لا سبب للحنين إلى أمان الديكتاتورية البشعة
بعد مضي أكثر من عامين على تأسيس هيئة الحقيقة والكرامة، يتم الآن إجراء أولى جلسات الاستماع العلنية. فما أهمية هذه الجلسات؟
سهام بن سدرين: حتى يومنا هذا أجرت "هيئة الحقيقة والكرامة" أكثر من عشرة آلاف وخمسمائة جلسة استماع غير علنية. وهذه الجلسات تمنح الضحايا الوقت الضروري من أجل سرد ما حدث لهم. والهدف من هذه الجلسات غير العلنية هو الكشف عن الحقيقة. أمَّا في جلسات الاستماع العلنية فيتعلق الأمر بالوصول إلى كلِّ أفراد الشعب من أجل الكشف لهم عن ستة عقود من انتهاكات حقوق الإنسان المنهجية والواسعة النطاق من قبل دولةٍ من المفترض أنَّ واجبها هو حماية حقوق مواطنيها وحرِّياتهم.
وجلسات الاستماع العلنية تُظهر ما هي الأشكال التي يمكن أن يتَّخذها الحرمان من الحقوق، وكيف يبدو شكل الحكم الاستبدادي، وكيف كان يتم تدمير حياة المواطنين وأسرهم تدميرًا تامًا، لأنَّهم كانوا يريدون ممارسة حقّ أساسي - ولهذا السبب ما الذي يجب ألاَّ يتكرَّر.
والضحايا لم تحرِّكهم دوافع الانتقام. وجميعهم يقولون في النهاية: "هذا جزء من الماضي. ولكنني أتمنى مع ذلك أن يعترف بالحقيقة الأشخاص الذين دمَّروني ودمَّروا عائلتي. وأن يطلبوا العفو منِّي وثم أعفو عنهم". وهذا يبيِّن أنَّ تونس قد تطوَّرت بشكل لا يصدَّق.
كثيرًا ما يتم اتِّهامنا بأنَّه كان يجب علينا أن نبدأ هذه المعالجة مباشرةً بعد الثورة، بدلاً من انتظارنا خمسة أعوام. وبعض التونسيين يتحسَّرون اليوم على زمن الدكتاتورية. فالناس يتوقون إلى المزيد من الأمن والاستقرار. والديكتاتورية ضمنت لهم بطبيعة الحال الأمن والاستقرار إلى حدّ ما، ولكن ماذا كان الثمن؟
هل يعني هذا إذًا أنَّ جلسات الاستماع تعتبر كنوع من تحصين المواطنين للمستقبل؟
سهام بن سدرين: بالضبط تمامًا. من المهم تذكير المواطنين بمدى بشاعة هذه الديكتاتورية، وأنَّه في الواقع لا يوجد أي سبب من أجل الرفع من مستوى هذه الدكتاتورية من خلال الحنين إليها. والأشخاص الذين نسوا ذلك العهد أو باتوا يتظاهرون بأنَّهم يعانون من فقدان الذاكرة، نحن نضع هذه الذاكرة أمام أعينهم.
يجب علينا ألاَّ ننسى ما حدث، ويجب علينا أن نحزن. وجلسات الاستماع العلنية تمثِّل بالتأكيد الوقت المناسب من أجل ذلك. وبعد ذلك يمكننا أن نبدأ شيئًا جديدًا. ولكن لا يجوز لنا أن نقابل الماضي بفقدان الذاكرة، بل يتعيَّن علينا أن نتذكَّره.
في جلسات الاستماع العلنية يتم فقط تناول الحالات التي تمت دراستها بالفعل وبالتالي التي تمت معالجتها. لماذا اخترت هذا الشكل؟ أليس هذا شكلاً من أشكال الإخراج والتمثيل؟
سهام بن سدرين: هنا يتعلق الأمر بحالات خطيرة للغاية، وهذا يعني جلسات استماع غير علنية، عادةً ما تستغرق حتى ثلاثة أيَّام. ومن المستحيل معالجة شيء كهذا بشكل علني. وفي هذه الجلسات عادة ما يضع الضحايا الجانب العاطفي في المقدمة، أي معاناتهم من التعذيب. ولكن لقد كان لا بدّ لنا من تحديد المدة المخصصة للحديث، وذلك لأنَّ هذه الشهادات محزنة جدًا. والضحايا يخضعون بطبيعة الحال قبل جلسات الاستماع وبعدها للرعاية النفسية.
يبلغ مجموع الطلبات التي تم تقديمها إلى "هيئة الحقيقة والكرامة" أكثر من ستين ألف طلب من أجل معالجة الانتهاكات، الممتدة في الفترة الزمنية بين عامي 1955 و2013. وفترة رئاستك لهذه الهيئة ستنتهي بعد عام ونصف العام - فهل يمكنك على أية حال الانتهاء من هذا العمل الضخم حتى ذلك الحين؟
سهام بن سدرين: بالتأكيد. يعتقد الكثيرون أنَّنا قد بدأنا عملنا فقط في السادس عشر من حزيران/يونيو 2016، أي الموعد النهائي لتقديم الطلبات. وهذا بطبيعة الحال غير صحيح. لأنَّنا بدأنا بالفعل قبل فترة طويلة في فرز الطلبات وإعدادها. في البدء يتم تسجيل الطلبات وثم يتم فرزها. وفيما بعد يتم عقد جلسة استماع غير علنية، يتم فيها تسجيل المحضر وتخزين جميع المعلومات في قاعدة بيانات، ثم يرسل الملف إلى قسم الدراسات والبحوث المختص. يوجد محامون يراجعون الحالات، ويبحثون عن مواد أرشيفية وأدلة تدعم مطالب الضحايا. ويستدعون الشهود والجناة المفترضين إلى مواجهة - تمامًا مثلما يفعل القضاة أيضًا.
