نموذج مصري تعايشي وروح جماعية لم تنطفئ منذ الأزل
نَجَحَت سِلسِلة "بِنجوِين كلاسِيكس" إلى يومنا هذا في تقديم ما يقارب الثلاثة آلاف إنتاج أدبي إلى عدد كبير من قُرَّاء اللغة الإنكليزيَّة، إلّا أن أغلب هذه المصدُورات هي بأقلام كُتَّاب من أمريكا الشماليَّة وأوروبا. حتى نَشرِ هذه الرواية، شَمِل حَصاد هذه المجموعة الأدبيَّة التابعة لدار نَشر "بِنجوِين بُووكس" عددًا ضئيلًا لا يتجاوز كلاسيكِيَّات ثلاث من الأدب العربي القروسطي: لِابن فَضلان وأُسامة بن المُنقِذ وشِهاب الدِّين النُّوَيري. "عودة الروح" إذًا هي أول رواية عربيَّة مُعاصِرة من إصدار السِّلسِلة – وأغلب الظن أن هذا يَعُود إلى أسباب تتعلق بالأهميَّة التاريخيَّة للرواية أكثر منها تلك المُتَعَلِّقَة بالمُتعة الجَماليَّة.
لا شَكّ أن الحكيم (1898-1987) يُعتبَر مؤلِّفًا قديرًا للأعمال الأدبيَّة "الكلاسيكيَّة". فقد تركَت كتاباتُه أثَرًا واسعًا على المسرح المصري في القرن العشرين، وكذلك على الأدب والسياسة، إلّا أن "عودة الروح" ليست هي العمل الأدبي الأكثر إبداعًا من إنتاجه – حتى ضِمن تلك الأعمال التي نشَرَها عام 1933؛ ذات العام الذي شَهِد إصدار "أهل الكهف" و "يوميَّات نائِب في الأرياف". مع ذلك، كانت "عودة الروح" هي الرواية المُفَضَّلة لرجل شاب أصبح فيما بعد صاحب شأن كبير في مصر القرن العشرين، وهو جمال عبد الناصِر. كَتَب الحكيم في "عودة الوَعي" (1974)، وهو الكتاب الذي يحوي مقالات متنوِّعة في السياسة، أنه كان يَعِي أن روايته المَعنِيَّة "قد أَثَّرَت في تكوينِه [جمال عبد الناصِر] الوطني"، لدرجة أنه يُحكَى أن هذا الرئيس المصري حاول هو الآخَر أن يؤلف عملًا أدبيًّا شبيهًا بروايتنا هذه، ومن بطولة شخصيَّة رئيسيَّة اسمها "مُحسِن".
تبدأ أحداث "عودة الروح" في عام 1918، ويبدو القِسم الأول من الرواية وكأنه توصيف من الكوميديا الاجتماعيَّة لذاك الزَّمان. تنحدِر الشخصيَّات الرئيسيَّة للرواية من عائلة مصريَّة جاءَت من شمال البلاد لتسكن القاهرة في شَقَّة صغيرة ذات غرفة نوم واحدة. ثلاث من هذه الشخصيَّات هُم رجال من الطبقة المتوسطة ممن يعاركون الحياة، وكلهم أَشِقَّاء. هناك أيضًا الشقيقة غير المتزوجة والمُناهِز عمرها الأربعين، وكذلك الفلّاح الفقير الذي يعمل خادمًا لهم. أما الشخصيَّة السادسة، فهي تَتَمَثَّل في البطل الشاب للرواية، مُحسِن، وهو ابن الأخ الثَّري كبير الأعيان في البَلَد.
تتوالَى أغلب أجزاء الرواية من خلال وتيرة فكاهيَّة خفيفة. بذلك، نراها تشبه بدرجة أقل العَمَل الساخِر الإباحيّ عن الرِّيف المصري الذي ألَّفه يوسف بن محمد الشربيني في القرن السابع عشر، وبدرجة أكثر المسرح الكوميدي في العشرينات. كتَب الحكيم رواية "عودة الروح" أثناء إقامته في باريس، إلى حيث أرسله والداه على أمل خاطئ منهما بأن تتمكَّن العاصمة الفرنسيَّة من مُعافاة ابنهما من طموحاته الأدبيَّة، إلّا أن هذه المدينة لم تنجح في مُهِمَّتها.
