ازدواجية خطاب حركة «النهضة» تنذر بإجهاض الثورة التونسية
لطالما نبّهت النخبة ومختلف مكوّنات المجتمع التونسي إلى النتائج المترتبة عن إستشراء ظاهرة العنف في جميع تجلياته: اللفظي والمادي والرمزي، ولكن لا مجيب. استخفّت الحكومة بالملف الأمني واختلقت خطابا تبريريا لما يجري وسوّغت وقائع بل وجدنا قيادات من الائتلاف الحكومي "الترويكا" تجيّش الجموع في الاجتماعات العامة والساحات وفضاءات العبادة وكذلك على الفايسبوك. ووصلنا إلى حد ممارسة العنف السياسي فكان مقتل لطفي نقض فاغتيال المناضل شكري بلعيد.
اليوم يُوارى جثمان بلعيد التراب في ظلّ صرخات الألم التي تعالت هنا وهناك بقطع النظر عن الجنس واللون والعرق والانتماء الحزبي. تحتدُّ وتيرة الخطاب الانفعالي وتسيطر ردود الفعل العاطفية ولكن ماذا بعد حادثة الاغتيال السياسي؟ ما الذي كشفته حادثة قتل بلعيد؟
دروس وعبر نستخلصها اليوم ، نجمعها في الآتي:
1- كيف يمكن لحزب النهضة، الحزب الحاكم فعليّا، أن ينمّق صورته بعد اليوم وأن ينتج خطابا يقنع، وأن يعدل عن نسج خطاب مزدوج: واحد يزعم تمثيل 'الإسلام الوسطي والحداثي'، يوجّه إلى الخارج، وآخر متشدّد يروم تنفيذ مشروعه بالقوّة؟
يقتضي الأمر الاعتراف بالأخطاء والخروج من التوظيف الديني السياسي إلى تحمّل المسؤولية الأخلاقية، والإقرار بأنّ حزب النهضة ليس جاهزا اليوم، لإقناع الجموع "بوسطية" منهجه و"حداثية" مشروعه، وأنّه بحاجة إلى ورشات فكرية تقوّم المسار المنجز وترسي خططا مستقبلية لا للهيمنة على مفاصل الدولة، بل للمشاركة في بناء تونس الغد من موقع الشريك لا الطرف الممثل للأغلبية الحاكمة. وباتت النهضة تتموقع في مسار يُظهِر عجز التيارات الإسلامية عن قيادة البلدان التي خاضت الحراك العربي.
2 - كيف لراشد الغنوشي أن يبني زعامته، التي أراد أن تحلّ محلّ زعامة بورقيبة، والحال أنّ كره الجموع يزداد على مرّ الشهور لا أدلّ على ذلك من الهتافات التي صاحبت جنازة الشهيد شكري بلعيد على غرار "يا غنوشي يا سفاح يا قتال الأرواح''؟ كيف له أن يجمع التونسيين وهو الذي انطلق بالنبش في الماضي: أثار قضيّة بن يوسف واعتبرها كقميص عثمان أداة لتشويه صورة بورقيبة، الذي اعتبره العدوّ اللدود ولكن سرعان ما انقلب السحر على الساحر فازداد أغلب التونسيين تعلّقا ببورقيبة فأحيوا خطبه وتداولوا أقواله واعترفوا بجميله وقارنوا بين بنائه للدولة الحديثة الوطنية وما أفضى إليه الأمر بعد حكم الغنوشي البلاد؟
لقد أراد الغنوشي تدمير الماضي وتحطيم صورة بورقيبة فجعله الخصم الحاضر الغائب، عبث بالذاكرة الجمعيّة، وأبى الغنوشي أن يرسم طريقه بعيدا عن بورقيبة بل أصرّ على أن يمحو ذكر خصمه فكان معول هدم لا أداة بناء في رفوف الذاكرة الوطنية.
