ما وراء الكذب والثقة
للجسور بين البشر أسس. الصدق أهمها.
هل من حقي أن أحلم أنني سوف أعيش اليوم، الذي سوف يتم التعامل معي باعتباري صادقا إلى أن يثبت العكس؟
كيف يمكن لجماعة بشرية أن تبني الثقة وهي الأساس لصحة أداء المجتمع، والكذب يضرب جذوره في عمق القنطرة، التي تسعى للربط بين هؤلاء؟
راودتني هذه الأسئلة لأول مرة في عام 1998 عند زيارتي الأولى للولايات المتحدة الأمريكية. كانت هذه الرحلة، التي لم تدم أكثر من أسبوعين، بمثابة صدمة حقيقية لي. بدأت عندما عرفت أن لا وجود لبطاقة شخصية في هذا البلد. سألت وكيف أثبت هويتي؟ "تثبت هويتك بالقول". فلو لم يرغب الأمريكي في إصدار رخصة قيادة، أو جواز سفر، ولم يكن يحتاج إلى العمل، فلا إثبات هوية لديه.
إذا عرف القارئ العزيز أنني من دولة يجب فيها أن تثبت أمام جهات إدارية أنك على قيد الحياة وأنت تقف أمام موظف الدولة بشحمك ولحمك، فلك أن تتخيل حالة الحيرة التي ألمت بي. أدركت بعد أيام قليلة قضيتها في نيويورك ثم في واشنطن أن حالة منح الثقة في الآخر هي حالة اجتماعية عامة، وإذا ثبت العكس فعلى الكاذب أن يتحمل التبعات القانونية. أما في بلدي فالكاذب لا يتحمل أي تبعات لأنه من البداية يفترض الجميع كذبه.
منح الثقة هي قوام الاقتصاد الأمريكي. ولولاه لكانت الولايات المتحدة دولة من دول العالم الثالث.
أنا هنا لا أتحدث عن الكذب باعتباره ظاهرة إنسانية قائمة ولا شك في جميع البقاع، وإنما عن الكذب باعتباره مؤسسة اجتماعية متكاملة الأركان. فمنذ الخطوات الأولى للطفل في بلادنا، تفترض الأم فيه الكذب. أأنت من كسر الكوب؟ لا لست أنا. بل أنت بالتأكيد. يحتار الطفل كثيرا أمام إصرار أمه أنه كاذب، لا يفهم في البداية الأمر. يسعى للبرهنة عن صدقه، وبعد أن يفشل مرة ثم مرات، يجد الحل في نسيان الأمر، فلا البكاء أتى بثمار ولا التشنج وخبط الأقدام على الأرض.
ثم يبدأ الأهل أمام طفلهم بصبغ الكذب بألوان عدة. فهذا أبيض بهدف المجاملة، وهذا رمادي وهدفه الاحتماء من الغضب، وهذا أسود وهو ما تفترضه الأم في طفلها. يتعلم الطفل أن الحقيقة لا وجود لها، إنما سرديات قائمة على التراضي الاجتماعي، والملاطفة، أو سرديات قائمة على الخوف من السلطة الغاشمة.
ومع إدراك الطفل قسوة التراتبية القمعية يدرك أن ما يستمع إليه من أكاذيب هو أداة النجاة ممن يقيمون في المرتبة السلطوية الأعلى. يدخل الطفل المدرسة ويجد شك المدرسين في أقواله بطل المشهد. وتتضح المسألة وسط البيئة المدرسية في ضرورة أن يقوم بالتفرقة بين الأفكار النظرية الرنانة وبين الواقع. بين النصوص ثقيلة الظل عن أضرار الكذب التي تمتلئ بها صفحات مقررات اللغة العربية والتربية الدينية، وبين ما يقوم به المدرس والأب والقريب من ممارسات قائمة على الكذب. يحدث هنا الانكسار العظيم لخلق الفج بين عالم الأخلاقيات من ناحية وعالم الواقع المعاش من ناحية أخرى.
ومع دخول الطفل لقسم الشرطة لأول مرة لاستخراج بطاقة شخصية يتضح له أن المهم في القول هو ما ينتظره منك الموظف أو أهلك. فمقر السكن هو المقر الذي من مصلحة العائلة ذكره لأسباب قانونية ما، وديانتك هي ديانة أجدادك وليس يهم إذا كنت تنتمي بالفعل لأي ديانة، وتاريخ ميلادك هو المذكور في شهادة ميلادك وليس يهم إذا كان هذا التاريخ هو بالفعل يوم مولدك. الحقائق في هذا المجال لا معنى لها.
