ربط الإرهاب بالمسيحية مقابل ربطه بالإسلام؟
مع كل حادث إرهابي يرتكبه مسلم أو مسيحي تطفو على السطح بقوة محاولات لربط الإرهاب بدين بذاته، تقابلها محاولات أخرى تسعى بقوة لنفي أي علاقة بين الإرهاب وبين نفس هذا الدين، ألا وهو: الإسلام.
وما حدث يوم الجمعة 15 / 03 / 2019 من اعتداء إرهابي وحشي راح ضحيته قرابة 50 مسلما في نيوزيلاندا على يد إرهابي مسيحي الديانة طرح مجددا وبقوة علاقة الدين بالإرهاب، وخاصة من قِبَل المسلمين، الذين وجدوا في هذا العمل الإرهابي البشع فرصة للدفاع عن الإسلام ونفي علاقته بالإرهاب، وإلاَّ لجاز ربط المسيحية بالإرهاب انطلاقا من ديانة هذا المجرم الغربي.
وسط هذه المحاولات وتلك -التي تتسم في عمومها بالطابع الاندفاعي الدفاعي والعاطفي- تتراجع تساؤلات أكثر أهمية، من شأنها أن تسهم -في تصوري- في حل معضلة علاقة الدين بالإرهاب.
وأهم هذه التساؤلات -في رأيي- يرتبط بمدى إمكانية تحديد معنى الدين، وأبعاده بحيث يمكن على أساسه ربط عمل إرهابي ما بدين أو بآخر، وسأكتفي في هذا المقال بالحديث عن بُعد واحد من أبعاد الدين، ألا وهو: البعد الاجتماعي أو الثقافي التاريخي.
تُظهِر محاولات نفي أو إثبات علاقة الدين بالإرهاب اعتبارَ الدين كيانا منفصلا عن واقع يُمارَس فيه، أي أنه يُنظر إلى الدين بوصفه نصوص رسالة سماوية مقدسة منفصلة عن واقع من تخاطبه. ولذا يسهل على أصحاب هذه النظرة صياغة عبارات من قبيل: هذا ليس من الإسلام في شيء، أو الإسلام بريء من هذه الأفعال الإجرامية، مستشهدين في ذلك بالآيات التي تحض على السلام والتوادّ بين البشر.
النَّصّ الديني يتفاعل مع الواقع عن طريق البشر
ويفوت هؤلاء -رغم حسن نواياهم- أن خصومهم يمارسون نفس النهج ولكن في الاتجاه المعاكس، بحيث ينزعون النص أي الدين عن سياقاته التاريخية ويقرأون فيه جانب العنف فقط مستشهدين هم أيضا بآيات أخرى يُفهَم من ظاهرها تبرير العنف وقتال الآخر، وهنا يظهر الفصل بين النص والواقع وكأن النص يمكن قراءته في "اللاواقع". وهذا ينسحب على الإسلام، كما ينسحب على المسيحية، وغيرهما من الأديان سواء بسواء.
من جانب معرفي لا يمكن الفصل بين النص من جانب وبين من يؤمن بهذا النص وأسلوب تطبيقه له من جانب آخر. فالنص لا يتحدث أو يطبق نفسه بنفسه، ولكن الإنسان هو الذي يقرأه ويفسره بحسب ثقافته وظروف بيئته الثقافية والسياسية والاقتصادية، وهو ما عبر عنه علي بن أبي طالب بقوله إن القرآن بين دفتي المصحف لا ينطق، وإنما يتكلم به الرجال، فالنص لم يأتِ ليبقى منفصلا عن الواقع، ولكنه يتفاعل معه عن طريق البشر، وكلما نضج وعي البشر المعرفي التسامحي ظهرت سماحة النص.
وكلما تدهور مستوى الوعي بالكرامة الإنسانية والمساواة -بغض النظر عن الديانة- أصبح فهم الإنسان للنص تمييزياً وعدوانياً، ومن ثم إرهابياً، يرى في الغيرية سبباً لكراهة الآخر المختلف دينيا أو عرقيا أو ثقافيا أو كلها مجتمعة، إذ يصعب فصل إحداها عن الأخرى بالكلية.