تبدو حياة مُحسِن في الحَبكَة العامَّة للرواية ليست بعيدة عن تِلك التي عاشها الحكيم. مثله مثل والد الحكيم، كان والد مُحسِن من وُجَهاء القرية. ومثلها مثل والدة الحكيم، كانت والدة مُحسِن سيِّدة تُركيَّة تَنظُر بعين الازدراء إلى أهل الأرياف. كُلٌّ من الوالدين، الخيالِيَّين والحقيقِيَّين، أرسَل ابنه إلى القاهرة كي يتعلم هناك ويعيش مع أعمامه.
من الكوميديا الاجتماعيَّة إلى الأساطير الجِدِّيَّة
تتعلَّق أحداث الرواية في القسم الأول من "عودة الروح" على التطلُّعات الرومانسيَّة لمُحسِن، الشاب البالِغ من العُمر خمسة عشر عامًا، وكذلك على عمَّته الدَّميمة واثنين من أعمامه. هؤلاء الرجال الثلاثة مُتَيَّمُون بِهَوَى سَنِيَّة، تلك الجارَة الموهوبة والجميلة. فيما تقَع العمَّة زَنُّوبَة في غرام الرجل الوسيم، مصطفى بِك. من المُستَبعَد أن يكون القسم الأول من الرواية هو ما جَذَب اهتمام جمال عبد الناصِر، رغم أنه من الممكن أن يكون الأخير قد استَمتَع بالمَنهَج البعيد عن الصَّواب النَّابِع عن كوميدِيَّة المَشهَد، إلا أن الرواية تأخذ مجرًى حاسِمًا خلال أحداث الفصل الثاني، حين يعتلي مُحسِن القطار في طريقه لزيارة ذويه في شمال مصر. هنا، تخرُج وتيرة الرواية من عالَم هَزلِيّ، وتتجه صوب عالَم جِدِّي ملؤه الأساطير المَلحَمِيَّة.
يتبادَل رُكَّاب القطار أثناء رحلة مُحسِن أطراف الحديث الشَّيِّق فيما بينهم. أحد الرجال يتكلم عن رحلاته إلى أوروبا، مُعَقِّبًا أن الأوروبيين ليسوا وَدُودِين كالمصريين. راكبٌ آخَر يقول إن السبب وراء ذلك هو أن أوروبا "بلاد ما فيهاش إسلام!"، مما يؤدي إلى شعور المُتَكَلِّم الأوَّل بالامتِعاض الذي بَدَا واضحًا على وجهه، بينما ينتبه رُكَّاب آخَرون إلى علامَة الصَّليب في مِعصَمه. حينها، يقوم بعض الرُّكَّاب المصريين المُتنَوِّرين بالمُغالاة في مديح صِدق نِيَّة المُتَكَلِّم الثاني الذي لم يكُن - بحسب قولهم - يقصد "الإسلام" كديانة بعينها، إنما كان يقصد مَدلُولًا آخرَ خاليًا من أي صِبغَة دينيَّة أو طائفيَّة؛ أي بمعنى "عاطفة الرَّحمة وطِيبة القلب[.]" تعود الرواية فيما بعد إلى النَّمُوذَج الأخلاقي المُعادِي للطائفيَّة، والمُتَمَثِّل في التَّعايُش ما بين المسيحيين والمسلمين من المصريين.
