شبح القذافي يخيم من جديد على المشهد الليبي
قبل سنوات قليلة، لو قُدّر لمحلّل أن يتحدث عن دور سياسي ما لنجل الزعيم الراحل معمّر القذافي في ليبيا ما بعد 2011، لاعتُبر الأمر مزحة ثقيلة أو عبثا لا يمكن الردّ عليه.
لكنّ تسارع الأحداث في ليبيا غيّر تلك المُعطيات، وصار سيف الاسلام القذافي فعلا، الحاضر الغائب في المشهد السياسي والأمني القاتم في هذا البلد المغاربي الغني بالنفط والثروات.
لم يتحدّث سيف الاسلام القذافي المتواري عن الأنظار منذ سنوات، بعدُ، عن مشروعه السياسي الجديد الذي وعد به، لكنّ محاميه وأنصاره يؤكّدون أن خطاباً تلفزيونياً سيُبثّ قليلا وسيُشفي غليل المتسائلين وسيضع النقاط على الحروف.
حراك "رشحناك"
في 11 يونيو من العام 2017، استفاق الليبيون والعالم على خبر إفراج "كتيبة أبو بكر الصدّيق" عن نجل القذافي، بموجب قانون عفو أصدرته الحكومة المتواجدة في شرق ليبيا والموالية للجنرال حفتر، في خطوة وصفها المجلس العسكري لـ"ثوار الزنتان"، الذي كان يحتجز في فترة ما سيف الإسلام، بأنها "شكل من أشكال التواطؤ، وخيانة لدماء الشهداء".
وقبل ذلك، حدثت وقائع قضائية كثيرة، فقد أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق سيف الاسلام، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية أثناء محاولة قمع الثوار على حكم والده، وحكمت عليه محكمة في طرابلس غيابياً بالإعدام بعدما أدانته بجرائم حرب.
لكنّ، أنصار القذافي عادوا إلى العمل السياسي علناً وشكلوا "الجبهة الشعبية لتحرير ليبيا" في نهاية عام 2016، مطالبين بدور سياسي لسيف الإسلام في مستقبل ليبيا واختاره المجلس الأعلى للقبائل، وهو إطار يجمع عشرات القبائل النافذة، "ممثلاً شرعياً لليبيا".
قام أنصار القذافي بإطلاق حملة "رشحناك"، التي صارت لها الآن منابر اذاعية وتلفزيونية وافتراضية كثيرة. وهي حملة تثير الكثير من التساؤلات للمراقبين، فسيف الاسلام القذافي بالتأكيد لم يستجب لمناشدات هذه الحملة ليُراسل روسيا بشكل شبه رسميّ، ويظفر منها بتصريحات من أعلى مسؤوليها تساند حضورا سياسيا مؤثرا له.
نوايا سيف الاسلام القذافي للعودة الى العمل السياسي، تسبقُ بكثير موعد إطلاق حملة "رشحناك"، والتي تنشط بجدية في تونس التي يتمترس فيها الكثير من مناصري القذافي بشكل خفيّ، وأحيانا علنيّ.
يكشف خالد الغويل، وهو محامي سيف الاسلام، ويقيم في تونس، أنّ موكّله "له فريق سياسي وقانوني واعلامي وشبابي متكامل".
ويضيف المحامي في تصريحات اعلامية: "سيف مقيم بين أهله وسيظهر قريبا"، في اشارة إلى أنّ حركته غير مقيّدة، وأنه يقطن مناطق مازالت تدين بالولاء للقذافي، ويعقد مباحثاته واجتماعاته فيها، تحيّنًا للحظة المناسبة للظهور.
ما المانع إذًا؟
ترتطم رغبة نجل القذافي الجامحة في العودة إلى الحكم، بعوائق صلبة، قد يحتاج وقتا لإزاحتها. ومن ذلك المزاج "الثوري" العام في ليبيا والذي لم يخفت كثيرا مع سطوة الميليشيات، التي قارعت كتائب القذافي وتعلم جيدا عنف خصمها، وما الذي سيقوم به في حال عودته واستعادة قوته وبطشه.
