''ارفعوا أيديكم عن ثورتنا''!
السيِّد طاهر، بدأت يوم الأربعاء في الثالث والعشرين من أيَّار/مايو الجاري الانتخابات لاختيار رئيس الجمهورية في مصر. ولأوَّل مرة في التاريخ شهدت مصر مناظرة تلفزيونية بين مرشَّحين. هل شاهدت تلك المناظرة؟
بهاء طاهر: بكلِّ تأكيد، مصر كلّها كانت جالسة أمام التلفاز وكانت المقاهي مزدحمة؛ الناس متعطِّشون إلى الشفافية السياسية، فهذا الشيء لم يكن موجودًا في مصر على الإطلاق.
تنافس في هذه الانتخابات ثلاثة عشر مرشحًا. لماذا لم تمنح فرصة المشاركة في مناظرة تلفزيونية إلاَّ للمرشَّح الليبرالي عمرو موسى والإسلامي عبد المنعم أبو الفتوح بالذات؟
طاهر: كان يقال إنَّهما كانا يتصدَّران قائمة المرشَّحين، ولكن هذا ليس صحيحًا. وربما كان الهدف هذه المناطرة تحويلهما إلى أهم متنافسين في الانتخابات.
هل تود رؤية أي منهما رئيسًا جديدًا لمصر؟
طاهر: لا، فأنا أعتقد أنَّ حمدين صباحي هو الأفضل. لأنَّه شخص علماني كان يناضل دائمًا ضدّ نظام حسني مبارك. ومع أنَّ زوجتي لا تتكلَّم اللغة العربية إلاَّ أنَّها عندما شاهدته ذات مرة وهو يتحدَّث قالت لي: أنظر إلى إيماءاته وتعبيرات وجهه، إنَّه شخص جيِّد. ولكنه لن يفوز لأنَّه ليس ثريًا.
هل هذا معيار؟
طاهر: بكلِّ تأكيد! القاهرة برمَّتها مغطاة بالملصقات الانتخابية، ولكن حتى أعثر في مكان ما على وجه صباحي يجب علي أن أجهد نفسي في البحث عن ملصقاته.
من يدفع ثمن ملصقات الإخوان المسلمين؟
طاهر: نحن جميعنا نود معرفة ذلك. وهم يزعمون أنَّ المال يأتي من الناخبين، ولكنني لم أدفع حتى الآن ثمن أي ملصق انتخابي لحمدين صباحي!
ربما يكون السعوديون؟
طاهر: هذه الشائعات موجودة. وكذلك توجد شائعات تقول إنَّ أنصار حسني مبارك ينفقون الكثير من المال على مرشَّحيهم. ولا أحد يعرف في هذه الانتخابات إن كان المال يأتي من داخل البلاد أو من خارجها. وهذا يربك الناس.
محمود بطل روايتك "واحة الغروب" يشعر بالإحباط وخيبة الأمل بسبب الأوضاع السياسية التي يريد تغييرها، ولكنه لم ينجح في ذلك. وفي عام 2008 كتبت هذه الرواية التي تبدو بمثابة نبوءة نظرا إلى الاوضاع الحالية؟
طاهر: من الممكن أن يكون هذا صحيحًا، ولكن أَليس الأدب دائمًا نبوءة؟
لقد تحوّل الآن الحماس الثوري إلى خيبة أمل قوية. هل تشعر أيضا بخيبة أمل؟
طاهر: لا، إذ إنَّ كلَّ ثورة في التاريخ كان لديها مدّها وجزرها وهكذا هي الحال أيضًا في مصر. نحن ما نزال في خضم الثورة ولذلك يجب علينا أَلاَّ نحكم عليها دائمًا. وإلاَّ فإنَّنا سنعاني معاناة مروعة مع كلِّ نكسة وسنتفاءل ونفرح كالمجانين لكلِّ نجاح - وهذا ما يحدث معي على أية حال.
