رمضان والثورات العربية.......عطش الصائمين للحرية
في القرون السالفة كان الحكام المسلمون يأمرون بصنع قصور من السكر تُقدم لرعاياهم في عيد الفطر، ثم يُسمح لهم بهدم تلك القصور والتهامها. يبدو ذلك اليوم وكأنه استعارة بلاغية، وهو شيء كان أولئك الحكام يقصدونه أيضاً. كانوا يريدون دفن أي تطلعات أو رغبات في أكوام من السكر. خلال فترة الصوم تكون حاسة العدالة مرهفة بشكل بالغ في المجتمعات الإسلامية. ولهذا – وعلى سبيل التوقي والاحتياط - تحول شهر رمضان خلال الآونة الأخيرة في الدول العربية المحكومة حكماً شمولياً إلى شهر الحريات الصغيرة: في المسلسلات التلفزيونية التي يتم انتاجها خصيصاً لشهر الصوم تُبعث من صفحات التاريخ شخصيات متمردة تكافح بديلاً عن المتفرج من أجل الكرامة والحياة الشريفة. في هذا الشهر يغض الرقيب الرحيم الطرف أيضاً عن البرامج السياسية الساخرة. كانت سوريا متميزة في تلك الحريات الصغيرة، فإذا أضفنا إليها اتسام الرعية بالقناعة فإن كل ذلك يبدو لنا اليوم وكأنه من زمن آخر.
رمضان هو الآن، وطوال شهر أغسطس / آب، شهر الثورة. إن المتوقع أن تزيد الإرهاصات الدينية من سرعة الأحداث السياسية – في اليمن وفي سوريا وليبيا وتونس ومصر. أما النتائج فهي مجهولة تماماً. في مصر سمح المجلس العسكري الحاكم ببدء محاكمة مبارك. المريض على المحفة داخل القفص: هل كانت البداية المثيرة للاهتمام مجرد مناورة لإلهاء الشعب وتقديم السكر له بشكل مجازي؟ في تونس ستبدأ عن قريب المحاكمة الثالثة للرئيس المخلوع بن علي الذي يقضي فترة نقاهة واستجمام مع رئيس اليمن علي عبد الله صالح. وأين؟ في بلد النبي.
العدالة إذاً. فلنعط مثالاً واحداً على الظلم اللانهائي الذي كان سائداً حتى اندلاع الانتفاضات: يقدر جهاز المحاسبة الإدارية في مصر أن الدولة بإمكانها أن تستعيد 13 مليار دولار، خسرتها من جراء التعدي على أراضيها عندما تم السماح ببناء منتجعات فاخرة على أراض زراعية. لقد سُمح لأمير سعودي أن يشتري قطعة أرض مقابل جزء ضئيل من المبلغ الذي يتحتم على مصري شاب أن يدفعه لاقتنائها. هذا الظلم الهيكلي كان السبب في فتح آلاف من قضايا الفساد حتى الآن. ومن المبكر للغاية أن نصدر تقييماً موضوعياً لتلك القضايا.
من حاكم مستبد إلى سفّاح
ولا يتعجب المرء كثيراً عندما يرى أن مواجهة جرائم الماضي تسير بسرعة السلحفاة، فمعظم القضايا هي الآن في يد موظفي القضاء الذين عينهم النظام السابق. أما وسائل الإعلام الغربية التي لم تكن تجد في هذا النظام سابقاً ما يستحق الانتقاد فهي تستحسن الآن أن تهاجم – يداً بيد مع شباب ميدان التحرير - بطء الإجراءات التي تتخذ لملاحقة الظلم الذي وقع على المصريين. غير أن ما يلفت النظر حقاً هي السرعة والقوة التي تتسم بها مطالبات من ينادي بالمواجهة القضائية لجرائم الماضي. ولا يطالب بذلك أنصار التغيير المتعلمون فحسب، بل طبقات عريضة من الشعب المصري. لقد استغرق الأمر في مناطق أخرى سنوات، إن لم نقل عقوداً: بدءاً من فرانكو في إسبانيا مروراً بأمريكا اللاتينية وأفريقيا ووصولاً إلى دول البلقان.
