هيمنة العلمنة في"جمهورية ألمانيا البروتستانتية"!
توبياس بيكر كاتب ومفكر ألماني لم يشتهر بعد، إلا أنه يتمتع بموهبة فائقة في تحليل الأمور الاجتماعية والدينية الدقيقة. فهو يركز على سبيل المثال على موضوع الانتماء الديني والمذهبي للمجتمع الألماني، إذ يساور مراقبو الساحة السياسية والاجتماعية في هذا البلد قناعة بكون العلمنة تهيمن على أساليب العيش والتفكير والتعامل بين المواطنين بشتى تياراتهم السياسية والحزبية.
بيكر نفسه يخلص إلى نتيجة شبيهة من ذلك حيث يلاحظ بأن الدين لم يعد يلعب دوراً يذكر في المجتمع وبأن تحقيق الوحدة بين شطري البلاد في أواخر ثمانينيات القرن الماضي زاد من نفوذ هذا التيار، نظرا لابتعاد الأغلبية العظمى من سكان شرق ألمانيا بحكم التركيبة الشيوعية للنظام السابق هناك عن الدين.
ومن ناحية أخرى يلاحظ الكاتب أن التشبع بالعادات والتقاليد والأعراف الناجمة في الأصل عن الانتماء الديني ما زال ملموساً في أوساط المجتمع وبأن الأفكار التي نشرتها الكنيسة البروتستانتية أي الإنجيلية أكثر تأثيراً واستدامة مما خلفته الكنيسة الكبرى الأخرى أي الكاثوليكية.
هنا اقتضى الأمر التوقف عند بعض وقائع التاريخ المعاصر. فبعد هزيمة ألمانيا الهتلرية في الحرب العالمية الثانية عام 1945 تأسست عام 1949 دولتان ألمانيتان هما جهورية ألمانيا الاتحادية الأكبر مساحة وتعدادا سكانيا في الغرب وجمهورية ألمانيا الديمقراطية المبنية على قاعدة إشتراكية ماركسية في الشرق. وتقلد المستشار الألماني كونراد اديناور مقاليد الحكم في الغرب وبقي مستشارا لفترة 14 عاما وكان طيلة تلك الفترة رئيسا للحزب المسيحي الديمقراطي أيضا.
"جمهورية بون"
ويستخدم المؤرخون في سياق شرحهم لعهد أديناور مصطلح "جمهورية بون"، التي بقيت عاصمة مؤقتة للبلاد إلى أن استعادت ألمانيا وحدتها.
تشبعت "جمهورية بون" بروح المناطق الغربية ذات الانتماء الكاثوليكي مثل ولايات راينلاند وبافاريا وبلاتينات والسار، على الرغم من أن الكاثوليك لم يتفوقوا حينها عددا على البروتستانت إلا بنسبة ضئيلة لا تتعدى 10 بالمائة. لكن ذلك لم يمنع المستشار الأول لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية كونراد أديناور من جعل أهم المناصب الحكومية تتمركز في يد أتباع المذهب الكاثوليكي. ففي بعض الحكومات التي ترأسها اديناور لم يزد عدد البروتستانت عن أربعة وزراء فقط.
ومن أدلة تهميش دور الدين في الحياة السياسية والاجتماعية مقولة ساخرة لأحد أكبر صحافيي ألمانيا المعاصرين أي لمؤسس ورئيس تحرير مجلة "دير شبيغيل" الذائعة الصيت رودولف أوغشتاين. فقد أنكر هذا الكاتب أن تكون ألمانيا ما زالت مسيحية سواء بالمفهوم الكاثوليكي أو البروتستانتي مضيفا أن "انتماء ألمانيا للمسيحية يقتصر على أداء الضرائب الكنسية". بالطبع فإن هذه المقولة تتسم ببعض الصحة ولكنها ساخرة أكثر منها موضوعية.
نعود إلى الكاتب بيكر، الذي خلص إلى استنتاجين متناقضين في هذا السياق. فهو يلاحظ من جهة بأن استعادة ألمانيا لوحدتها رجحت كفة البروتستانت، لأن الأغلبية العظمى لسكان شرق ألمانيا من البروتستانت. ودفعه هذا إلى القول من باب الاستفزاز بإمكان تسمية البلاد "جمهورية ألمانيا البروتستانتية"، وإن لم يقصد من وراء ذلك مطابقة الوضع هنا بـ "جمهورية إيران الإسلامية".
وأوضح ذلك بالإشارة إلى أن هذه التسمية ثقافية وسوسيولوجية أكثر منها دينية أو مذهبية مشددا على أن الملايين من الألمان ولوا الأدبار للكنيستين في العقدين الماضيين فبلغ عدد المنسحبين 3،5 مليون كاثوليكي و أكثر من 5 ملايين بروتستانتي وذلك لا بدوافع مالية فقط أي الرغبة في الامتناع عن أداء الضرائب الكنسية، بل بحكم قناعتهم بالتيارات العلمانية وحتى الإلحادية لا سيما في أوساط المتعلمين والمثقفين.