ومع الزمن يفقد هذا الشاب مفاهيم الدقة التي يحتاجها للتقدم. أتذكر تماما المحاضرة الأولى لعلم الإحصاء التي تلقيتها أثناء دراستي في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة. قال لنا أستاذ المادة أنه في عمليات استطلاع الرأي أو في البحث الميداني الإحصائي يجد الباحث في مصر مشكلة كبيرة ألا وهي كذب المسؤول. وأعطانا مثال على ما يقول: فإذا كان سؤال الباحث عن عدد أبناء المسؤول. وهو سؤال مباشر وبسيط ورقمي، لا لبس فيه. هنا سوف يفكر المسؤول مباشرة، ليس في حقيقة عدد أبنائه، وإنما عن أسباب السؤال، وعن مصلحته المالية. فلو زاد العدد أمن المحتمل أن يحصل على معونة مالية، أم على العكس قد يؤثر عليه بالسلب. قد يفكر بالحسد إذا كان عدد أبنائه الذكور كبير. وقد يتصور أن الحكومة قد تضره ضررا ما من جراء هذا السؤال.
المهم أن إجابة المسؤول سوف تأتي وفقا لما يتصوره عن الإجابة النموذجية. ثم بدأ الأستاذ يشرح لنا دور الباحث ومنهجه لمحاولة الحصول على الإجابة الصحيحة. وعلى الرغم من مرور قرابة الأربعين عاما على هذه المحاضرة، إلا أنني ما زلت أتذكر تفاصيل وقعها على شاب مثلي في الثامنة عشرة من عمره.
حاولت أكثر من مرة أن أشرح لأصدقاء من أوروبا السبب وراء ترسانة الأكاذيب التي يبنيها المهاجرون الفقراء من بلادنا لمحاولة الحصول على أكبر استفادة ممكنة من شبكة الخدمات الاجتماعية التي تقدمها هذه الدول الأوربية للفقراء، ولكن كان الأمر دائما في منتهى الصعوبة. فالعودة إلى نظرية الكذب كأداة لمقاومة القمع والقهر والديكتاتورية عبر القرون ليس كافيا وحده.
حكيت لهم أن الخوف من سيف السلطان ورجاله، وخوف الفقراء من بطش الحياة، يجعل حتى الشجعان يلجأون للكذب. وشرحت أن اللجوء إلى الكذب يمكن أن يكون رغبتنا لكسب ود الآخرين وأن نكون مقبولين اجتماعيا. وهو أمر خاص بالمجتمعات التي تلعب فيها العائلة الكبيرة دورا هاما في التركيب الاقتصادي والسياسي. ويأتي السؤال: هل كل هذا يبرر أن يتحول الكذب إلى آلية تلقائية للسلوك؟
خالد الخميسي يكتب: وطننا العربي يعاني من نظام غير متسامح مع الآخر
ـ "على الإنسان أن يكون إنساناً قبل أن يكون متديناً" ـ
انفصام النخب العربية عن واقع الشعوب
تونس تقول لا للعنصرية المحلية والعالمية
"العودة إلى نظرية الكذب كأداة لمقاومة القمع والقهر والديكتاتورية عبر القرون ليس كافيا وحده"
في المجتمعات العربية هناك احتياج لهذا الود المصطنع الذي يعد بمثابة الرباط المقدس بين الناس بعضهم بعض، هذا الرباط الهش والثمين الذي يعبر عنه المثل المصري: "لقيني ولا تغديني". بمعنى قم بدعوتي أمام الناس ولا يهم إذا كنت سوف تقدم لي بالفعل الغذاء. وهي الدعوة الجوفاء التي نستمع إليه يوميا ونحن نسير في أي قرية عربية عندما نمر برجل جالس أمام منزله فيقول بأعلى صوته: تفضل. تفضل. يكررها أكثر من مرة. هو بالتأكيد لا يقصد أن يقوم بدعوتنا، ونحن نعرف أنه ليس علينا إلا أن نرد: المرة القادمة إن شاء الله. فتفضلوا هذه ليست أكثر من: "عزومة مراكبية". وهي دعوة اثنين من المراكبية عندما يتقاطع القاربان في النهر. فليس من الممكن أن يقذف أيهما بنفسه في النهر لكي يستجيب لدعوة الآخر. شفرة اجتماعية يدعوها البعض "اللطف والكياسة" التي يتميز بها العربي، ويدعوها البعض الآخر "أكاذيب" نطلقها وليس في نيتنا الفعل.