ويتركز النقاش العلني الحالي حول سرعة ملاحقة جرائم الماضي على ضحايا الثورة. وقد تطلب الأمر معارك في الشوارع حتى يتم أخيراً إيقاف كافة ضباط الشرطة المتهمين عن العمل. وبالطبع فإن هذا الموضوع من السهل ملاحقته أكثر من الظلم الممنهج المعقد في تتبعه؛ ولكن هذا وحده لا يفسر لماذا تُسلط الأضواء بهذه القوة على الشهداء وعائلاتهم. كما أن الدعوى المرفوعة ضد حسني مبارك هي المشاركة في "القتل العمد" لثمانمئة وستة وأربعين شهيداً، وكذلك محاولة قتل آلاف الجرحى. وكأن ثلاثة عقود من حكم مبارك قد تم اختزالها في ثمانية عشر يوماً من أيام الثورة. ولم ترتفع الأصوات المطالبة بإعدام مبارك إلا بعد حدوث ما سُمي بموقعة الجمل عندما أخذ بلطجية النظام ومجرموه ينهالون بالضرب على المتظاهرين. قبل تلك الموقعة كان مبارك حاكماً سيئاً، وبعدها أصبح سفاحاً.
شهداء الثورة
وكلمة "شهيد" بالعربية، مثلها مثل الكلمة اليونانية، مشتقة من مفهوم الشهادة. والنطق بالشهادة والاعتراف بالله الواحد هو جوهر العقيدة الإسلامية، مثلما تتجلى في كل آذان للصلاة: "أشهدُ أن ..." ويمضي البعض في تأويل مفهوم الشهادة ويقولون إن كل مسلم يموت مؤمناً فهو شهيد، وكذلك مَن يُقتل في ثورة مؤمناً بها وبأهدافها. ويشعر الثوار الذين خرجوا سالمين من الثورة بالالتزام الأخلاقي تجاه الشهداء الذي يدفعهم إلى مواصلة الثورة.
وهكذا تمتزج الإرادة السياسية ومفاهيم الإسلام الشعبي مع مفهوم تمجيد الشهداء. في تونس أخرجت والدة أحد الشهداء صورة ابنها ووضعتها أعلى فتحة فستاني وحكّتها ببشرتي حتى أنال بركات الشهادة وأدخل الجنة.
كثيراً في ما يفشل المراقبون غير المسلمين في محاولة تقييم دور الدين في الانتفاضات العربية وذلك لأنهم يقعون في فخ الأحكام الجامدة المسبقة: إنهم يعتبرون الحركة الاحتجاجية علمانية طالما أن الدين لم يظهر في المقدمة ظهوراً واضحاً وفاعلاً. غير أن الدوافع السياسية والدينية تمتزج في الواقع امتزاجاً أكثر تعقيداً مما يعتقدون، كما أن السمات الدينية تؤثر على أشكال التعبير السياسية تأثيراً دفيناً لا يبدو على السطح. وهذا الملمح وحده هو الذي يجعلنا نفهم الدور البارز لعائلات شهداء الثورة.
فوفق المفاهيم الفقهية التقليدية في الإسلام فإن الملاحقة الجنائية وتنفيذ العقوبة هو أمر يتوقف على إرادة الضحية أو أقرب أقربائه. وعندما تطالب عائلات شهداء الثورة وتصر على سرعة محاكمة المجرمين فإنها تطالب بحق من حقوقها الدينية الراسخة، ألا وهو القصاص. وهذا يعني الإعدام وفقاً للقانون العقوبات المصري المدني. أما عندما يُذكّر أحد بأن القرآن يطالب أيضاً بالعفو عن الجناة، فإنه على الفور يُتهم بأنه من أنصار مبارك وفلول النظام القديم.
ويختلف عن ذلك كليةً إصدار محمكة العدل الدولية في لاهاي قرار باعتقال معمر القذافي. ومما يثير الدهشة أن في هذه الحالة أيضاً تم اختزال عهد القذافي وما يتحمله من مسؤولية في خمسة أيام فحسب من شهر فبراير / شباط تم خلالها ارتكاب "جرائم ضد الإنسانية". هل كان القذافي أكثر إنسانيةً في الماضي عندما ترك المهاجرين الأفارقة – وبتحالف مع الغرب - يموتون عطشاً في قيظ الصحراء؟ لقد طالبت منظمة الوحدة الأفريقية الدول الأعضاء فيها بعدم الاستجابة إلى مذكرة الاعتقال، وكان تبريرها أن المحكمة تمارس التمييز عموماً لدى اختيار الأشخاص الذين يصدر بحقهم قرار الاعتقال. وبالفعل فإننا لا نجد من بين المتهمين أبداً أشخاصاً يحملون جنسية إحدى الدول العظمى. وفي مصر – حيث يبدو التعطش إلى العدل في الشارع قوياً للغاية –لم يتم الاعتراف بصلاحية هذه المحكمة على الإطلاق. واليوم تبدو فكرة ملاحقة جرائم الدولة من قبل أغراب فكرة منافية للعقل، ناهيك أن تقوم مؤسسات يسيطر عليها الغرب بذلك.