ما المقصود إذن من التشديد رغم ذلك على النمط البروتستانتي لألمانيا حتى في صفوف غير المنتميين لهذا المذهب الديني؟
يرى بيكر بأن الحركة الإصلاحية التي قام بها لوثر قبل 500 عام "احتجاجا" (من هنا جاءت تسمية المذهب البروتستانتي) على الإكليروس الكاثوليكي تركت انعكاساتها في القرون اللاحقة لا فقط على الفهم الديني للمجتمعات في ألمانيا وعدة دول أوروبية أخرى،بل أيضا على قناعتها الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية أيضا. فقد حث لوثر ومن بعده رفيقاه السويسريان الأكثر تشددا كلفين وتسفينغلي على العناية بالتعليم والثقافة والنظافة والنظام ودعا اتباعه إلى اعتبار أداء الوظيفة بأمانة وحرص لا مجرد واجب تجاه رب العمل بل بمثابة رسالة أخلاقية تجاه الخالق نفسه.
ورغم أن الكنيسة الكاثوليكية حاربت لعقود طويلة هذه الحركة المنافسة لها إلا أنها حققت هي أيضا عملية إصلاحية نابعة مما سمي "حركة الإصلاح المضادة" التي بدأت مشبعة بروح العودة إلى الجذور لتصبح فيما بعد منفتحة أكثر وأكثر تجاه ما هو تنموي وابتكاري.
اضمحلال الفروق بين الكاثوليك والبروتستانت
لهذا كان بمقدور المرء أن يعتبر الألمان من أنصار كلا المذهبين مشبعين بالأفكار الإصلاحية، التي انطلقت من الحركة الإصلاحية للوثر. كما بات من الممكن القول إن الخصال المنسوبة للبروتستانت تنطبق بصورة عامة إن جاز التعميم هنا على كافة شرائح المجتمع الألماني، حيث للألمان عامة سمعة واسعة الانتشار في كل أنحاء العالم بكونهم يلتزمون بالمواعيد وينتظمون في العمل ويحبون النظام إلى غير ذلك من الصفات التي أصبحت بحكم الأكليشيهات بغض النظر عما إذا كانت ما تزال تتسم بالصحة ودقة المعايير أم لا. على أية حال فحتى هؤلاء الذين ينفصلون عن كنيستهم (سواء البروتستانتية أو الكاثوليكية) لعدد من الأسباب فإنهم يحتفظون في أعماق أنفسهم بتلك الخصال والعادات والأعراف النابعة أصلا من المعتقدات الدينية.
من هنا جاز التعبير بأن ألمانيا باتت علمانية شكلياً وهيكلياً لكنها ظلت مسيحية في المفاهيم الثقافية والمجتمعية والسياسية. ما معنى ذلك بالمفهوم السياسي؟ لم يفرق لوثر في سياق المسؤولية الأخلاقية بين رجال الدين والأشخاص العاديين كما أنه طالب الطرفين بالولاء للحاكم.
وقد اتضح على مر التاريخ بأن الألمان انطلاقاً من واجب الولاء للحاكم أكثر استعدادا من شعوب أخرى لتقبل الحاكم "القوي" طالما كان قادراً على توفير النظام والأمان والعدالة الاجتماعية والاقتصادية. ربما فسر ذلك قدرة هتلر على اكتساب قلوب الألمان وعقولهم لفترة طويلة نسبية رغم الأفكار العنصرية والشعبوية العرقية التي نشرها.
إذن فقد اضمحلت الفروق بين الكاثوليك والبروتستانت لكن ثمة فرقا يظل قائما يرتبط بما يسمى بالألمانية "استيعاب طبيعة الحياة" فأغلبية الكاثوليك تميل إلى التمتع بالحياة وتعشق تقاليد الكرنفال على سبيل المثال. وحتى عند ارتكاب الخطية يمنح الكاهن الغفران بعد الاعتراف.
أما البروتستانت فإنهم يرفضون مثل هذه الطقوس تماما ايمانا منهم بالمسؤولية "الفردية" للمؤمن. فرق آخر قائم ذو طابع جمالي بحت. فالكاثوليك يعشقون زخرفة كنائسهم ويزينونها بصور قديسيهم وتماثيلهم الأمر الذي يرفضه الإنجيليون أيضا. بالتالي فقد أصبحت كنائس البروتستانت منذ عهد لوثر وكلفين ولو ظاهريا بمثابة أندية ثقافية تمارس فيها بجانب الطقوس الدينية أنماط الحوار المبنية على المساواة بين القسيس والمؤمن.
عارف حجاج
حقوق النشر: قنطرة 2017
عارف حجاج كاتب وباحث ألماني فلسطيني معروف، حصل على الدكتوراه في العلوم السياسية وعمل لعقود طويلة في الخارجية الألمانية. وقد صدر كتابه الأخير "بلد بلا أمل. القومية العربية والإسلام السياسي ومستقبل فلسطين" في دار شونينغ للنشر.