ألمانيا. كما عبرت عن رفضها القاطع لكل أشكال التمييز العنصري والفاشي معتبرة الأيديولوجية النازية الفاشية تهديداً لقيم الإنسانية جمعاء. "وحتى في فلسطين يمكن ملاحظة وجود أصوات نقدية بهذا الخصوص"، وهو ما يشير إليه الباحث الألماني في دراسات العداء للسامية بيتر فين الذي نجح في تقديم أدلة على وجود أصوات فاعلة في الرأي العام الفلسطيني تعاملت بصورة نقدية مع الأطروحات النازية الفاشية. وبالرغم من ذلك فإن هذه الأصوات لم تؤخذ بالحسبان نظراً لهيمنة ظلال مفتي القدس أمين الحسيني على الصورة المنتشرة عن تعاطي الفلسطينيين بصورة خاصة والعرب بصورة عامة مع الحقبة النازية الألمانية.
نرجسية النخب الحالية
بالطبع يحق للرئيس الإيراني أحمدي نجاد، ولمرشد الإخوان محمد مهدي عاكف وغيرهم من ممثلي النخب الإسلامية والعربية نقد السياسة الأوروبية والأمريكية ونفوذ اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة، بجانب أخطائهما الجسيمة تجاه العرب والمسلمين. إلا أن أرضية هذا النقد يجب أن تكون قائمة على الاعتراف بحقائق التاريخ وعلى قوة الحجة والبرهان. من يقوم بانتقاد الغرب نظراً "لازدواجية معاييره" في التعامل مع قيم الحرية والديمقراطية، ينبغي عليه التفريق بشكل واضح بين حقيقة وقوع المحرقة وبين تداعيات نشأة دولة إسرائيل.
وكل من يشكك في حيثيات وقوع أكبر عملية قتل منظم شهدتها البشرية يفقد مصداقيته ويتحول إلى مخادع شعبوي متقوقع على ذاته يتلاعب بعواطف الجماهير ويداعب نرجسيته فقط! كما أن وجود أدلة علمية دقيقة تؤكد على أن النازيين قاموا باحتجاز وقتل معتقلين عرب، على الرغم من أن عدد المعتقلين العرب كان صغيراً مقارنة بالضحايا الآخرين، إلا أن كل ضحية عربية موثقة بحد ذاتها تنفي فرضية إنكار الهولوكوست التي يروج لها بعض ممثلي النخب القوموية والإسلاموية.
لؤي المدهون
حقوق الطبع : دويتشه فيلله 2005