دروس من تونس الديمقراطية لولي العهد السعودي محمد بن سلمان
يحطّ ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، يوم الثلاثاء 27 نوفمبر 2018، بالعاصمة التونسية محطته الرابعة في جولته الخارجية الأولى منذ مقتل الصحافي جمال خاشقجي بقنصلية بلاده في إسطنبول قبل شهر.
وعلى غير المحطات الثلاث السابقة للأمير محمد بن سلمان، الإمارات والبحرين ومصر والتي لاقى فيها ترحيبا استثنائيا، تبدو زيارته إلى تونس مختلفة لكونها تُرفق باحتجاجات شعبية واسعة ترفض قدوم بن سلمان وتذكره بسجله المعيب.
احتجاجات ودعاوى قضائية
بدأت الاحتجاجات منذ اليوم الأول لإعلان الرئاسة التونسية عن قدوم ولي العهد السعودي وترحيبها بالزيارة، انطلقت جبهة الرفض على منصات التواصل الاجتماعي، قبل أن تشمل الشوارع وأروقة القضاء أيضا مع تعهدات بمزيد من التصعيد.
تقود نقابة الصحافيين التونسيين الاحتجاجات، ويؤكد قياديو النقابة أنّ الأمير محمد بن سلمان "خطر على أمن واستقرار البلاد"، خاصة وأن عديد الجهات الدولية تتهمه بارتكاب انتهاكات ضدّ حقوق الإنسان في داخل المملكة وخارجها.
وقرّرت نقابة الصحافيين التونسية رفع دعوى قضائية ضد زيارة بن سلمان. وأكدت عضو المكتب التنفيذي، سكينة عبد الصمد، خلال مؤتمر صحافي، أن النقابة "قررت رفع دعوى قضائية مستعجلة ضد زيارة ابن سلمان"، مشيرة في ذات الوقت إلى التحضير لـ"تحركات احتجاجية واسعة بالتعاون مع عشرات من منظمات المجتمع المدني والاحزاب الرافضة للزيارة".
وقالت النقابة إنها استندت في دعواها القضائية، إلى نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي وقَّعت عليه تونس للحد من الإفلات من العقاب في جرائم الحرب، داعيةً إلى إحالة ملف انتهاكات حقوق الإنسان في اليمن إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية.
يندّد المجتمع المدني في تونس بالموقف الرسمي الذي قبل باستضافة ابن سلمان "الذي تلطخت يداه بدماء الصحافي السعودي جمال خاشقجي والشعب اليمني"، في حين أطلق نشطاء عددا من الوسوم على تويتر تستهدف شخص الأمير السعودي وترفض قدومه.
وبالتزامن رفع عدد من المحامين والفنانين والمثقفين والإعلاميين دعوى قضائية أخرى لدى المحكمة الابتدائية بتونس لإلغاء زيارة ولي العهد السعودي إلى بلادهم، نتيجة الشبهات التي تحوم حول تورطه في عديد الجرائم في اليمن، وفي وقت سابق أعلن 50 محامٍ تونسياً أنهم رفعوا قضيةً مستعجلة لمنع زيارة بن سلمان.
تطويق تداعيات الجريمة
يبدو توقيت الزيارة، التي يؤديها ولي العهد السعودي إلى عدد من الدول العربية مهما للغاية، فهي أول زيارة له منذ جريمة اغتيال خاشقجي، وتبدو كمحاولة لكسر الطوق الذي ضُرب من حوله مع تزايد الأدلة التي تشير إلى تورطه شخصيا في اعطاء أوامر لفريق الاغتيال لتنفيذ جريمته.
ويرى المراقبون أنّ بن سلمان سيحتاج إلى الكثير من الوقت والجهد حتى يتمكن من فك عزلته في الغرب، لذلك اختار أن يبدأ بالانفتاح أكثر على دول المنطقة لكسب ودّهم وضمان دعمهم، رغم أن محطاته الأولى بدأت بدول لا يخفي ساستُها انحيازهم للرواية السعودية، على غرار الإمارات والبحرين ومصر.
وتسعى الرياض من خلال هذه الجولة المثيرة للجدل والتي ستُختتم بلقاءات مهمة في قمة العشرين في الأرجنتين، إلى الدفع بقضية خاشقجي إلى مستواها "الجنائي المحض"، والقاء الكرة في ملعب القضاء السعودي ليحاكم مقترفيها، ونفي اي دوافع سياسية كما يروج الاعلام التركي والغربي منذ أسابيع.
رسائل في اتجاهات مختلفة
يمرر ولي العهد المُحاصر رسائل كثيرة في زيارته الى دول عربية قد يواجه فيها احتجاجات على غرار تونس والجزائر وموريتانيا، رغم أن الديوان الملكي لم ينشر قائمة بالدول التي سيزورها الأمير على غير ما تجري به العادة في مناسبات كهذه، ما يولّد انطباعا لدى المتابعين بأنّ الغاء بعض الزيارات وارد للغاية في حال حصل طارئ.
