الريشة أقوى...تشخيص روح متمردة لجيل ليبي شجاع
في يوم الخميس ٢١ أكتوبر ٢٠١١، كنت في مكتبي أتابع الربيع العربي من بعيد، عندما كان لهيب الثورات يشتعل في المنطقة ضد القمع الممنهج من قبل مؤسسات الدولة، حرصت على توثيق اتصالاتي مع أبي حسن دعيميش. أبي الذي ترتبط نشأته وشعوره الوطني و إدراكه الفني بحلم التغيير الاجتماعي في العالم العربي.
كان أبي حينها يعمل في مكتب لقناة ليبية جديدة في الدوحة، وعندما كانت وسائل الإعلام المحلية والدولية تتناقل صور مخيفة لجثة القذافي، تقلص البعد الجغرافي بيننا من خلال النقاش حول مستجدات الأحداث.
بين نشوة الفرحة والانتقام الدموي
عدت مشوشا إلى الماضي في هذا الجو السريالي الممزوج بنشوة الفرحة والانتقام الدموي، هذه هي إذاً جثة تلك الشخصية الكاريكاتورية، التي عرفتها منذ صغري. ففي طفولتي لم يوضح لي أحد حقيقة هذه الشخصية، ولكن مع تقدمي في السن وجدت أن هناك أسباباً قوية لذلك.
عاش أبي في الستينيات في بنغازي وكان ينتمي بذلك لجيل كان شاهدا على أول حركة استقلالية ليبية. الانقلاب غير الدموي للقذافي أنهى حكم إدريس الثاني الذي لم يدم طويلا، ولكنه أدى الى انقسامات سياسية لا تزال أثارها السياسية الاجتماعية المدمرة حاضرة في ليبيا إلى يومنا هذا.
وكما كان حال الكثير من الليبين الشباب، شوشت هذه الأوضاع الصعبة ذهنية أبي كذلك. ولم يكن أمام أبي (الملقب بالساطور) إلا الهروب إلى خارج البلاد.
ظهر حب الساطور للفن منذ نعومة أظافره، فقد تأثر أسلوبه الساخر بالجو السياسي العام. في أوائل السبعينيات، كانت رسوماته تسخر من القذافي حتى ولو أن هذه الرسوم لم تكن للنشر.
من وطن الى وطن
وصل الساطور سنة ١٩٧٥ إلى لندن من دون أي خطة أو آمل في الدراسة، ولكنه ظل هناك طوال هذه السنوات كطالب لجوء. بعدما رفض كل دعوات العودة إلى الوطن، وجد نفسه أواخر السبعينيات في برادفورد في إنجلترا. فأصبحت بذلك مدينة بيرنلي الصناعية الواقعة شمال غرب انجلترا و المجاورة لبرادفورد بيته الجديد. هناك اشتغل كنادل في العديد من المقاهي والتقى بزوجته المستقبلية السيدة كارن.
رويداً رويداً ابتعد الساطور عن الشتات الليبي وانغمس في مجتمع أصبح وطنه. خلال رحلة إلى لندن في الثمانينيات، لمح الساطورجريدة عربية في محطة قطار ارليس كورت. يقول الساطور: "لمحت من بعيد مجلة برتقالية اللون، فاتجهت نحو كشك الجرائد، ثم تناولت المجلة فتأكدت من أنها كانت واحدة من منشورات المعارضة الليبية. كانت تحوي أربع صفحات ولكن للأسف من دون أي عنوان للمراسلة. من حسن حظي كان هناك مجلة زرقاء فاتحة اللون في نفس الكشك تحتوي على نفس النصوص. في هذه المرة كانت مع عنوان للمراسلة.اشتريت الاثنتين وأخذتهما معي إلى بيتي ثم كتبت للناشر، وكعنوان للتواصل كتبت عنوان أهل زوجتي.
بعد فترة زمنية قصيرة جاءت إلى البيت حماته إنيد تحمل رقم هاتف. وكان هذا الرقم من سيفتح باب الشهرة أمام الرجل الوسيم غير المعروف.
نشر الساطور أعماله في الجرائد، فجمع من حوله قراءً طليعيين، يقدّرون عقله الجريء، وحتى بعد انقسام المعارضة ظل وفيا لقضيته بنشاط. وعلى الرغم من تأسيسه لعائلته وعمله لم يصدق العديد من أصدقائه وزملائه أنه ينتمي لفئة المهاجرين المهددة حياتهم باستمرار.