الكثير ممن حملوا السلاح ضدّ القذافي وكتائبه الدمويّة، تتملّكهم مخاوف من كون سيف الاسلام يطمح للعودة بدافع "الثأر" لوالده، في بلد تُعتبر فيه القبائل وقيمُها العتيقة، عصبها الرئيس، ويكون للثأر في مخيّلتها، وقعٌ كبير على النفوس.
يقول هؤلاء إنّ سيف الاسلام الذي كان عضُد أبيه الأيمن، واستشرس في الدفاع عنه خلال الحرب، لن ينسى بتاتا أنّ "الثورة" التي ساندها حلف شمال الأطلسي، قتلت أباه بطريقة بشعة، وأعدمت اخوته (الساعدي والمعتصم وخميس)، دون محاكمات.
هنالك أيضا عوائق قانونية وقضائية كثيرة، فالترشح مثلا للرئاسة أو أي منصب مهم آخر، سيجلبُ متاعب كثيرة لسيف الاسلام، فالرجل مطلوب من المحكمة الدولية رغم أن ليبيا لا تعترف بها، وهو عُرضة لملاحقات قضائية في بلده، رغم تمتعه بقانون "العفو العام" الذي لا يبدو أنه محلّ اجماع في ظلّ انقسام ليبيا إلى حكومتين اثنتين وبرلمانيْن، يدّعي كل منهما "الشرعية".
ومن أهمّ العوائق التي تعقّد طموحات القذافي الصغير، الوضع الأمني في البلاد، حيث تنتشر وتسطو الميلشيات المُسلحة، وكثير منها لا يملك ضابطا ولا رابطا، مع تغيّر الولاءات والانتماءات، كما يسيطر الجنرال خليفة حفتر، الرافض بشدة لعودة القذافي إلى المشهد السياسي، على مساحات واسعة من شرق البلاد، في حين ينتشر "الجهاديون" في جيوب كثيرة.
ورغم اختلاف تلك الأطراف، على كل شيء تقريبا، إلا أنها قد تتفق فيما بينها بشكل غير مباشر، على ازاحة سيف الاسلام بالقوة، وهو ما يجعلهُ مطلوبا لكثيرين بشكل قد يؤثّر على أمنه الشخصي ويعرّضه للخطر، ويُعيق التحامه بأنصاره، وتجوّله بحرية لحشد الدعم لمشروعه المرتقب.
ورقات ضغط رابحة
في مقابل كلّ تلك العوائق، يستند سيف الاسلام على ذراع صلبة ومفتولة، ألا وهي روسيا الاتحادية، وقد ظفر الابن بمواقف رسمية روسية، تؤيد عودته للمشهد والمشاركة في أي حل سياسي تتفق عليه الاطراف الخارجية والداخلية، وهذا مكسب ضخم يحسبُ له.
ورغم ارتباطات سيف الاسلام بأكثر من عاصمة غربية خلال حكم والده، فإنه يعتقد أنّ النهج الروسي قبل وبعد الاطاحة بوالده، هو الاقرب لقناعاته. فالعلاقات الوطيدة بين نظامي موسكو وطرابلس سابقا، عسكريا واقتصاديا وأمنيا، دفعت بالروس إلى عدم التورط في اي خطوة تسهّل القضاء على نظام العقيد الراحل عندما اندلعت الثورة ضدّ معمر القذافي.
لكنّ الحضور الروسي في سوريا، واستماتة الرئيس بوتين في الوقوف إلى جانب بشار الأسد، يقوّي الرغبة لدى سيف الاسلام في اختيار هذا الحليف دون غيره لأنه "لا يكلّ ولا يملّ" في نصرة من يعتقد أنهم حلفاء تقليديون، ولم يثبت أنه "يغدر" بحلفائه، كما يفعل زعماء البيت الأبيض ونظرائهم الأوروبيون تجاه من يعتبرونهم "حلفاء تقليديين" في الخليج ومناطق أخرى من العالم.