لقد كنت طيلة حياتك سياسيًا، ولكن على الرغم من ذلك فإنَّ هذا يرهقك إلى هذا الحدّ؟
طاهر: كنت سعيدًا للغاية عندما اندلعت الثورة وقد عشت في هذه الأسابيع الكثير من الفرح والسرور الذي يكفي لعشرة أعمار. وأنا في الحقيقة لا أبالغ هنا. ومن ثم بدأت المشكلات، وذلك لأنَّ الثورة ينقصها التطبيق.
هل يعود ذلك إلى عدم وجود قائد؟
طاهر: لقد كان هذا من ناحية إيجابيًا، فهو بالذات ما بعد حداثي. ولكن مع ذلك لقد قفز الكثيرون فوق قطار الثورة وصاروا يحاولون تولي القيادة - من الإسلاميين والجيش والفوضويين. ولكن لحسن الحظّ إنَّ ثوَّار الساعة الأولى ما يزالوا موجودين. وحينما يحاول شخص ما سرقة ثورتهم، فإنَّهم يدافعون عنها حتى وإن كان ذلك يكلِّفهم دماءهم.
لكن تسكب الآن ومن جديد في الشوارع المصرية الكثير من هذه الدماء. هل ما يزال الناس يتفقون على مواعيد الخروج في المظاهرات على شبكة الانترنت؟
طاهر: ليس فقط، إذ يحدث أحيانًا أن يدخل أعداء الثورة بأسماء مزيَّفة إلى المنتديات الخاصة بالثورة. لم يعد من الممكن التأكّد من هوية مَنْ يكتب. ولكن من المهم أيضًا أن يتركنا الأوروبيون والأمريكان بحالنا.
لماذا يجب على الغرب ترككم بحالكم؟
طاهر: لأنَّهم كانوا يتدخَّلون في كلِّ ثورة حدثت لدينا حتى الآن ويخرِّبون كلَّ شيء. وعندما انطلقت الثورة الحالية وقفت أمريكا وأوروبا في البداية مع حسني مبارك. ولكن عندما أصبح من الواضح أنَّه لا يمكن إيقاف هذه الثورة، تلقينا فجأة الدعم من الغرب. فيا ترى ما هو موقف الغرب الحقيقي؟ وأين تكمن مصلحته؟ أنا لا أستطيع من جانبي الإجابة عن ذلك.
يعتقد الكثيرون في الغرب أنَّ الإسلام لا يتَّفق مع الديمقراطية. فما رأيك في ذلك؟
طاهر: هذا هراء سخيف، حيث تظهر تركيا وماليزيا عكس ذلك. وربما يتعيَّن علينا جميعنا أن نصبح بوذيين، فمن الممكن أن يكون ذلك أسهل بكثير.
هل غيَّرت الثورة عمل الكتَّاب؟
طاهر: أنت تعلمين أنَّني عاصرت ثلاثة أنظمة كانت تمارس الرقابة، وكان كلّ واحد منها أسوأ من الآخر. وفي عهد الملك فاروق كان يتم حذف الأشياء التي لا تعجب الرقابة، وكان من الممكن أن يكون الجزء المحذوف جملة وكذلك أيضًا صفحة كاملة. وفي عهد السادات كانت القاعدة المتَّبعة أنَّ بوسع المرء نشر أي شيء ولكن يجب عليه تحمّل العواقب - أي أن يتم وضعه في السجن أو أن لا يدفع له أجر عمله مما كان يعني أنَّه سيضطر عاجلاً أم آجلاً إلى التخلي عن عمله.
لقد ذهبت في تلك الأيَّام إلى جنيف كمترجم، لكنك عدت بعد ثمانية أعوام...
طاهر: ... وقد شهدت أخبث وأعتى شكل من أشكال الرقابة، أي رقابة الجماهير التي ما تزال موجودة حتى يومنا هذا. وكانت تعليمات حسني مبارك تقول دعهم يقولون ما يريدون؛ ولكن عندما كان المرء يتدخَّل في السياسة كان من الممكن أن يكلِّفه ذلك حياته ضمن ظروف معيَّنة. وبالتالي يمارس المرء رقابة ذاتية على نفسه ويتحتَّم عليه أن يقرِّر إلى أي مدى يمكنه البعد، وهذا هو الأسوأ. ولنتذكَّر نجيب محفوظ الذي هاجمه إسلامي بسكين في عام 1994. من الممكن أن يتعرَّض المرء للسجن وأن لا يحصل كذلك على أي أجر مقابل عمله. ولكن رقابة الجماهير من الممكن أن تكون قاتلة. هي معركة ولهذا السبب فأنا أدعم حمدين صباحي لأنَّه يدافع عن قيم المجتمع المدني.