يدخل الشاب عقده الثالث ويدرك أن الكذب مهارة أساسية للترقي الاجتماعي مثله مثل النفاق. فحالة التباهي بين الناس بالقدرة على الكذب جلية واضحة. فمن يكذب بصورة أفضل يمكنه أن يحقق مزيدا من النجاح. انتشر فيديو في مصر عن طالب لحظة خروجه من لجنة الامتحان. سألته المذيعة إذا كان الامتحان صعب. فأجاب بصراحة أنه لا يعرف لأنه لم يذاكر وإنما جاء للجنة ليغش من زملائه. ثم قام بدعوة الطلاب ألا يبذلوا مجهودا في المذاكرة، وأن يكتفوا بالغش. أما عن المراقبين فمن السهل إخافتهم ليتركوا الممتحنين في حالهم. الغش كما الكذب يدوران داخل دائرة الخوف.
دائرة الخوف:
الحكومة تخاف من الناس فتكذب عليهم، والناس يخافون من الحكومة فيكذبون، والحكومة تخاف من الصحافة، والصحافة تخاف الحكومة. دائرة من الخوف تخلق دوائر من الكذب تكبر كل يوم. حكى لي موظف حكومي كبير أنه في مقابلة مع الوزير قال له أنه سوف يعلن بشفافية نتائج كل مرحلة في جائزة ما. فارتجف الوزير ورفض بقوة قائلا إن هذا الإعلان سوف يفتح أبواب النار عليهم، وأنه من الأفضل أن تعلن الجائزة فقط عن الفائز كما اعتاد الجميع فعله. يخاف الوزير من مواجهة الحقائق، ويلتزم الموظف بأوامر الوزير لأنه يخافه. وفي هذه الدائرة لا أحد يثق في الآخر.
ثمن الثقة
أحد أكبر الخسائر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يتكبدها الوطن هي أزمة الثقة بين الناس بعضها وبعض، وبين الحكومة والشعب. فبالنسبة للحكومة بكافة مؤسساتها من مصلحة الضرائب إلى وزارة الداخلية مرورا بالتأمينات الاجتماعية وصولا إلى هيئة النقل العام فالمواطن كاذب. أما بالنسبة للشعب فالحكومة غير جديرة بالثقة ومسئولوها لصوص وكافة السياسات المتبعة هي خطوات محسوبة لمزيد من الإذلال الاقتصادي للشعب.
حكى لي صاحب شركة أنه كتب وبصدق كامل كل عملية مالية جرت في شركته لمدة العام الأول للشركة. ثم حضر المحاسب القانوني واطلع على الحسابات وقال لصاحب الشركة أن عليه أن يشتري دفتر ايصالات لكي يعيد كتابة كل العمليات الحسابية، أو على الأحرى أن يعيد تأليف سردية مالية بديلة. فلم يفهم صاحب الشركة السبب وراء هذه الأكاذيب وطلب من المحاسب أن يكون صريحا صراحة تامة مع مصلحة الضرائب. فرد المحاسب القانوني: على أية حال لن يصدق الموظف حرفا مما سوف نقدمه.
لا يمكن أن نقيم جسورا بيننا دون بناء جسور الثقة. ماذا لو منح الجميع الثقة في الآخر؟ ما هو ثمن الثقة؟
يمكن أن نخسر في البداية، يمكن أن يزيد الكذب في السنوات الأولى، ولكن لا شك عندي أن معدل الأكاذيب والخسائر سوف ينكسر بعد سنوات قليلة. فلا أمل لدينا لتحقيق أي تقدم سوى أن نصدق الآخر.
حقوق النشر: قنطرة 2020
خالد الخميسي روائي مصري، وكاتب، ومحاضر، وناشط ثقافي. تمحورت أعماله الروائية: "تاكسي"، و"سفينة نوح"، و"الشمندر" حول المجتمع المصري وتشريحه في نصف القرن الماضي. ترجمت أعماله الروائية إلى العديد من اللغات. نشر في عام 2014 كتابه الأول خارج فن الرواية: "2011 نقطة ومن أول السطر". تعرض مقالات الخميسي في مصر والخارج مزيجًا من خلفيته كمحلل سياسي وكاتب روائي.