وتُثار انتقادات كثيرة ضدّ اختيار سيف الاسلام لموسكو لطرح مشروعه السياسي، عوضا عن الايمان بالداخل الليبي والتوجه إليه أولا، فاللعبة السورية المعقّدة، باتت تُستحضر في ليبيا مع تقرّب الجنرال حفتر من موسكو، ومن بعده القذافي الابن، الأمر الذي قد يؤدّي إلى ارتهان القرار الليبي يوما ما، بيد الروس على غرار ما يحصل في دمشق حاليا.
[embed:render:embedded:node:26851]
ومع الدعم الروسي الواضح، يمتلك سيف الإسلام القذافي اليوم نقاط قوة أخرى، منها الحنين الواضح لديه ولدى أنصاره إلى عهد والده "الجماهيري" بسبب الوضع الحالي السيئ، وانتشار المليشيات وتفكّك البلاد. كما يبدو أنه يستفيد كثيرا من سيكولوجية الشعوب التي رزحت طويلا تحت الاستبداد، والتي تحنّ بسرعة الى ما تراه "استقرارا" وأمنًا"، على حساب التغيّرات "الطُفروية" المفاجئة التي تؤدي عادة الى العنف وتغيّر للأوضاع القائمة بشكل جذري، على غرار النموذجين التونسي (السبسي) والمصري (السيسي) الذين اختارا زعماء من المنظومة القديمة لوضع حدّ للمسار التحرّري المضطرب والمفاجئ والمؤلم والمُكلف.
أيضاً، قضى الرجل جزءاً كبيراً من حياته في الغرب، فسيف الإسلام يملك علاقات وطيدة على الصعيد الدولي، وهو أمر يمكن أن يفيده في طريقه الشائكة إلى سدة الحكم.
كما أنه يمتلك خبرة سياسية كبيرة نظراً لنشأته بالقُرب من مراكز صُنع القرار في "جماهرية معمّر"، وخاصة الأدوار الرئيسية التي قام بها، وأهمّها مساهمته في حل قضية لوكيربي، وإبرام مصالحة مع الإسلاميين، واشرافه على مبادرة "ليبيا الغد" التي انطلقت في العام 2005 ولم يُكتب لها النجاح بسبب اندلاع الثورة.
ويحظى سيف الإسلام بدعم عشائري كبير لا يُعرَف حجمه بدقة، ويذهب البعض إلى الادعاء أن 90% من قبائل ليبيا النافذة، تدعمه، ومن بينها "ورفلة" و"ورشفانة" و"ترهونة" و"المقارحة" و"القذاذفة" و"الأمازيغ" و"التبو"، بل وتفضلّه رئيسا.
ورغم وقوف انصاره وراء تلك البيانات والأرقام غير الدقيقة، والتي لا تخضع لمعايير استطلاعات الرأي المتعارف عليها علميا، فإنّه من الواضح أنّ شعبية سيف آخذة في الارتفاع حتى بين معارضي والده الذين رحّب الكثير منهم بعودته، في تصريحات وثّقتها "قنطرة".
هل غايته الرئاسة حقًا؟
ومن الصعب التنبؤ بطموحات نجل القذافي الحقيقية طالما أنه لم يتحدث بعد في العلن، ولم يخاطب شعبه وجيرانه والدول المعنية بأزمة بلده، على غرار الأوروبيين والأميركيين. لكنّ تقديرات كثيرة تشير إلى أنّ حملته الاتصالية الحالية، والتي يشرف عليها فريق متمرّس في "العلاقات العامة"، تسعى إلى تحقيق مكتسبات خفية ليس من بينها "الحكم المباشر" لليبيين.
يبدو أنّ سيف الاسلام وفريقه، يعلمون أن هدف العودة الى سدة الحكم هو طموح مشروع على المدى البعيد، أما على المدى المتوسّط، فهم يسعون فقط لإيجاد الظروف الملائمة ليكون سيف الاسلام ناطقا وحيدا باسم النظام السابق، ليُلجم شخصيات كثيرة مساندة لوالده تريد أن يكون لها دور في ليبيا الجديدة وتدّعي أنها الممثل "الشرعي" والأكثر قربا للعقيد الراحل ونظامه الزائل.