ما الذي لم يعد بإمكانك كتابته حاليًا؟
طاهر: أنا أكتب كلَّ شيء، ولا أخضع، بل أفضِّل الموت على الخضوع. ولكنني أعلم أنَّ بعض الكتَّاب يدركون كثيرًا جدًا حجم هذا الخطر، وهم يتلقّون رسائل تهديد. وهذا يؤثِّر على عملهم، وهكذا فهم يتغيَّرون.
كيف يتغيَّرون؟
طاهر: يصبحون متديِّنين، وعلى الأقل يتظاهرون فجأة بذلك.
برأيك هل هناك كتب كانت مهمة لقيام الثورة؟
طاهر: في هذا السياق يعتبر بعض الكتَّاب أهم من الكتب. إذ إنَّ شباب ميدان التحرير يؤمنون بكتَّاب وشعراء معيَّنين. وبالنسبة للثوَّار يعدّ هؤلاء الكتَّاب والشعراء هم الوحيدين الصادقين في البلاد، وهم يشاركونهم مُثُلهم العليا. وكذلك يوجد لديهم انطباع بأنَّهم يجلوسون معهم في سفينة واحدة.
ومن هم هؤلاء الأدباء؟
طاهر: أمل دنقل الذي يعدّ شاعرًا من أبناء جيلي توفي في الثمانينيات. كان الناس في ميدان التحرير يلقون أشعاره عن الحرية. وكذلك كان الأبنودي أو سيِّد حجاب مهمين في الثورة وبطبيعة الحال أيضًا نجيب محفوظ. ولكن دعيني أذكر شيئًا آخر، وعلى الرغم من أنَّني لست متأكِّدًا إن كانت هذه العلاقة صحيحة ولكنها تبدو جديرة بالاهتمام؛ في الأعوام الخمسة التي سبقت الثورة ازدادت مبيعات الكتب في مصر ثلاثة أضعاف وما تزال هذه الزيادة مرتفعة بشكل ثابت، على الرغم من أنَّ قراءة الكتب في الواقع غير منتشرة كثيرًا في العالم العربي. ولكن على ما يبدو يجد الناس في الأدب حقيقة يتم منعها عنهم في العادة.
وماذا عن الأدباء المعاصرين؟
طاهر: لا يوجد الكثير من الكتَّاب المعاصرين الذين يلقون نظرة ناقدة على المجتمع المصري. ولكن على أية حال لا بدّ من ذكر علاء الأسواني.
تعني مؤلِّف رواية "عمارة يعقوبيان"؟
طاهر: أجل، هذه الرواية تمثِّل صورة واقعية للمجتمع المصري، فهي تذكر الفضائح السياسية وتكشف القناع عن أوامر دينية يتم اتِّخاذها ذريعة لممارسة أعمال جنونية. والأسواني كان أيضًا من مؤسِّسي حركة كفاية كما أنَّه كثيرًا ما كان يتواجد في ميدان التحرير.
هل كنت ممن خرجوا إلى ميدان التحرير؟
طاهر: كنت من الأوائل الذين تظاهروا ضدّ حسني مبارك. ولكن عندما أصبح الجو حارًا جدًا أعاقتني ساقي وحالت دون تنفيذ خططي. وكنت لا أستطيع السير تقريبًا، لذلك لم أخرج إلى ميدان التحرير إلاَّ مرَّتين أو ثلاث مرَّات فقط. وكان يتم استقبالي في كلِّ مرة استقبالاً وديًا. وحتى أنَّ الكثير من الكتب التي تمت كتابتها في هذه الأثناء حول الثورة تبدأ بالتعبير عن الدور الذي لعبته من أجل المعارضة في الأعوام التي سبقت قيام الثورة. صدِّقيني كان سيشرِّفني كثيرًا جدًا لو كنت قادرًا على لعب دور أكبر عندما بدأت الثورة. ولكن ذلك لم يكن ممكنًا. إذ إنَّ ساقي لم تساعدني كما أنَّني لا أريد التظاهر وكأنما كانت الأمور مختلفة.