3- كيف يمكن لحزب بمرجعيّة إسلاميّة قدّم نفسه على أساس أنّ أتباعه 'يعرفون الله' وسيقضون على تصحّر دينيّ ساد في تونس بسبب الأنظمة السابقة، أن يرسي المحبّة بين التونسيين ويوحّد صفوفهم وهو الذي لم يسع إلى تركيز منظومة قيمية بل عمل على تقسيم التونسيين إلى معسكرين:
النهضاويين والسلفيين في مقابل "العلمانيين الكفار"، وأطلق العنان لأشباه الدعاة يعبثون بالمساجد ، يكفّرون المثقفين والفنانين والإعلاميين ويستبيحون دماء المناضلين، وبرّر زعيم الحزب راشد الغنوشي أعمال رابطات حماية الثورة واعتبرهم "ضمير الأمّة الحيّ"، واعتبر اعتداءات السلفية على الحريات الفردية والعامة أحداثا معزولة صادرة من فئات تذكّره بشبابه وتبشّر بثقافة جديدة؟
4-كيف يمكن للرئيس المؤقت المنصف المرزوقي أن ينتج خطابا سياسيا يقنع التونسيين وأن يغيّر صورته التي ما عادت تُثير الاحترام غاية ما في الأمر أنّه تحوّل إلى أضحوكة في عالم الفايسبوك، يَعبث الشبّان بملامح وجهه ويتداولون مواقفه الهزلية والمضطربة وآخرها استقبال دعاة كفّروا المثقفين والأقليات الدينية كالبهائيين وغيرهم، ومليشيات تدكّ البلاد دكا، ومجموعات سلفية تروّج للجهاد؟
5-كيف يمكن "للترويكا"، الثلاثية الحاكمة أن تقنع بجدوى استمراريتها في ظلّ أزمة سياسية معقّدة وفقدان ثقة التونسيين في الرؤساء، وفي أغلب نوّاب المجلس التأسيسي، الذين تعالت الأصوات مندّدة بضعف أدائهم وجشعهم المادي وتلاعبهم بمصالح البلاد؟ كيف لهذه التركيبة الهجينة أن تستمرّ والحال أنّها صارت عنوان هيمنة حزب النهضة على حلفائه، وداخل الترويكيا أغلبية وأقلية؟ كيف لحزبي اليسار(المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب التكتل) اللذين أقنعانا بأنّهما دخلا الترويكا للجم حزب اليمين ،فإذا بالنهضة تنجح في ترويض حَليفيها؟
6- كيف لدستور البلاد أن يكتب بروح توافقية بعد أزمة سياسية معقّدة بعد أن أعلن رئيس الحكومة عصيانه للحاكم بأمر الله الغنوشي ومال نحو إنقاذ مسار التحوّل نحو الديمقراطية؟ كيف لهذا الدستور أن يكون دستور جميع التونسيين والحال أنّ النسيج الاجتماعي دمّر بعد حالة الاستقطاب الحدّي وانطلاق التهديدات بالقتل وتصفية الخصوم وانتشار الجماعات السلفية تحرس الأحياء، و'رابطات الثورة' تجوب البلاد و'ميليشيات النهضة' ترهب الناس؟
لا مخرج ممّا نحن فيه إلاّ متى اعتبرنا حادثة اغتيال شكري بلعيد لحظة مفصلية تستدعي تحوّلا في النظرة إلى الأنا والآخر وتغييرا في طريقة التعامل مع الخصوم السياسيين و مختلف مكونات المجتمع المدني.
كنّا نتوقع من الفاعلين السياسيين، وخاصّة من هم في سدّة الحكم والمسؤولين عن إدارة المسار الانتقالي جرأة في الطرح وقدرة على المواجهة ووعيا بأنّ الآتي يجب أن يختلف عمّا مضى شكلا ومضمونا.
ضرورة الاعتراف بالأخطاء وتغيير النهج
كنّا ننتظر الاعتراف بالمآزق ومنها:
1- كيف السبيل إلى توحيد المشهد، والحال أنّه قد تغيّر إذ ما عاد بالإمكان الحديث عن التونسيين بصيغة الجمع وبتحقّق الإجماع. جنازة الشهيد شكري بلعيد، لم تجمع التونسيين في لحظة خشوع ولم توحّد شملهم ولم تجسّم مخاوفهم، ولم تجعلهم كالبنيان المرصوص يهتفون "كفى عنفا'؟.