من شأن التعاطي مع البعد الثقافي التاريخي للدين أن يعيننا على فهم ظواهر معقدة، كانفصال العبادات -كالصلاة مثلاً- عمَّا ترتبط به بداهةً من الخشوع والإيمان والأمن والسلام والطمأنينة، حيث أصبح هذا الارتباط للأسف غايةً وليس شرطاً. فالتاريخ والحاضر يشهدان بوجود من اقترنت شدة وحشيته مع كثرة صلاته وابتهالاته كالخوارج في الماضي والدواعش في الحاضر، فهم أحرص من غيرهم على الصلاة والمناسك. ولكن تقديس العبادة لا يرتبط عندهم بتقديس الإنسان وكرامته بغض النظر عن دينه.
بالعودة إلى علاقة الدين بالإرهاب، أرى أن المحاولة المتكررة لنفي العلاقة بين الدين -أو بالأحرى القناعات ذات الصبغة الدينية- وبين الإرهاب، تؤكد وجود هذه العلاقة، لأن كثرة الحرص على نفي الترابط بين شيئين تؤكد صعوبة تفكير الذهن في أن أحدهما منعزل عن الآخر.
توجد علاقة بين قناعات ذات صبغة دينية وبين الإرهاب
كما أن الرسائل السرية التي أرسلها الإرهابي، قاتل مسلمي نيوزيلاندا، تثبت هذه العلاقة المتشابكة بين الديني والثقافي في التاريخ المسيحي والإسلامي أو الغربي والإسلامي، لدرجة أن مقابل الغربي لم يعد للوهلة الأولى هو الشرقي بحسب التقسيم الجغرافي البديهي بل صار مقابل الغربي هو الإسلامي.
وهذا التقابل رغم دلالاته السيئة لا يعود على اختزال الغرب للشرق في الدين، بل يعود أيضا إلى اختزال الشرق نفسه في بعده الديني وتقديم نفسه بالثقافة الإسلامية السائدة قبل صفته الجغرافية أو حتى العرقية العربية، وهنا مشكلة أخرى تتعلق بتعريف الهوية بدقة وأولويات الانتماء وهذا يحتاج إلى دراسات تفصيلية.
كما أن نقد المسلمين الدائم والمبرر لازدواجية المعايير الغربية في وصف الإرهاب الذي يرتكبه مسلم بالإرهاب الإسلامي والإرهاب، الذي يرتكبه مسيحي بالتطرف اليميني وليس بالإرهاب المسيحي، يضمر رغبة دفينة في ربط الإرهاب بالدين المسيحي أيضا كمقابل لربطه بالدين الإسلامي، مما يعني أن الرغبة في نفي علاقة الدين بأي عنف ليست مبدأية، ولا تقوم على تأصيل حقيقي لفهم أبعاد الدين المختلفة من اجتماعية وثقافية وسياسية ومعرفية، بل تعتمد في الغالب الأعم على السجال بين الأنا والآخر وتبادل الاتهامات بينهما.
ولا تنفك ثنائية الأنا والآخر هنا عن ربط الأنا بالدين الإسلامي والآخر بالدين المسيحي، فكيف يتأتى أنك لا ترى في هذا الآخر إلا بعده الديني وتنكر في نفس الوقت أن يختزلك هو في نفس البعد؟!
إن أي إرهابي لا يمكن نزعه من محيطه الثقافي، كما أنه لا يمكن نزع البعد أو المكون الديني من مكونات الثقافة، ومن ثم لا يمكن قراءة أي عمل إرهابي قراءة شاملة بدون عنصر الدين فيها، وإن كان لا يصح معرفيا -بناءً على ما تقدَّم- ربط الإرهابي بالدين في حد ذاته.
فمن الضروري عدم الفصل بين الإرهابي والعناصر المكونة لثقافته ومنها التنشئة والتربية الدينية والخطاب الديني السائد في محيطه، فقراءة النص التسامحية أو العدوانية ترتبط بظرفها التاريخي، مما يحيل قضية الإرهاب إلى الإنسان أولا، لا إلى النص مباشرة.
عاصم حفني
حقوق النشر: عاصم حفني / موقع قنطرة 2019
عاصم حفني مدرس الحضارة الألمانية بجامعة الأزهر وأستاذ الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة ماربورغ الألمانية.
[embed:render:embedded:node:34840]