كيف كان يتم استقبالك في ميدان التحرير؟
طاهر: بشكل ودي للغاية، وكان ذلك مريحًا جدًا بالنسبة لي. ومن ناحيتي كان سيؤلمني كثيرًا لو فكَّر الشباب أنَّني لا أساندهم. ومع ذلك فأنا أشعر بالذنب لأنَّني لم أتمكَّن من مشاركتهم مشاركة حقيقية. وهذه الفكرة لا تفارقني ببساطة.
يشكِّل الأخوان المسلمون حاليًا قوة كبيرة في مصر. فما رأيك؟
طاهر: هذا أيضًا ذنب الغرب.
أتقول الغرب؟
طاهر: أجل! ففي فترة الستينيات ذهب الكثيرون من جماعة الأخوان المسلمين إلى أمريكا وأوروبا. وكانوا يعارضون جمال عبد الناصر والحركة القومية، وكان هذا يروق لدول الخليج والغرب، حيث كان يتم الترحيب بهم واستقبالهم في كلِّ مكان بذراعين مفتوحين. وهكذا تمكَّن الأخوان المسلمون من جمع الكثير من المال، وهم الآن أثرياء جدًا ويموِّلون بأموالهم هذه الثورة المضادة.
هل هذا يعيدنا من جديد إلى موضوع مصدر تمويل ملصقاتهم الانتخابية؟
طاهر: أجل، ربما.
وماذا إذا أصبح الرئيس الجديد من الأخوان المسلمين؟
طاهر: عندئذ ستصبح الأوضاع مخيفة، وذلك لأنَّ الجيش لن يشارك في ذلك. إذ لا توجد في مصر إلاَّ كعكة واحدة والطرفان يريدان الحصول عليها. وسيكون ذلك مأساة حقيقية.
وماذا سيفعل الكتَّاب عندئذ؟
طاهر: سوف نستمر في المقاومة على الرغم من أنَّ ذلك كلِّفنا في الواقع تقديم عدة شهداء. نحن مضينا ولا عودة إلى الخلف. لقد تم بناء مصر الحديثة على أكتاف المثقَّفين ولا يمكن التراجع عن ذلك، لأنَّه كلَّفنا الكثير من الدماء.
أجرت الحوار: كارين كروغر
ترجمة: رائد الباش
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ/قنطرة 2012
بهاء طاهر، واحة الغروب، ترجمتها عن العربية إلى الألمانية ريغينا قرشولي Regina Karachouli، صدرت عام 2011 عن دار نشر Unionsverlag، في 333 صفحة.
شهد الكاتب بهاء طاهر المولود في عام 1935 كلَّ الثورات التي قامت في مصر، حينما كان في البدء صحفيًا ثم أصبح كاتبًا لديه طموحات سياسية. وشارك أيضًا في تأسيس حركة "كفاية" الشعبية التي طالبت بالقضاء على نظام حسني مبارك وقد وضعت كذلك حجر الأساس لثورة الخامس والعشرين من يناير. التقيت بهاء طاهر في مدينه لايبزيغ حيث يعرض هناك روايته "واحة الغروب" التي صدرت الآن مترجمة إلى اللغة الألمانية وقد نال عنها في عام 2008 الجائزة العالمية للرواية العربية. وبهاء طاهر رجل ودود ولطيف للغاية، ذهبت معه لنتمشَّى قليلاً ولكننا جلسنا في مقهى بعد فترة قصيرة لأنَّ لديه آلامًا شديدة في ساقيه؛ إذ توجد لديه آلام ومشكلات في الأوردة منعته مع أسفه الشديد من الخروج في كلِّ يوم إلى ميدان التحرير أثناء الثورة المصرية التي انتظرها منذ فترة طويلة.