رسالة محمد بن سلمان الموجهة للخارج، تقول إنه لا يشغل بالا بردود الفعل العربية والدولية الناجمة عن اتهامه بالوقوف وراء عملية الاغتيال، وأنّ التهديدات بمحاكمته واعتقاله أو رفض ملاقاته، لا تحرّك له ساكنا طالما أنه مسنود من جيرانه ومن والده الملك سلمان بن عبد العزيز.
الرسالة الثانية موجهة للداخل السعودي نفسه، ومفادها أنّ الأمير الشاب ما زال الحاكم الفعلي للمملكة العربية السعودية، ولا يواجه أي أخطار، أو مؤامرات داخلية للإطاحة به، والزيارة بمثابة الردّ على تقارير صحافية تشير إلى أنّ أمراء من آل سعود يجتمعون ويعدّون لقطع الطريق أمام الأمير بن سلمان حتى لا يتولّى العرش بعد حادثة خاشقجي، وتنصيب بدلا عنه، عمّه الأمير أحمد بن عبد العزيز، البالغ من العمر 76 عاماً، ملكا على عرش البلاد، وهو شقيق كامل للملك سلمان، ويبدو مقبولا بين أفراد العائلة المالكة والأجهزة الأمنية وبعض القوى الغربية.
[embed:render:embedded:node:33041]
لماذا تونس؟
يستغرب المتابعون اختيار ولي العهد السعودي لتونس كإحدى محطاته، رغم أنه يعلم يقينا أنه قد يلاقي في تونس ما قد لا يلاقيه في العواصم الثلاث الأخرى التي زارها.
يذكّر المحتجون بن سلمان ومُضيّفه الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي عبر تويتر وفي الشعارات التي رُفعت في الشارع، بأنّ تونس "مهد ثورة الحرية والكرامة" لا تقبل تبييض سجلّ الأمير السعودي على حسابها، ويذكّر النشطاء بأنّ ثورة الحرية وهبتهم حق التظاهر والتقاضي بكل حرية، وأن تونس ليست مصر التي تُمنع فيها المسيرات السلمية التي تندد بزعماء ومسؤولين من الخارج.
وعلى ما يبدو يغامر الأمير محمد بن سلمان بالقدوم إلى تونس، وربما يتكئ في مغامرته تلك على الرئيس الباجي قائد السبسي، وهو شخصية صعبة المراس قلّما تتراجع عن خطوة سبق وأن التزم بها، وقد يتعرّض الطرفان لضغوط قصوى من المجتمع المدني، لكن من الصعب أن يلغي كلاهما الزيارة.
يقول المراقبون إن الأمير السعودي يستند في مغامرته كذلك على الوضع الاقتصادي الصعب لتونس، ونظرا لثراء المملكة، يعتقد الطرف السعودي أن استثمارات او هبات يمكن أن تُسيل لعاب الطرف التونسي فيقدم صكا على بياض وينحاز للروايتين السعوديتين فيما يتعلّق بقتل خاشقجي، وضرورة مواصلة الحرب في اليمن حتى دحر الحوثيين.
تعود العلاقات السعودية التونسية إلى أربعينات القرن الماضي، وتحدث عنها الرئيس الباجي قائد السبسي مطولا أمام الاعلام السعودي عندما قام بأول زيارة للملكة بصفته رئيسا لتونس في العام 2015.
لكنّ الدعم، الذي تلقته تونس من السعودية يبقى متواضعا مقارنة بما تسلمته من دول أخرى.
وفي تونس اتجاه عام يعتقد أنّ السعودية تناصب الثورة التونسية العداء منذ اليوم الأول، خاصة وأنها استقبلت الرئيس الفار بن علي ورفضت تسليمه في عدة مناسبات لمحاكمته في بلاده على جرائم تتعلق بالقتل والاختلاس واستعمال نفوذه. بل ويعتقد عدد كبير من التونسيين أن السعودية تقدم المعونات فقط لأطراف تونسية لا تؤمن بالثورة، إذ كانت الرياض تخشى من أن يطال لهيب الانتفاضات المملكة، فكان تعاطيها مع الاحداث في سوريا واليمن وليبيا ومصر سلبيا، وانحازت إلى الوجوه القديمة.
وأياً تكن مآلات الزيارة، وسواء ألغيت أو استمرّت، سيتعلم الأمير محمد بن سلمان في تونس درسا يصعب عليه تعلمه في دول الخليج أو مصر، فالموقف الرسمي المرحّب به، يجابه بموقف شعبي "ثوري" رافض وأكثر صخبا ودويا، وهذه مشاهد ومواقف كان الأمراء والملوك السعوديون يرونها فقط في الغرب، فهم يحتجون على النشطاء والاعلام والصحف الغربية التي تنتقد زياراتهم وتفضح سجلاتهم، فيكون الردّ الرسمي الغربي: "نحن في بلد ديمقراطي ويحق للجميع التعبير عن آرائهم"...
هذه المرة سيسمعها في بلد عربي.
إسماعيل دبارة
حقوق النشر: موقع قنطرة 2018
إسماعيل دبارة صحافي وعضو الهيئة المديرة لمركز تونس لحرية الصحافة.