بلا حشومة: الجنسانية النسائية في المغرب
هذا الكتاب يعد في الأصل أطروحة الدكتوراه، قدِمت في جامعة باريس VIII، عام 1985، تحت عنوان ""Au-delà de la pudeur.
قبل الحديث عن الكتاب ومضامينه، تجدر الإشارة إلى ملاحظتين جوهريتين هما:
أولا: اعتماد الباحثة على دراسة إحصائية تهم 200 شخص (75 امرأة، 75 فتاة، 25 أرملة، 25 مطلقة) كعينة للبحث بمدينة الدار البيضاء كبرى مدن المغرب، مستهدفة كافة الشرائح الاجتماعية والفئات العمرية (أميات/ متعلمات، قرويات/ حضريات، نساء/ فتيات...) من خلال استمارة تضم سلسلة من الأسئلة والاستفسارات ذات الصلة بموضوع الجنس.
ثانيا: التغير الطارئ على بعض الجزئيات التي اعتمدتها الباحثة في دراستها خلال الثلاثة عقود التي مرت على إنجازها، كتغيير مدونة الأحوال الشخصية بمدونة الأسرة على سبيل المثال، دون أن يمس ذلك جوهر الدراسة التي فتحت بابا على حقل جديد للاشتغال، لم تنجز حوله سوى دراسات معدودة.
يحتوي العنوان على كلمة "حشومة" التي تعني بالدارجة المغربية الخجل والعيب والعار... مسبوقة بأداة نفي، ما يعني أن الكاتبة مقبلة على طرح ما يُعد لدى العوام عيبا وعارا، معلنة بهذا، منذ البداية، خروجها عن هذا النسق، وهو ما برهنت عليه فعلا من خلال الفصول الثلاثة المشكلة للكتاب، حيث حاولت تتبع "الأنثى"، منذ ولادتها إلى أن تصبح أمًّا ووالدة، مرورا بالمراهقة والخطوبة فالزواج.
اختارت الباحثة للفصل الأول عنوان "قبل الزواج: فضاء البيت المغلق"، حاولت فيه تسليط الضوء على دونية البنت وسط العائلة، منذ ولادتها، مستعرضة السلط التي تخضع لها (سلطة الأب والجد والأم والأخ...) المتزايدة بوصولها المراهقة التي يتحول فيها جسدها إلى ملك عام للعائلة، وجب عليها الحفاظ عليه. مقابل ظهور بوادر أولى العلاقات الغرامية/الجنسية لدى الفتاة، ما يفرض عليها السعي للتوفيق بين الأمرين.
وحمل الفصل الثاني عنوان "الزواج فعل اجتماعي وحياة يومية" من خلاله نبشت في التقاليد الملازمة للزواج، والتحول من زوجة إلى أم، وما يستتبع ذلك من أدوار جديدة لدى المرأة. وقبل كل هذا نظرة النساء للعلاقة الزوجية التي اعتبرتها إحدى المستجوبات "ضربا من ضروب الشركة التعاقدية، فالمرأة تمنح الرجل قوة عملها ودرايتها وقدرتها على الإنجاب، كما تمنحه جسدها، وتحصل في مقابل ذلك كله على المأوى والطعام، وعلى وضع اجتماعي هو وضع الزوجة" (ص 134).
وجاء الفصل الثالث الذي شغل الحيز الأكبر تحت عنوان "الدم والليلة، اللذة والألم" كشفت فيه الباحثة الغطاء عن حقائق لطالما طمِست، ومنع الحديث عنها، بدعوى "الحشومة والعيب والحرام..." كالعذرية، وتصور النساء للجنس والحياة الجنسية بين العناء والمتعة ونظرة الإسلام للذة...
إنه الفصل المحوري في الدراسة، لأنه يحوي في ثناياه جملة من المفارقات التي تُظهر المجتمع على حقيقته، من خلال الانقلاب الجدري في التعامل مع الجنس، ونظرته إليه، فهذا الأخير يتحول بين عشية وضحاها من طابو وممنوع ومحرم... وهلم جرا من الأوصاف إلى موضوع الساعة، ومدار أحاديث الجميع؛ صغارا وكبارا نساء ورجالا، ليلة الزفاف (ليلة الدخلة)، الأمر الذي استفهمت عنه الكاتبة قائلة: "تبدو الظاهرة مثيرة للاستغراب، ولا سيما أن التربية تجعل النساء تقوم منذ نعومة أظافرهن على حشو أذهانهن بالممنوعات المتصلة بالوظيفة الجنسية... التي تتعرض فجأة لانتهاك عنيف" (ص 199). مبرر هذه الاستباحة الطارئة والفجائية هو ذلك الطقس الذي يرافق انتقال العروس تلك الليلة من مرحلة إلى أخرى (البنت إلى المرأة). طقس يستطيع من خلاله المجتمع التخلص من منطق الإثم والعار، وكل ما يلازم الجنس من محرمات، تراكمت عبر سنين طويلة، وهنا يطرح التساؤل عن قدرة لحظة زمنية (ليلة) على تغيير معتقدات أسست عبر أجيال؟
ليلة خاصة بكل المقاييس، بل هي ليلة المجتمع للثورة على المحظور، ففيها يثبت كل من الزوج والزوجة للمجتمع ولأسرته ذاتيته، في لحظة افتضاض البكارة التي تكون بمثابة قطب الرحى في حياة المرأة، بها تثبت شرفها وعفتها "سوف أغلق أفواه جميع أولئك الذين اغتابوني وأشاعوا عني أني لست عذراء" (ص 179). إنها الحجة القاطعة على الاستقامة، بل منهن من يعد الأمر مكافئة ومقابلا رمزيا تزهو وتفتخر به العائلة "لقد عانى أبواي الكثير لأجلي، فمن العدل أن أكافئهما في يوم زفافي، بأن يحمل إليهم قماش مبقعا بدمي" (ص 178).