2- كيف السبيل إلى إعادة الاعتبار إلى مفهوم الوطنيّة وإضفاء معنى على مقولة "حبّ الوطن من الإيمان" وتفعيل الحسّ الوطنيّ وجمع التونسيين حول المشترك (العلم، النشيد الوطني، حماية الوطن، ...)بعد أن انقسموا فئات تتناحر وتتباغض بسبب اختلاف الولاءات؟
3- كيف السبيل إلى إنجاز الأمن وتحقيق السلم الاجتماعي وإعادة الثقة في المؤسسة الأمنية والحال أنّ فئات سلفية تحمي أحياء، ورابطات حماية الثورة تسيطر على أحياء أخرى، وصعاليك يتربّصون ببعض الأنهج على مرأى ومسمع الجميع؟
4- كيف السبيل إلى إدارة الشأن الدينيّ والحال أنّ قياديين في حزب النهضة ونوّابا من المجلس التأسيسي تلتبس في أذهانهم الأدوار: يخلطون بين دور الداعية ودور السياسي يُدينون السياسة ويُسيّسون الدين؟ كيف السبيل إلى حماية القيم وترشيد الخطاب الدينيّ وأشباه دعاة يقوّضون التماسك الاجتماعيّ في مساجد أحدثت ليعبد فيها الله فإذا بها تتحوّل إلى قاعدة استراتيجية لتصفية الأعداء؟
5- كيف السبيل إلى إعادة ترتيب الأولويات: معالجة الوضع الاجتماعي بدل تقاسم الغنائم، إعادة ثقة التونسيين في الحكّام بدل الاستمرار في تكريس المحاصصة الحزبية، إيلاء ملفّ الشهداء والجرحى ما يستحقه من عناية بدل الاستقطاب الحدّي، بعث حوار وطني فعليّ بدل افتعال حالات هرج حول حجاب الصغيرات، وتكفير العلمانيين، ...؟
6- كيف السبيل إلى إعادة البريق والمعقولية إلى الكلمات: دستور حداثي، دستور توافقي، دستور طلائعي وريادي.، دولة مدنية، دولة القانون، دولة المؤسسات، استقلالية القضاء، ..وبعث رسائل طمأنة حقيقية إلى الجموع حول تونس الغد؟
يقتضي الأمر الاعتراف بالأخطاء ، وأهمّها أنّ حزب النهضة قاد البلاد وفق عقيد الاصطفاء فأتباعه أكثر الناس قربا إلى الله ووزراؤه محصنون من الفساد وحكومته 'أعظم حكومة في التاريخ' وآن الأوان أن ينزل من عليائه وأن يتعامل مع الفاعلين السياسيين من موقع المسؤول عن إنجاح المسار الانتقالي فهو شريك في البناء وليس الوحيد 'المهندس للتحوّل'.
كما أنّه يتعيّن على كل قيادات النهضة التي التبست أدوارها بين العمل الدعوي المسجدي والعمل السياسي (كراشد الغنوشي ، والحبيب اللوز والصادق شورو، ونور الدين الخادمي...) أن تترك الحقل السياسي وأن تتوجّه إلى العمل الدعوي او الخيري إن رأت ذلك. فقد أثبتت على مرّ السنتين أنّها تدير صراعات الحقل السياسي واستحقاقاته ورهاناته بعقلية"الفقيه"، الذي يخاطب جماعة المؤمنين، ولا تتدبّره أو تقاربه بعقليّة السياسي الذي يتوجّه إلى"المواطن" مهما كان جنسه أو مذهبه أو عقيدته.....
وما دام التباس الأدوار مستمرا و"الفقيه" لا "رجل الدولة" هو الحاضر فلن تنجح النهضة إلا في جرّ البلاد إلى مزيد من الأزمات وعزل نفسها داخليا وخارجيا، خاصّة في ظلّ معارضة لازالت توحّد صفوفها، تعوزها الإمكانيات المادية والقدرة على تعبئة المهمّشين والشباب الذين ما عادوا يؤمنون بإمكانية الخروج من الأزمة.
د.آمال قرامي
تحرير: لؤي المدهون
حقوق النشر: موقع قنطرة 2013