صوت معارض
أعلنت منظمة العفو الدولية مابين ١٩٨٠ و ١٩٨٧ عن ٢٥ حالة قتل نفذت ضد الملقبين بالكلاب الضالة من طرف فرق الموت الدولية التابعة للنظام الديكتاتوري، حينها هدد القذافي قائلا: "الشعب الليبي له الحق في أن يحطم هذه الحثالة التي تلوث صورة ليبيا في الخارج". ولهذا ظل أبي داخل وخارج ليبيا لغزا غير معروف و شخصية غامضة تحت غطاء لقب الساطور الذي شكل حماية له من الأخطار المحدقة.
في أواسط عام ٢٠٠٠، وبعدما فتحت ليبيا الجديدة أبوابها للغرب، اتضح أن سقوط النظام مازال بعيدا. فقد تبادلت المخابرات البريطانية( م١٦) و المخابرات الأمريكية ( سي آي أيه) معلومات حول المعارضين الليبيين. على إثر ذلك تم اختطاف العديد من المشتبه فيهم من غير أي أساس قانوني ونقلهم إلى دول أخرى حيث يتهددهم خطر التعذيب.
وبعد الثورة، روى سجين معارض سابق لأبي، أن فرق القذافي استجوبوه عن مكان إقامته وهويته، وبالرغم من أجوبته المضللة، قام موظفو النظام في نهاية عام ٢٠٠٠ بالتجسس على شبكات تليفون وحساب الفيسبوك والبريد الإلكتروني الخاص بعائلته. ومع مرور الوقت، اتضح أن التهديدات أصبحت أكثر جدية، ولم يعد واضحا إذا ما كان الاسم المستعار قد أصبح عبئاً على أبي. وإلى الآن ما زلت أطرح على نفسي هذا السؤال: هل كانت شخصية الساطور هي رد على ضرورة سياسية أو كانت انعكاسا لداخل هذا الفنان الثوري؟ ولكن وبعد سنوات، اتضح لي أن الساطور لا يمثل أي شخصية من الشخصيات التي تصورتها. الساطور هو ليس شخص، هو تشخيص لروح متمردة مشتركة لجيل ليبي شجاع.
لم تؤثر على عمل أبي سياسة النظام الليبي الصارمة ضد المعارضين في الخارج، لكن لغاية أواخر التسعينيات بقيت أعماله منتشرة فقط بصورة محدودة، على سبيل المثال في مدونة ليبيا المستقبل أو في مدونته الخاصة. ولكن ومع بداية القرن الحادي والعشرين، انفتحت طرق تواصل جديدة. فقد سهلت وسائل التواصل الاجتماعي سرعة التفاعل مع تحولات الساحة السياسية والوصول يوميا إلى آلاف الناس.
حلم بليبيا حرة
أن تكون معارضا يعني أن تكون عندك مثابرة عالية ومناعة قوية ضد أي مصالحة. فقد كان فكر الساطور الهازئ دائم التعرض للامتحان. ففي عام ٢٠١٣، تذمر المؤتمر الوطني العام (الذي كان من قبل أعلى سلطة تشريعية ليبية) أكثر من مرة وبقوة من هجومات الساطور على أعضاء برلمانيين نافذين. و في نفس السنة، تمت دعوتنا من قبل نائب رفيع المستوى في فندقه في الدوحة إلى حديث غير رسمي. قبل دخول الساطور القاعة، لاحظ بعضا من السيارات المشبوهة في موقف سيارات الفندق، خمن الساطور أن لها علاقة بالشكاوي السابقة، وتمكنا من ترك الفندق من غير أي خسائر أو أضرار.
إن الروح الثورية للساطور، المقاومة لأي شكل من أشكال الرقابة والمنع، ليس لها ثمن، إنها مفتاح لإشباع شخصي وحزم سياسي.
فلأكثر من خمس سنوات وبعد تحرر بنغازي من قبضة القذافي، لايزال الكفاح والبحث عن الاستقرار مستمرا لغاية اليوم، ولكن رؤية أبي من أجل ليبيا محررة اقتربت أكثر.
بتعبيره الفني القوي والجريء، استطاع الساطور أن يخترق الحجاب الذي يلف الواقع القاسي للحياة اليومية في ليبيا، وبذلك جَرّ السياسيين الليبيين إلى أضواءالفضاء العام التي كان السياسيون يحاولون حجبها بقوة الرقابة العنيفة. قبل خمس سنوات، كنت أظن بكل سذاجتي أن الساطور قد أتم مهمته، لكني اليوم أدرك أن تلك الشخصية الساخرة المهددة لا يمكن أن ترسل إلى التقاعد قبل أن تعود بنغازي الى أهلها.
حتى ذلك الحين، تبقى الريشة هي السلاح لذلك المعارض السياسي الشغوف ليثبت بذلك أن الريشة هي أقوى من السيف في عصر إرهاب مابعد الثورة. وأنها في الحالة الليبية أقوى من حزام الانتحاري الناسف.
حسن دعيميش
حقوق النشر والترجمة: موقع قنطرة 2016