طرقة ثانية لنسائم الحرية العربية - ولكن بأي أفق؟
مهما بلغ التشاؤم بالمرء، ممّا آلت إليه تطورات أحداث الربيع العربي، منذ اندلاعها في تونس بداية عام 2011. نتيجة عوامل داخلية مرتبطة بطبيعة الأنظمة، ومستوى النخب ووعي الشعوب، وأخرى خارجية، تتعلق بالتدخلات الإقليمية والصراع الدولي لضمان مناطق النفوذ، فحتماً سيراوده التفاؤل وهو يتابَع ما يجري من احتجاجات منذ أسابيع في الجزائر، وقبل ذلك بأشهر في السودان.
انتفض الشارع العربي مجددا في بلدين بينهما قواسم مشتركة، مكنت النظام القائم في كل منهما من التصدي للنسخة الأولى من الربيع العربي. لكن متغيرات واقع الحال لم تعد تضمن ذلك، سواء في الخرطوم -حيث بلغت سقف المطالب رحيل نظام الرئيس البشير- أو في الجزائر مع الرفض التام لمنح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة -المُقعد منذ ست سنوات- ولاية رئاسية خامسة.
مد جماهيري شعبي تلقائي
إن عودة الاحتجاجات الشعبية في السودان والجزائر تمثل تطورا جديدا في المشهد الإقليمي، بشكل يرجح القول بأن ما يحدث الآن قد لا يقل أهمية عما حدث قبل ثمان سنوات، ويحمل إرهاصات لموجات ثورية قادمة حتى وإن أنكرها المنكرون.
لقد سقطت السرديات التي تسوقها الأنظمة سنين عددا، وتستند إليها لتبرير وشرعنة أي قمع موجه ضد مواطنيها. فمقايضة الحرية والديمقراطية بالسلم الأهلي، لم تعد مقبولة بالنسبة للجزائريين. فيما يرفض السودانيون نظرية المؤامرة وأكذوبة الاستهداف الإمبريالي الغربي لنظامه التي يروج لها الرئيس البشير، ويجدد بها شرعيته الانقلابية المتهالكة منذ عقود.
يكتشف المتأمل في ما يجري بالمشهدين السوداني والجزائري أن الحراك الجماهيري هناك، يكاد يستنسخ كل مقومات وخصائص الموجة الثورية الأولى. فهو مد جماهيري شعبي تلقائي، بلا زعيم أو قيادة تديره، ولا غطاء تنظيمي أو حزبي يتبناه. يصِر على الجنوح للسلمية، حتى لا يمنح الأنظمة الاستبدادية شرعية القمع باستخدام القوة والعنف.
كما أن دواعي الخروج تبقى ذاتها، فالشعارات التي صدح بها المحتجون في الميادين والساحات والشوارع عام 2011، تتكرر اليوم بنفس النبرة والحدة. ما يؤكد أن انصرام سنوات على النسخة الأولى لم يشكل فارقا، فالوعود التي قطعها حكام هذه الدول لشعوبهم -من أجل ثنيهم على الخروج للتظاهر- ذهبت أدراج الرياح.
نقيض الموجة الأولى من الحراك التي اشتعل فتيلها في دولة ذات نظام أمني (تونس)، بدأت هذه الموجة من دول تحكمها أنظمة عسكرية (الجزائر والسودان) بقبضة من حديد، منذ جلاء الاستعمار.
ضمور الطابع الإيديولوجي
كما أن حدة النَفَس الهوياتي تراجع بشكل كبير في المظاهرات، فالمدقق في الشعارات المرفوعة منذ انطلاق الاحتجاجات، يكتشف ضمور الطابع الإيديولوجي (إسلامية، يسارية، علمانية...) لصالح القيم المواطنة والديمقراطية والعدالة والحرية.
