المهاجرون في السينما الألمانية....من ضحايا إلى رعايا
لقد أصبح المجتمع متعدد الثقافات اليوم حقيقة واقعة، لكن الأمر لم يكن كذلك عندما وقعت ألمانيا وتركيا اتفاقية استقدام العمال بتاريخ 30 أكتوبر/ تشرين الأول 1962، إذ كان من المفترض آنذاك أن يعود معظم العمال الأجانب إلى أوطانهم بعد عامين أو ثلاثة أعوام، ولم يكن هناك من يتحدث عن الاندماج. لكن الكثير من "العمال الوافدين" بقي في ألمانيا، وأنجب فيها أطفالاً نشأوا هناك.
لقد أضحت ألمانيا بلداً للهجرة، وهذا أحد أسباب كون التعددية الثقافية عنصراً من عناصر السينما الألمانية. ويروج لهذا العنصر مخرجون من أصل تركي، مثل فاتح آكين ويلماز أرسلان وسينان أكوس. حتى بعض المخرجين الألمان وآخرين من "أصول مهاجرة" غير تركية بدأوا يناقشون هذا الموضوع. وفي يومنا هذا فقد تغيرت موضوعات الأفلام من الشعور بالغربة أو المعاملة كأجنبي في سبعينات وثمانينات وتسعينات القرن الماضي، إلى التركيز على "تصادم الثقافات" – الصراع الذي يواجهه الشباب، المحصور بين تراث البلد القديم وقوانينه، وبين التسامح والحرية في البلد الجديد.
رغبة في تقرير المصير
وفي هذا السياق الجديد يزداد تسليط الضوء على الفتيات الشابات اللواتي يطمحن لتقرير مصيرهن. غير أن هذا الطموح يصطدم بالقيم والعادات في عائلاتهن، خاصة تلك القيم التي يحددها الذكور في العائلة. وأفضل مثال على ذلك هو فيلم "الغريبة"، من إخراج فيو ألاداغ، حيث يحكي الفيلم قصة شابة تركية (تجسدها الممثلة الألمانية من أصل تركي زيبل كيكيلي، التي حازت على جائزة لولا الألمانية لأفضل ممثلة) ترغب في أن تعيش حياة مستقلة، وتقرر الهروب من زوجها العنيف في إسطنبول إلى والديها الذين يعيشان في برلين. إلا أنهما لا يظهران تفهماً لوضعها، ما يدفعها وابنها إلى طلب المساعدة في أحد بيوت مساعدة النساء. وهناك تتمكن من العثور على عمل، وتبدأ علاقة غرامية مع رجل ألماني. إلا أن هذه العلاقة تؤدي إلى "تلطيخ" شرف العائلة، الذي لا يمكن "تطهيره" إلا بقتل المسؤول عن تلطيخه.
هذه التراجيديا تتميز بكونها ظاهرة عامة غير مقصورة على المهاجرين الأتراك في ألمانيا، فهي تحاول كسر حواجز التعصب الموجودة في عالم مصغر مبني على هياكل وأحكام مسبقة متجذرة فيه. كما يزيد من أصالة الفيلم استخدام اللغتين الألمانية والتركية فيه.
ويتناول سو تورهان، وهو مخرج آخر من أصل تركي، الموضوع ذاته في فيلمه "أيلا"، الذي ترفض فيه بطلة الفيلم أن تحرم من استقلاليتها - لا من قبل والدها الصارم، ولا من قبل أختها المهووسة بالانسجام العائلي. وفي هذا الفليم تعمل أيلا خلال النهار معلمة في مدرسة للتمريض، وفي المساء تقف في حجرة تعليق المعاطف بأحد النواد الليلية، مرتدية زياً مثيراً وباروكة. وعندما تلجأ إليها إحدى مواطنات بلدها طالبة الاختباء، فإن المشاكل تتطور بين أيلا وإخوة "الهاربة". وبدوره نجح تورهان من خلال فيلمه الأول في تحقيق توازن بين قصة حب، وفتح نافذة على المجتمع المواز للمهاجرين، وبين إعطاء هذا الموضوع الصعب صبغة من التشويق.
قصص من عالم مجهول
وأما المخرج من أصل أفغاني برهان قرباني الذي ترعرع بين ثقافتين فقد حاول في فيلمه "شهادة"، أن يتعامل مع التناقضات التي تولدها كل من الثقافتين الإسلامية والألمانية. ويركز الفيلم على الأزمات والصراعات التي تقض مضاجع ثلاثة مسلمين محملين بمشاعر الذنب: شرطي من أصل تركي قتلت رصاصة طائشة من مسدسه جنيناً في رحم أمه، وابنة إمام تحب المتعة، اتجهت إلى الأصولية بعد عملية إجهاض، وشاب نيجيري يصارع ميوله الجنسية المثلية.
