المدن - "أطلال التعايش" العراقي: قراءة الخراب
استضافت غاليريهات لندن ومتاحفها، هذا العام، سلسلة من العروض من المنطقة العربية وعنها، كان ما يميزها هو تيمة مشتركة، تكررت بشكل لافت، وإن لم يكن بترتيب مسبق أو متعمد. في مطلع العام، استضاف غاليري "تشيزنهال" في شرق المدينة، معرضاً، باسم "تنويعات على حماقة"، فيه نصب الفنان الإيراني عباس أخافان، مجسم ضخم لصفوف الأعمدة الأثرية لقوس النصر في مدينة "تدمر"السورية، والذي خربته داعش في العام 2015. وفي الموسم الصيفي، استضاف المتحف البريطاني، عرضاً بعنوان "زجاج بيروت المحطم" لعدد من القطع الزجاجية الأثرية التي تحطمت في انفجار مرفأ بيروت العام الماضي، وتم ترميمها على أيدي خبراء المتحف البريطاني. وبالتوازي، عرض متحف "فيكتوريا وألبرت" تركيباً فنياً باسم "المنزل اللبناني: إنقاذ بيت إنقاذ مدينة"، حيث أعيد بناء نسخة بالأبعاد الأصلية لبيت بيروتي تراثي، تم ترميمه بعد تضرره جراء انفجار العام الفائت نفسه.
وفي تقاطع مع تيمات مشابهة، قدم غاليري "بروناي"، بكلية الدراسات الشرقية والأفريقية، عرضاً فنياً متعدد الوسائط، بعنوان "أطلال التعايش: استكشاف عراق ما بين النهرين من خلال الفن المعاصر". انطلق المعرض في سياق مشروع بحثي تولته الفنانة العراقية هناء مال الله، وبمشاركة أربع فنانات عراقيات، هن رياح عبد الرضا وبتول مهدي وفاطمة جودت وروزجار مصطفى، بالإضافة إلى الفنان العراقي الأميركي، مايكل راكوفيتز، كمشارك زائر. ويعيد المشاركون اكتشاف أربعة مواقع أثرية عراقية، هي أور وبابل ونفر ونمرود، على خلفية من آثار العنف الاستعماري الذي يحيط بها، وعمليات السلب والتهريب التي لحقت بمقتنيات البلاد التاريخية منذ الاحتلال الأميركي.
لطالما كانت المنطقة، من بلاد الرافدين إلى الهلال الخصيب (مع شمال أفريقيا بالتأكيد)، منجماً للقديم والأثري، وساحة تنقيب للأركيولوجيا الغربية، لصالح متاحفها. إلا أن عصر الاستقلال، ودوله الوطنية وهيئاتها الأثرية، كلها غيرت علاقات المعادلة، لتغدو المنطقة بمطلع الألفية منجماً للمُدمّر، للقديم الذي تم تحطميه عمداً أو على سبيل الخطأ، لكن بحكم تخريب الحاضر، لا أثر الزمن. هكذا يغدو الاحتلال الأميركي للعراق وداعش في سوريا وانفجار المرفأ في لبنان عناوين كثير من المعارض المتحفية اليوم، حيث لا يكون الاكتشاف أو النبش في الماضي هو الفعل المركزي، بل الترميم أو إعادة بناء النماذج بشكل رثائي حيناً واستعادي أحياناً أخرى.
عنوان معرض "أطلال التعايش" يضع اسم العراق العربي إلى جانب بلاد الرافدين، "ميزوبوتاميان"، الاسم التاريخي لحضارة ما بلاد النهرين في اللغات الأوروبية، وتحيلنا تلك المجاورة إلى الدور الذي لعبته الأركيولوجيا في تعريف الحاضر وتشكيل هوياته الوطنية. لفظة الأطلال في عنوان المعرض بالإنكليزية، جرى العرف على ترجمتها أيضاً إلى "خرائب"، الخرائب بمعناها الأثري، لكنها توحي هنا أيضاً بمعناها المشتق من الخراب. أما التعايش الذي يوحي به العنوان، فهو تعايش أنواع التخريب مع بعضها البعض، أو استقرار طبقات منه، كما يتمثلها أحد الأعمال، صورة لنقش مسماري بكتابة فوقه بالإنكليزية في ثلاث طبقات من أعلى إلى أسفل: كنز في الأطلال- داعش، كنز الأطلال-الاستعمار، العراقيون المحليون- نهضة الأطلال. الأسهم المرسومة بين الكلمات على العمل، والتي يمكن قراءتها كنص موازٍ، تربط بين الاستعمار وداعش، وفي الوقت نفسه تساوي بين العراقي الحديث وماضيه. اللغة الأصلانية والهوياتية تبدو هنا زاعقة، لكنها تخفت في بقية أعمال المعرض.
لا يسعى فنانو العرض إلى ترميم الماضي أو لملمة المخرب، بل يعملون على المزيد من التشويه الممنهج. تقوم هناء مال الله، بعرض خرائط للعراق بلا حدود، وبتوزيع عشوائي لأسماء المدن والمواقع فيها، وبحروق في نسيج اللوحة القماشي، مع طمس أسماء المواقع الأثرية المنهوبة. هنا يتم تجريد الخراب ببسطه في الخريطة، وتكثيفه بإرباك ترتيبها الداخلي وإتلاف مادته.
بتول مهدي، من ناحيتها غير معنية بالمقتنيات الأثرية نفسها، بل بالأعداد المكتوبة فيها باللاتينية والإنكليزية لترقيمها في الأرشيف المتحفي، تلك التي يمكن حسابها كفعل تخريب أوّلي طاولها بعد انتزاعها من الموقع الأصلي وإدخالها قسراً إلى عالم المتاحف. ولا تتوقف مهدي عند تصوير تلك الأعداد التسلسلية، بل تدمجها مع صور لأشخاص صوّرتهم في بغداد. يدمغ كود العنف، المقتنيات والبشر على السواء، هل يساوي هذا بين الاثنين؟ أي ينزل بالبشر إلى مستوى الأشياء، حتى ينتقد المبالغة في تقدير الخسارة المتأتية من فقدان المقتنيات الأثرية مقارنة بخسارة أرواح البشر؟ أياً كانت الإجابة، فما تفعله الصور البشرية المدموغة بأكواد المتحف هي أن تجعل أثر العنف مرئياً على الأجساد، بشكل مباشر، أن تحوله إلى معروضات حية.
من أجل إعادة امتلاك الماضي المسلوب، وربما الحاضر المخرب، تستخدم فاطمة جودت تقنية الدمج أيضاً، فتضع صورة لها على صورة لحائط أحد مواقع التنقيب التي حفرها أركيولوجيون أميركيون نهاية الأربعينيات. وبشكل مشابه تصوّر رياح عبد الرضا مقطعاً لها بالفيديو أثناء قيامها بالصلاة في أحد المواقع الأثرية. السكينة التي قد يشي بها التماس الشفاء من الماضي لكن لمداواة جروح الحاضر، تزعزها حقيقة أن المقطع صوّر من أعلى بواسطة مُسيّرة. في السياق العراقي، يفرض مشهد المسيّرة خوفاً يرتبط باحتمالية القصف.
في تلك المجاورة الأخيرة بين الصلاة والقصف، يوثق لنا "أطلال التعايش" بمجمل أعماله، نوعاً آخر من التعايش أو بعداً آخر لتعايش طبقات الخراب، هو تعايش البشر مع هذا كله، تجاوزه أو التحايل عليه وتحديه، وهو توثيق أقرب ما يكون إلى الاحتفاء بالنجاة.