حكاية «كيليطو» بين السرد والنقد
يتكون العمل الذي يشبه رحلة سحرية في عجائب الكتب، من خمسة فصول، هي: "نورا على السطح" و"أبو حيان التوحيدي" ثم "قدر المفاتيح" فـ"هي أنتِ، وليست أنتِ» وأخيرا "خطأ القاضي ابن خلكان".
لولا قرار كيليطو وضع كلمة "رواية" على رأس الغلاف، لكان السجال سيد الموقف بشأن تصنيف العمل، لكونه لا يستوفي الحدود الدنيا من مقومات فن الرواية، فلا يقدم العنوان ولا الفصول ولا حتى المتن أي وعد للقارئ، ويمعن الكاتب في الإيهام والالتباس بجعل عنوان الرواية قسما بالله على أن هذه الحكاية حكاية وليست رواية، هي الحكاية الحقيقية للكاتب، علاوة على لجوئه إلى القسم دون داع، فعادة ما لا يجنح المرء إلى القسم إلا حين يكون محل اتهام، ويفتقد البينة والبرهان لإثبات براءته.
ويزيد النص المدون على ظهر غلاف الرواية إشكال الأمر على القارئ، حين يقرأ "في الليلة الواحدة بعد الألف قررت شهرزاد، بدافع لم يدرك كنهه، أن تحكي قصة شهريار تماما كما وردت في بداية الكتاب. ما يثير الاستغراب على الخصوص أنه أصغى إلى الحكاية، وكأنها تتعلق بشخص آخر، إلى أن أشرفت على النهاية، وإذا به ينتبه فجأة إلى أنها قصته هو بالذات، فصرخ، والله، هذه الحكاية حكايتي، وهذه القصة قصتي".
بهذه الإشارات، يحضر أو ربما يحذر كيليطو القارئ من أن ما يقدمه ليس حكاية كلاسيكية، لها بداية ونهاية، تتيح له إمكانية تلخيص أحداثها أو حتى استدعائها، بين الفينة والأخرى، على سبيل التمثيل والاستشهاد. ونجح في استعارة أسلوب التناسل القصصي، العتيق في الأدب العربي، فتناسلت عن حكاية حسن ميرو وزوجته ومعطف الريش حكاية حسن البصري الذي وقع في غرام ابنة ملك الجن، ومنهما نصل إلى قصة يوليوس موريس، الباحث الأمريكي في التراث العربي، الذي سحرته فتاة فنلندية.
يظل هذا الأخير، أي يوليوس، مجرد وسيط يساعد الكاتب على الاشتباك مع حكاية الحسنين، فيعيد قراءة الحكايتين، ويعمل على سد ثغراتهما عبر متوالية من الأسئلة على منوال، لماذا ترك المفتاح لحسن؟ ولماذا لم يحرق حسن الثوب بدلا من إخفائه، حتى يحول دون العثور عليه، ومن ثم استحالة العودة. هل أحبت الجنية حسن؟ وإذا كانت أحبته فلماذا هربت؟ ويبحث في قصة التوحيدي عن إعادة قراءة أسباب خلافه مع ابن العميد وابن عباد، وما ترتب على هذا الخلاف؟ وهل هذا راجع إلى شخصية التوحيدي نفسه، أم إلى أسباب أخرى؟ ودور الآخرين فيما لحق بالتوحيدي من اتهامات؟ وهل فعلا حرق كتبه أم فقط النسخ التي بين يديه؟ وهل هي طريقة في الانتقام من القراء أم بالأحرى صرخة يأس ونداء استغاثة، وادعاء صاخب وشكل من أشكال الابتزاز للإسراع بمعالجة الظلم الذي لحق به؟
تتداخل الحكايات بشكل توليدي، رغم اختلاف السياقات التاريخية والثقافية، بأسلوب سردي سحري وغرائبي، يضفي على النص متعة أدبية وفكرية ممزوجة بهالة معرفية. فهذا التعاقب بين السرد الشيق والمعرفة الثقافية، يجذب القارئ، كأنه المغناطيس، عند أول لقاء بينهما، قبل أن يدفع به دفعا، بعد الانتهاء، في مظان الكتب التراثية التي شكلت منابعها الأولى. ولا سيما أن المتن التراثي القديم هو المضمار الذي يجيد حصان كيليطو، - وليس "حصان نيشته" (2005) - الركض فيه.
يجد قارئ الرواية نفسه ضحية كيليطو الذي يوقع به أو يحشره معه في أعماق المعارك التراثية التي تشغل بال الكاتب، لدرجة أن كيليطو الناقد يحضر أحيانا لينوب عن كيليطو السارد، فنجده يمارس مهمته الأثيرة في تأمل المتون القديمة وتحليلها وتقليبها بين يديه، من قبيل إثارة مسألة العلاقات المتشنجة بين الكتاب عبر نموذج أبي حيان التوحيدي وعلاقته بابن عباد وابن العميد اللذين أفرد لهما كتابه الانتقادي المعروف "مثالب الوزيرين".
لا يخرج المتن السردي لكيليطو من عالم الكتب إلا ليغوص فيه أكثر، فالبطل حسن ميرو مولع بتوفيق الحكيم، يقتدي به ويرغب في تكرار مساره، ذلك أنه يرى أن على المرء أن يذهب إلى باريس، إذا أراد أن يصبح كاتبا. "كان من الضروري، بالنسبة إلى حسن، إتقان لسان أجنبي، لكي يكتب بلسانه"، هذه العبارة التي وردت على لسان الراوي، فهو يستغرب من مفارقة الذهاب للدراسة في فرنسا من أجل العودة إلى الكتابة لقراء العربية، مثال بارز على تراجع دور كيليطو السارد المحايد الذي يسرد دون تعليق، لمصلحة كيليطو الناقد الذي يسعي إلى ربط العناصر ببعضها، وكأنه يريد أن يصل إلى استدلال على فرضية معينة.
يظهر أن عبدالفتاح كيليطو يعمل على اجتراح طريق سردي، يتلاءم مع مساره ومسيرته، بوصفه مفكرا وباحثا وقارئا نهما لدرر وذخائر التراث، لذا يصر على مواصلة مغامرة الكتابة والتجريب، بحثا عن أسلوب، يستطيع من خلاله تقليص الحدود بين عالم الرواية وعالم الكتابة غير الرواية، ويختصر بواسطته علينا وعلى نفسه الطريق، بعيدا عن قيود الكتابة الروائية التقليدية، التي تحول دون قدرته على استثمار تراكمه البحثي والمعرفي، بشكل مباشر في المتن الروائي. وكأنه ينتصر ها هنا لمقولة رولان بارت "إن فعل السرد لا حدود له، يتسع ليشمل جميع الخطابات الأدبية وغير الأدبية".
يكشف قارئ كيليطو السردي لا النقدي، أن المدونة السردية للكاتب تميل إلى إسقاط شيء اسمه "نقاء الأجناس"؛ فنصوص هذه المدونة، كما يؤكد عبدالكبير الشرقاوي المترجم الوفي لكيليطو، خليط من بين أنواع عدة، يغدو من الصعب عند تناولها الفصل بين المقالة والسرد تارة، وبين البحث الأدبي والتخييل تارة أخرى. لكل ما سبق، يمكن القول إن النصوص التي ينتجها الكاتب هي في المقام الأول نصوص كتابية وليست قرائية، حتى إن مالت إلى الطابع الحكائي.