كما أنها فرصة للزوج للبرهنة على فحولته ورجولته من خلال السرعة في عملية الافتضاض التي ينتظرها الكل. هذه الأخيرة تتحول في غالب الأحيان إلى عملية اغتصاب فضائحي، بمباركة وتشجيع من المجتمع ذي الهم الوحيد الأوحد المتمثل في الدم الذي أضحى مقدسا. حكت إحداهن عن التفاصيل الكاملة لهذه العملية التي تمت على مرأى ومسمع من العائلتين (العريس والعروسة) "... وضعتني حماتي في غرفة زفافي، ودخل على الزوج فانتابني خوف شديد،... وسرعان ما وضعني فوق زربية وحاول أن يفترعني لكن بقيت أتخبط بين يديه بقوة، لم يجد أمامها بدا من المناداة على النساء، فقمن بتوثيقي لكنه لم يفلح برغم ذلك في فعل ما أراد بي، إذ عضضته وأطلقت عقيرتي للصراخ ... أخذت أمي وأختي الكبرى تشتكيان إذ خشيتا أن يعتقد الجيران أنني لم أكن عذراء، وحينئذ تدخلت أخته فركزتني في الأرض، وسدت فمي بمنديل، وبذلك تسنى لزوجي أن يفتضني أمام ناظري أخته" (ص 190).
من الأسئلة التي سعت هذه الدراسة إلى الإجابة عنها كذلك النظرة أو التصور الذي يعطى للعلاقة الجنسية أو بالأحرى الوظائف والأدوار التي قد تلعبها هذه الأخيرة، فهي تظل ـ سواء تمت داخل إطار الزواج أو خارجه ـ أداة قوية في يد المرأة، لتحقيق مآرب كالاحتفاظ بالزوج والإشباع الغريزي والإشباع المادي والتقرب من الزوج ونيل عطفه، وحتى الانتقام من سلطة الرجل... ومن الشهادات الواردة في هذا "إنه واجب زواجي تقوم به المرأة، وفي مقابل ذلك تحصل على السكن والأكل"(ص224 )، "إنني أسلم نفسي له لتحاشي غضبه، فتلك اللحظة الوحيدة التي تخف فيها عدوانيته المعهودة، وأحصل منه على شيء من الحنان" (ص 222) ومنهن من تجعلها فرصة للانتقام "أحسه أضعف من المعتاد، إذ يجثو عند ركبتي فيما هو في الأوقات العادية متسلط وأناني" (ص 264).
من التناقضات التي تحف الموضوع الازدواجية في التعامل معه، وفق الظروف والأشخاص "عندما أخرج مع رجل، وأمل أنه سيتزوجني أزعم لنفسي أنني عفيفة، وأتصرف وفقا لذلك. أما عندما أكون برفقة رجل عابر لأجل مغامرة عابرة، فإني أسلم له نفسي بلا قيود" (ص 258). هذا جواب إحداهن عن سؤال تلبية الرغبة الجنسية، وقالت أخرى: "إذا كنت أنا وعشيري أتحفظ لأن في نيتي أن أتزوجه إن طلبني لزواج، أما عندما تسنح لي الفرصة لأكون مع رجال آخرين، فإنني أوافقهم على ما يطلبون مني، عدا أنني أحسني أقل تضايقا، وأستمتع بذلك الجماع" (ص 252). ازدواجية لم تسلم منها حتى المتزوجات التي تباينت ردودهن، ومنها "زوجي لا يهتم بغير قضاء حاجته، وأما عشيقي فهو يهتم بكل جزء من جسدي، ويفلح في إهاجتي" (ص 270). إننا أمام معطيات تكشف عن واقع فرضه المجتمع، لكل طريقته الخاصة في التحايل عليه.
سعت الباحثة إلى تناول الموضوع من كافة الزوايا، مما دفعها إلى البحث في العقلية الخرافية التي توازي كل ما سبقت الإشارة إليه، فتوقفت عند جملة من الظواهر المترسخة في اللاوعي الجمعي كالسحر والتقاف والوشم... والأدوار التي تلعبها في أوساط المجتمع "غير ممكن أنا متقفة وغشائي لا يزال سليما"، رد فعل إحداهن لما اكتشفت أنها فقدت بكارتها التي كانت تخال عملية التقاف محصنة لها من الافتضاض.
رغم كل ما قد يقال عن هذه الدراسة من ملاحظات من قبيل اقتصارها على مدينة واحدة (الدار البيضاء)، محدودية العينة المدروسة (200)، تحول المجتمع والتحرر الجزئي للعقل الجمعي... إلا أنها تكشف النقاب عن أمور متوارثة أبا عن جد مشكلة تراكما عصيا عن التجاوز، بل إن الانفتاح الذي يعرفه المجتمع يساهم بتكريسها من جهة، ومحاولة تغيير الشكليات دون المساس بالجوهر فيما يوصف بالتحرر من جهة أخرى.
حقوق النشر: محمد طيفوري 2024
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية . نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
ــــــــ
* الكاتبة سمية نعمان جسوس، ترجمة عبد الرحيم حزل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2003، عدد الصفحات 288.