غير أنَّ الأمر هنا لا يتعلق بقضاء عادي، يتعامل مع حالة تلو الأخرى. وفي هذه "العدالة الانتقالية" تمثِّل حقيقة انتهاك حقوق الإنسان جانبًا محوريًا، أي السؤال حول الإطار الذي وقعت ضمنه جريمة محدَّدة. وتتم مراجعة عامل الزمن لدينا ضمن إطار خاص، يسمح لنا على أية حال بمعالجة هذه الكمية الكبيرة من الحالات. نحن نميَّز ما مجموعه ثمانية عشر حدثًا تاريخيًا، وقعت ضمن إطارها انتهاكات، وحول هذه الانتهاكات توجد بالفعل جميع المعلومات المهمة.
توجد حاليًا مئات المراكز المختصة بجلسات الاستماع، التي يعمل في كل واحد منها مرشد اجتماعي ومحامٍ. وبحسب الحالات يتم هناك عقد جلستي أو ثلاث جلسات استماع يوميًا، بشرط أن تكون الحالات بسيطة نسبيًا. وفي الحالات الصعبة تستغرق جلسة الاستماع على الأقل يومًا كاملاً.
وبالتالي فنحن قادرون في المتوسط على معالجة ما بين مائتي حالة وثلاثمائة حالة يوميًا. وبعد ثمانية أشهر نريد أن نكون قد أنجزنا جميع جلسات الاستماع غير العلنية. ونحن نستطيع فعل ذلك، ولكن يجب على المرء أن يدعنا نعمل. فدائمًا يتم وضع الحجارة في طريقنا.
مَنْ تقصدين بذلك؟
سهام بن سدرين: أنا أقصد بذلك الدولة المعروفة باسم "الدولة العميقة". هنا تولد الدولة الديمقراطية من جديد، غير أنَّ الدولة القديمة لم تمت بعد. وهي تحاول إرجاعنا إلى الماضي. وفي كلِّ مرة حينما نتعامل مع ممثِّلي هذه "الدولة العميقة" - وهؤلاء الأشخاص يجلسون في جميع السلطات الإدارية - نحتاج الكثير من الوقت، من أجل الحصول على المعلومات الضرورية. وعلى الرغم من أنَّنا ننال حقنا في آخر المطاف، ولكن في كل مرة نخوض معركة. وبالإضافة إلى ذلك كثيرًا ما يتم تعيين أشخاص يعملون ضدَّنا ويحاولون عرقلة عملنا.
بسبب هذا الخلاف الداخلي شهدت هيئة الحقيقة والكرامة استقالات وعمليات فصل داخلية منذ تأسيسها. فهل يمكن أن يكون العمل أكثر بساطة لو كانت جميع الوظائف فيها مشغولة؟
سهام بن سدرين: من واجب البرلمان أن يملأ من جديد هذه الوظائف الشاغرة. وإذا كان يوجد هنا طرف لا يؤدِّي مهمته، فهو البرلمان. نحن لا نستطيع توظيف أشخاص بدله. لدينا ولاية برلمانية مدَّتها أربعة أعوام، ومنذ عامين ونصف العام ننتظر البرلمان. لقد كتبتُ حتى الآن خمس عشرة رسالة واِلتقيت أربع مرات برئيس البرلمان. وهو يعدني منذ شهر تموز/يوليو 2015 بأنَّه سيهتم بهذه المسألة.
هذا يعني أنَّ هناك نقصًا في الإرادة السياسية؟
سهام بن سدرين: على الرغم من أنَّ "العدالة الانتقالية" منصوص عليها في الدستور، ولكن تحدث مرارًا وتكرارًا انحرافات في السياسة.
أين تكمن التحدِّيات التي تواجهك في عملك اليومي؟
سهام بن سدرين: صحيح أنَّنا نستطيع الوصول إلى العديد من الدوائر الحكومية، بحيث يمكننا على الرغم من ذلك التقدُّم، ولكن في الواقع لا يمكننا الوصول إلى أرشيف وزارة الداخلية. وما يبشِّر بالخير هنا هو أنَّ الحكومة التونسية تقوم بتوثيق كلِّ شيء، ويمكننا العودة إلى تقليد عريق من أرشيف طويل الأمد. ويمكن إيجاد وثيقة ما في ثلاثة إصدارات داخل ثلاثة أماكن مختلفة. وكثيرًا ما يحدث أنَّنا نجد وثائق في مكان ما لا يفترض أنَّها في الواقع موجودة فيه. ولذلك فإنَّ عملنا ليس سهلاً، بيد أنَّنا نحقِّق على الرغم من ذلك نتائج جيِّدة.
وفي الحالات المعروضة الآن من قبلنا لا توجد لدينا أدلة فقط، بل لدينا اعترافات من الجناة أيضًا. والكثيرون منهم يطلبون العفو عنهم. وهذا هو بالتحديد ما يهمنا: أي جعل الجناة يعترفون بأنَّ أفعالهم كانت إجرامية. وبالتالي بما أنَّ إرادة العفو هذه موجودة، فإنَّ الضحايا سيجدون سلامهم الداخلي.
حاورتها: سارة ميرش
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2016