مقابل هذا العنفوان الشعبي المتنامي، تُسجل انتكاسة واضحة في محور البلدان الإقليمية المناهضة للربيع العربي، بعدما فتحت أكثر من جبهة صراع في المنطقة، وتورطت بشكل مباشر في أكثر من دولة (اليمن، مصر، ليبيا، سوريا...). ما خلط الكثير من الأوراق داخل هذا الحلف، وأدى إلى خلق توترات بين مكوناته، على غرار ما حدث بين دولتي السعودية والإمارات بشأن المسألة اليمنية.
مهما أبدع النظامان الجزائري والسوداني في المناورة والمراوغة، فالشعوب المقهورة والمغلوب على حالها، لن ترضى في الموجة الثورية الحالية بما دون إسقاط النظام في الجزائر والخرطوم. فمطلب اجتثاث الدولة العميقة -أي تغيير العقل السياسي الذي يسيِّر البلاد، لصالح إقامة شرعية جديدة للسلطة، من خلال تعاقدات جديدة، يتمتع فيها المواطن بالكلمة الفصل في صياغتها شكلا ومضمونا.
سقوط وهم تخويف الشعوب بمصير تجارب سابقة
تعيش الشعوب العربية اليوم -مع الموجة الثانية للحراك- على وقع لحظة مفارقة، تكشف عن تغيير عميق في بنية الوعي، أسقط وهم تخويف الشعوب بمصير تجارب سابقة في الإقليم (ليبيا، سوريا، اليمن...). وتمكن من خلخلة موازين القوى السياسية؛ جاعلا مؤسسات الوساطة التقليدية في الدولة/النظام من أحزاب ونقابات... على محك الاختبار والاختيار بين الانحياز للشعب أو الدفاع عن النظام.
لكن الملاحظ أن هذا التغيير لدى الشعوب، لم يواكبه تجديد في آليات تدبير الأزمات لدى صناع القرار السياسي. فعادةً ما يبدأ الأمر بالتجاهل والتخوين والعناد والمماطلة، لينتهي بالعنف والقمع والسجن والقتل. ما يؤدي إلى التصعيد، ورفع سقف المطالب، ومزيد من تأزيم الأوضاع.
وهذا هو المنحى الذي يدفع البشيرُ الأحداثَ لتتخذه في السودان. في حين تظل الصورة الجزائر ملتبسة إلى حد كبير، جراء الصراع المحتدم بين أطياف الدولة العميقة بشأن الحل الممكن لتجاوز الأزمة.
يبقى النظام في موريتانيا أذكى نسبيا، قياسا إلى بقية الأنظمة العسكرية في السودان والجزائر وحتى في مصر، حين رفض الرئيس محمد ولد عبد العزيز مبكرا، مقترح تعديل الدستور الموريتاني، كي يمنحه حق الترشح لولاية ثالثة. مفضلا في المقابل، استنساخ التجربة الروسية بين فلاديمير بوتين وديمتري ميدفيديف، من خلال دعم صديقه وزير دفاعه الحالي محمد ولد الشيخ أحمد الغزواني، الذي عُين قبل أشهر فقط على رأس هذه الوزارة، في خطوة أولى تُمهد له الطريق نحو الرئاسة.
المنطقة مقبلة على تحولات كبرى
أيا تكن مآلات الموجة الثانية من الاحتجاجات، وكيفما كانت نتائجها في الساحتين السودانية والجزائرية، فالحقيقة الثابتة هي أن المنطقة مقبلة على تحولات كبرى في القادم من السنوات.
لكن أهم تحول يسجل هو تعاقب الموجات الاحتجاجية والحركات الثورية الشعبية، بشكل لن تكون الأنظمة كيفما كانت -عسكرية أو أمنية أو قبيلة- قادرة معه على مواجهتها، إن ظلت وفية للأساليب التقليدية عند التعامل معها.
باختصار، إنها الطرقة الثانية لنسائم الحرية على بابين من أبواب وطن ممتد من البحر إلى البحر، والأكيد أن طرقات أخرى قادمة لا محالة على أبواب أخرى، ما على الأنظمة الاستبدادية سوى التحضير لها، فالشعوب على أهبة الاستعداد للطرق.
محمد طيفوري
حقوق النشر: محمد طيفوري / موقع قنطرة 2019