لا يريد سيف الاسلام - الذي لم ينجح سابقا في جعل ليبيا بلدا سعيدا صالحا للعيش - أن يكون رئيسا للبلاد، في هذا الظرف الحسّاس والصعب، ومع هذا القدر من الخصوم الاقوياء، بقدر ما يريد ضمّ وتجميع أنصار "النظام الجماهيري"، الذين لا يتمثّلون إلى حدّ اليوم في أي حزب أو حراك مؤثّر، كما لا يملكون ميليشيا مسلحة قويّة تُحسب عليهم وتحسّن شروط التفاوض باسمهم.
وإن حصل سيف الاسلام، على ذلك الامتياز كخطورة أولى، فسيكون قد قطع شوطا بارزا نحو العودة إلى الحكم، بفرض نفسه كناطق رسمي وحيد باسم النظام السابق الذي أُقصي من كل جولات الحوار التي بدأت منذ العام 2011 إلى اليوم.
صمت غربي مُقلق
في الأثناء، لا يبدو أنّ الدول التي تتقاسم النفوذ في ليبيا أو تلك التي تريد أن يكون لها موطئ قدم فيها، معنيّة بالحراك المساند لنجل القذافي، فبخلاف المُستعمر السابق إيطاليا، التي رحّبت بخوض سيف الاسلام للانتخابات، لم تصدر مواقف واضحة بعدُ.
أما عن باريس التي قدّمت الكثير لإسقاط نظام القذافي، وتُنافس حاليا ايطاليا على عقود الطاقة واعادة الاعمار، فإن تقارير كثيرة تقول إنّ الفرنسيين يدعمون بشدة عودة نجل القذافي.
وتقول ذات التقارير إن سيف الإسلام التقى ممثلين عن سفارات روسيا وهولندا وبريطانيا في منطقة الرجبان، كما أنه يتواصل بشكل مكثف مع الجانب الفرنسي، مؤكدة أن "الجزائر أيضا من ضمن الدول العاملة بشكل كبير في دعم عودة سيف كخيار من خيارات الاستقرار في ليبيا".
ولباريس حضور في الجنوب الليبي حسب الصحافة الفرنسية، حيث تتركّز بكثافة القبائل الليبية التي لا تزال تحتفظ بالولاء والتأييد للنظام السابق، وباريس محتاجة لنفوذ سيف الإسلام في منطقة تطلّ على مساحة تعتبر تاريخيا نفوذا للفرنسيين وهي افريقيا جنوب الصحراء، حيث يُقاتل الفرنسيون حاليا مجموعات جهادية كثيرة تتمدّد افقيا وعموديا، وتريد أن يكون لها موطئ قدم في ليبيا المضطربة.
الحكومات في الغرب والتي عادة ما تتناغم مع مصالحها، لا مع أفراد بعينهم، ستعلنُ مواقفها من عودة نجل القذافي فور معرفة برامجه وتلمّس شعبيته وقدرته على أن يكون رقما صعبا في المعادلة.
وربما سيهتمّ الغرب بالنفوذ الروسي العائد إلى ليبيا أكثر من الاهتمام بشخص نجل العقيد وانصاره، فبعد استبعادها من قسمة الموارد بعد سقوط النظام، تسعى موسكو من جديد للعودة إلى طرابلس، وذلك باستقبالها وفدا يمثل نجل العقيد وتشديدها على أن سيف الإسلام القذافي "سيكون جزءا من العملية السياسية والحل"، في حين مازالت الولايات المتحدة متفرّغة للجانب الأمني المحض، وترى أن أولوياتها هي القضاء على تنظيم "داعش" في هذا البلد، الذي لم تتقدم فيه مفاوضات الحل السياسي بعدُ.
إسماعيل دبارة
حقوق النشر: قنطرة 2019
*إسماعيل دبارة صحافي وعضو الهيئة المديرة لمركز تونس لحرية الصحافة