المشانق المعلقة في مرايا سيارات الأجرة
حبل المشنقة: يبدو أن هذا الرمز أصبح شعبياً في كل من ليبيا وتونس ومصر، ولهذا يراه المرء على واجهات المنازل وعلى اللافتات المعلقة في الشوارع. قادة سيارات الأجرة في القاهرة يعلقون على المرايا الداخلية مشانق صغيرة يتدلى منها حبيب العدلي، وزير الداخلية الأسبق. كما أن المطالبة بشنق مبارك أصبحت من المطالبات الشائعة في ميدان التحرير. يجب وضع نهاية علنية للحاكم العجوز، أما اسمه فتم بالفعل محوه وتشويهه على آلاف اللافتات، بل إن البعض لا يريد له أن يُدفن في التراب المصري، كما يطالب البعض الآخر بمحو صوره من أرشيف السينما والتلفزيون. وكأن مبارك لم يعش يوماً على أرض مصر، وكأن من الممكن محو ذكراه، ومعها يُمحى الشعور بالفضيحة الناجم من أن الناس تحملوا حكمه طوال هذه السنوات الكثيرة.
ولكن هناك علماء النفس والساسة ورجال الدين الذين يعارضون ذلك، فليس كل شخص في مصر يريد بالفعل تصفية مبارك جسدياً. لكنهم جميعاً يريدون إرسال إشارة تتعدى حدود مصر: الناس سواسية أمام القانون، وحتى الذين يتقلدون أرفع المناصب ينالون عقاباً عادلاً. إنه درس للمنطقة بأكملها. من يتمتع بالوعي السياسي يقول: يجب أن تكون محاكمة مبارك عادلة، فهذا أمر مهم لتاريخ مصر.
ماذا يحدث إذاً خلال رمضان هذا العام؟ هل وضعت السعودية – مثلما يظن كثيرون – شروطاً للمعونة المالية التي قدمتها لمصر وربطتها بأن يقوم المجلس العسكري الحاكم بمنع إعدام مبارك – بل والأفضل منع محاكمته من الأساس؟ أو تقديم جرعة سم في طعامه إذا لم يكن من ذلك بد؟ على أرضهم وفي بلادهم لا يتورع السعوديون عن تنفيذ أحكام بالإعدام. في الآونة الأخيرة تم إعدام امرأة أندونيسية تبلغ من العمر أربعة وخمسين عاما، إحدى "خادمات المنازل" كما يطلق عليهن. بعد أن عانت المرأة من التعذيب والإهانة واحتجاز جواز سفرها فاض بها الكيل وطعنت السيدة التي عذبتها بسكين المطبخ.
الإعدام العلني لمهاجرة حاولت يائسة أن تقاوم قدرها بعد أن سُدت كل الطرق في وجهها: هذا هو الدرس – وهو في مفهوم السعوديين درس منطقي، تماماً كمنع الدرس الآخر، أي إعدام حاكم عربي مستبد. الإسلام هنا معناه الحكم على الناس بأن يظلوا قاصرين. أو هو دعامة تستخدم ضد تمرد الراشدين. هذا هو أيضاً من الموضوعات التي يطرحها رمضان هذا العام للنقاش. وعلى كل مسلمة وكل مسلم أن يختار. وبالمناسبة: إنهم يقولون إن أبواب السماء تفتح على مصراعيها في شهر رمضان، أما أبواب الجحيم فتغلق. ليس هناك إذاً داع للتسرع في محاكمة مبارك.
شارلوته فيدرمان
ترجمة: صفية مسعود
مراجعة:
حقوق الطبع: لوموند ديبلوماتيك / قنطرة 2011
تعمل شارلوته فيدرمان كصحفية وكاتبة. وظهر لها حديثاً كتاب: "أنتم لا تعرفون عنا شيئاً! الرحلات التي قمت بها عبر إسلام مجهول" (دار هيردر الألمانية، فرايبورغ 2008).