أما فيلم "الألباني" فيغوص في العالم المجهول للمهاجرين غير الشرعيين. ومن خلاله يروي المخرج يوهانس نابر بأسلوب طبيعي قصة مؤثرة لرجل طيب من جبال ألبانيا، يحاول كسب المال في ألمانيا من أجل تمويل زفافه، دون الاكتراث بأي اعتبارات أخلاقية، وفي النهاية يدفع ثمناً باهظاً مقابل ذلك. هذه النظرة على الواقع القاس، الذي يئد أي أمل في حياة أفضل، تكشف جزءاً من الواقع المجهول تقريباً لمن أصبحوا "غير مرئيين" في ألمانيا - جيش من الفقراء والعاطلين عن العمل ممن لا تحميهم القوانين ولا يتمتعون بأي حقوق، ووسيلتهم الوحيدة للنجاة هي العمل خارج إطار القانون. وبالنسبة لهؤلاء، فإن الحلم الأوروبي في الرخاء والازدهار للجميع لا يتعدى كونه حلماً لم يتحقق.
في حين تطرح المخرجة سميرة رادسي تساؤلاً في فيلمها "أندوني - الوطن الغريب" حول الوطن - أهو البلد الذي يتحدث لغتك؟ أم البلد الذي تحقق فيه ذاتك أو تبني فيه عائلتك؟ أهو شخص بعينه؟ من خلال طرح مثل هذه الأسئلة، تتمكن رادسي من معالجة عدة مواضيع مرتبطة بالاندماج واكتشاف الذات بشكل مثالي. ووسيلتها لتناول هذه المواضيع هي طالبة أرمينية في مهمة لمعرفة هويتها الحقيقية.
هذه التراجيديا الكوميدية متعددة الثقافات، التي تروي قصة حنين إلى الوطن، تلفت النظر إلى الارتباك العاطفي لامرأة ضائعة داخل كيانها - امرأة لا تعرف إلى أين تنتمي إلا بعد وقت طويل، ليس من الناحية الجغرافية، بل إلى جانب الشخص الذي تحب.
شجاعة وقوة وتفاؤل
وهناك الآن توجه للابتعاد عن "سينما التجهم"، وتبني نظرة أقل حزناً لدى عرض المواضيع الجادة. وهذا النوع من الأفلام لا يجذب قطاعات عريضة من الجمهور فحسب، بل ويرفع من وعيهم حول هذه المواضيع. وتتميز هذه الأفلام بثقة أكبر وبروح الدعابة، مثل فيلم "سول كيتشن" لفاتح أكين، حيث يعد هذا الفيلم من النوع الكوميدي المحبب إلى النفس، حيث تدور أحداثه في حي متعدد الثقافات تقطنه الطبقة العاملة بمدينة هامبورغ. وفي هذا الفيلم شاب ألماني من أصل يوناني طويل الشعر يحاول الاعتناء بمجموعة من الأشخاص من أعراق مختلفة - يكافحون من أجل التغلب على مصاعب الحياة، ورومانسيين في سعيهم لعالم مثالي.
أما فيلم "أهلاً وسهلاً بكم في ألمانيا"، الذي تميز بشجاعته وقوة طرحه ونظرته المتفائلة، فكان من مفاجآت عام 2011. فالفيلم يروي قصة عائلية طريفة عابرة للأجيال وللثقافات، تستمد قوتها من اللعب على الأحكام المسبقة، وترفع المرآة في وجه الأتراك والألمان. وخلال ثمانية شهور تمكن الفيلم من جذب 1.4 مليون مشاهد إلى دور العرض السينمائي. وهذا الفيلم يناقش أيضاً مسألة الهوية - هوية أفراد عائلة تركية على رأسها "سي السيد". فالأبناء ليسوا مهتمين بهذه الهوية، لأنهم مندمجون بنجاح في المجتمع. وكان كل شيء على ما يرام، حتى قام الوالد بـ"دفعهم" بلطف للقيام برحلة إلى الأناضول.
هذه الكوميديا المنعشة والمليئة بالأحكام المسبقة للمخرجة ياسمين سامديريلي، والتي قامت بكتابة السيناريو أيضاً بالتعاون مع أختها نسرين، تختلف تماماً عن الجودة الموجودة في فيلم فاتح أكين "ضد الحائط"، أو فيلم "قصير وبدون ألم"، أو فيلم "الغريبة" لفيو ألاداغ. فالأختان سامديريلي نشأتا في مدينة دورتموند، وتمكنتا من عرض حياة المهاجرين من منظور شخصي ودون إثارة الدموع. وبحسب ما تقولان، فإننا هنا وهذا ما يجب أن يكون، وهذه بارقة أمل للمستقبل.
مارغريت كولر
ترجمة: ياسر أبو معيلق
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر. معهد غوته وقنطرة 2012