يَصِل مُحسِن إلى الرِّيف ليجد نفسه مأخوذًا بمهارة وحَزم وكَدَح الفلّاحين المصريين، الحاضِرين منهم والغابِرين، والذين وَضَعَهُم في ميزان مُقارَناته في موقِع مُضادّ لأهل البادية والغُزاة العثمانيين. قد لا يكون الفلاحون مُبَهرَجين كالأتراك، لكنهم يَحرِثون ويَزرَعون أرضهم بروح جَماعيَّة لم تنطفِئ منذ أزَل التاريخ. تصل سرديَّة الحَدَث ذروتها الأكثر تشويقًا خلال مُناجاة عَلَنِيَّة يُلقِيها كبير موظَّفي الآثار الفرنسيين حين لَبَّى دعوة والد مُحسِن لتناول الطعام في عِزبَته. يُدلِي عالِم الآثار برأيه جازِمًا بأن مصر القديمة "كانت" عظيمة الشأن، وبأن مصر الحديثة "ستُصبح" عظيمة مرةً أُخرى. كُل ما يحتاجه المصريون، على حد زَعمه، هو قائد محبُوب كالمعبُود.
يقترح علاء الأسواني في التَّوطِئَة الجديدة لرواية "عودة الروح" أنه من المُرَجَّح أن جمال عبد الناصِر قد تأثَّر في شبابه أيَّما تأثير بخِطاب الرجل الفرنسي، آخِذًا على مَحمَل الجِدّ إصرار عالِم الآثار هذا على "تلك اللحظات من التاريخ التي نَرَى فيها مصر تَطفِر طَفرة مُدهِشة في قليل من الوقت... وتأتي بأعمال عِجاب في طَرفَة عَين".
زمن "البَعث" في عام 1919
يبدو القِسم الثاني وكأنه نَصّ من رواية مختلِفة تمامًا عن سابِقتها في القِسم الأول. هنا، نقرأ الأحداث بدرجة أقل كَكوميديا اجتماعيَّة من النَّمَط الأوروبي، وبدرجة أكثر كجزء ضِمن مشروع "النهضة" – أو "البَعث" – المصري. حينها، كان المثقَّفون يعملون جِدِّيًّا لتأسيس دعائِم الهويَّة المصريَّة الخالِصة لفترة ما بَعد الحُكم العثماني.
ولكن حين يعود مُحسِن إلى القاهرة، تكتَمِل قصة الحُبّ في الرواية، حين تتزوَّج سَنِيَّة من مصطفى بِك. رغم ذلك، لا يُشَكِّل هذا الزواج نهاية السعادة المَرجُوَّة "في تَبات ونَبات". لأن الأهمّ من ذلك هو الأحداث التي تدور في الفَصلين الأخيرين للرواية، إذ يَهُلّ علينا شهر مارس من عام 1919، وحينها تتحقق نُبُوءَة عالِم الآثار الفرنسي. فمصر الآن "تَنهَض على أقدامها في يوم واحد".
وكَما فَعَل توفيق الحكيم في شبابه، يخرج مُحسِن في المُظاهَرات الشعبيَّة تضامُنًا مع القائِد الوطني سَعد زغلُول. وحاله حال كاتب الرواية، يَتِمّ اعتِقال مُحسِن بِرِفقَة أعمامه، ويُزَجّ بهم السجن. تنتهي الرواية بصُورة مَجازِيَّة تُعيد صَدَى بدايتها الفُكاهِيَّة: ينام الرجال على أرض قاعَة صغيرة مُكتَظَّة بهم في سِجن القَلعَة. والحال الذي كان في بادئ الأمر ضَربًا من الاِذلال الكوميدي لهؤلاء الفلّاحين، أضحَى الآن مِنَصَّة لِارتِقائهم البُطولي.
في النهاية، يتطَهَّر هؤلاء الرجال من حُنُوّ وَلَعِهم المُضحِك بِسَنِيَّة. وعلى غِرار توفيق الحكيم الذي كان معروفًا بعَدائِه للرومانسيَّة، يَغمُر قلوبَهم الآن هُيام أسمَى: حُبّ الوطن. ومع أنه من البَيِّن أن توفيق الحكيم يُؤمِئ لنا بِهَمس من الشَّقاوَة، إلّا أن الرواية تبدو، مع الأسف، بريئة نوعًا ما بمنظور أيامنا هذه.
مارسِيا لِينكس كوِيلِي
ترجمة: ريم الكيلاني
حقوق النشر: موقع قنطرة 2020