خرافة الحب ورمزية الوباء
«مئة عام من العزلة»، التي نشرت للمرة الأولى بالإسبانية عام 1967، كانت حيلة غبرائيل غارثيا ماركيز التي استولت على خيال جيل كامل. أعاد هذا الروائي الكولومبي كتابة «العجيب والغريب»، كما في «ألف ليلة وليلة»، عبر بنية جديدة، استلهمت فولكنر، لكنها كانت ابنة بيئة تتعايش فيها الغرابة مع الواقع، بحيث صار الواقع هو الغرابة التي لا يمكن القبض عليها.
غير أن حيلة الرواية الكبرى تحولت إلى فخ في رواية قصيرة نشرت عام 1981، بعنوان «قصة موت معلن». بطل الرواية وضحيتها هو اللبناني- السوري سانتياغو نصار، الذي سيُقتل بشكل وحشي على أيدي الأخوين بابلو وفيدرو بيكاريو. فخ الرواية مزدوج: الجريمة من جهة، والعشق من جهة ثانية.
كل أهل المدينة عرفوا أن سانتياغو سيموت لأن انجيلا بيكاريو اعترفت ليلة زفافها، بعد افتضاح أمر عدم عذريتها، بأن سانتياغو هو المذنب. الوحيد الذي لم يعرف هو سانتياغو الذي سيموت حاملاً مصارينه في يديه. سانتياغو مات غريباً ووحيداً، أما العشق الذي لا علاقة للضحية به، فهو عشق أنجيلا المتأخر لزوجها الذي هجرها، فبقيت سبعة عشر عاماً تكتب له رسائل الحب. وحين عاد إليها زوجها باياردو سان رومان بعد كل تلك الأعوام، اكتشفت المرأة أن رسائلها بقيت مقفلة.
رسائل أنجيلا هي مقدمة «الحب في زمن الكوليرا». موت سانتياغو نصار الذي أشعرني بأن ماركيز يكتب عن تجربة المهاجرين اللبنانيين- السوريين إلى أمريكا الجنوبية، التي للأسف لم تكتيها الرواية العربية كما يليق بتجربة كبرى، بدا لي جزءاً مكملاً لموتنا اللبناني في حروبنا الأهلية التي بدأت عام 1840 ولم تنته. أما حكاية عشق فلورنتينو أريثا لفيرمينا داثا في رواية «الحب في زمن الكوليرا» (1985)، فقد أخذتني إلى كتاب «مصارع العشاق» لابن السرّاج، ومقاطع من «طوق الحمامة» لابن حزم. ففي الكتابين لا نقرأ عن الحب فقط بل عن متخيله، أي عن الحب الذي يتخذ أشكالاً عجيبة، من الحب في المنام إلى الموت حباً، إلى آخره…
مفردات العشق العربي التي صاغها قيس بن الملوح جنوناً ووضاح اليمن موتاً، تلوح وشماً على مبنى رواية ماركيز، لتأخذنا إلى عالم سحري لا يفضي إلا إلى مزيد من التوغل في الخرافة.
بنى ماركيز روايته على التوازي بين الكوليرا والحب. فأخذ من الكوليرا رمزيتها القاتلة جاعلاً من أعراضها شبيهة بأعراض الحب. فالأعراض التي تصيب فلورنتينو العاشق عندما تتخلى عنه حبيبته فيرمينا وتتزوج من الطبيب اوربينو خوفينال، هي أعراض الكوليرا، مثلما لاحظت أمه.
بدأت الرواية بموتين: موت جرميا سانت آمور، المصوِّر الذي قرر الانتحار خوفاً من الكهولة، وموت الدكتور اوربينو عندما سقط أرضاً وهو يحاول التقاط الببغاء.
لقاء فلورنتينو بفرمينا في مأتم الزوج بعد واحد وخمسين عاماً من الفراق، يفتح الرواية على الحب وذاكرته. الرواية تبدأ بالذاكرة وتنتهي في سفينة تحمل العلم الأصفر، حيث يصير العمر بلا نهاية، كأن لا نهائية الحب تلتقي بلا نهائية الموت.
عشق مصنوع من كلمات ورسائل يستولي على العاشق كأنه قدر لا يُرد. وعندما التقى الحبيبان أخيراً، بعد موت الزوج، كانت هي في الحادية والسبعين وهو في السادسة والسبعين. مراهقتهما الغرامية الأولى كانت عبر الرسائل، أما عشقهما الجسدي فلن يتجسّد إلا على ضفاف الموت.
رواية عجيبة تصنع أفخاخها في سرد يجعل القارئ متفرجاً على حدث خارق. العاشق يأكل الزهور ويشرب الكولونيا، يمارس الجنس بجميع أشكاله مع مئات النساء، من دون أن يفقد عذريته العميقة أمام حبيبته الأولى. كل شيء في قصة الحب غير عادي إلى درجة تدفع القارئ إلى حافة عدم التصديق. لكن سيان؛ فالحكاية لا تطلب منا أن نصدّقها، بل تأخذنا إلى احتمالات العواطف والرغبات.
إنها رواية عن فكرة الحب، أما الحروب الأهلية التي تعصف بكولومبيا والكوليرا التي تجرف الموتى، فهي ليست سوى أطر للرغبة.
قرأت الرواية في الثمانينيات من القرن الماضي وأعدت قراءتها اليوم. وفي قراءتي الثانية اكتشفت أنني نسيتها ولم تحفظ ذاكرتي منها سوى مشاهد متفرقة، كمشهد موت الطبيب في البداية، ومشهد المرأة التي كان اسمها سارا نوريغا التي كانت «تمص مصاصة طفل رضيع وهي تمارس الحب وذلك كي تصل إلى ذروة المجد»، ومشهد النهاية، وبعض المشاهد المتفرقة كالدمية التي صارت تكبر، وحكايات الدلافين، وإلى آخره… لكن صورة العاشق تلاشت، فهذا العشق رغم أحزانه ليس مأساوياً، إنه مجرد ذكرى.
عبقرية ماركيز جعلت من هذا التلاشي مدخلاً إلى كتابة القصة. أميل اليوم إلى قراءة هذه الرواية بصفتها رواية عن الموت والكهولة، أو عن الرغبة في الحب كعلاج من الموت.
هل الكوليرا هي رمز الحب؟
الرمز في الرواية يجعل من شخصياتها أشباحاً، والتوغل في الغرابة إلى درجة تحويلها إلى شكل موارب للحقيقة يدمّر الفاصل بين الحب ووهمه. أما الكوليرا التي من دونها لم يكن من الممكن للقصة أن تنتهي بحيث لا تنتهي على الطريقة الماركيزية، فهي مجرد إطار رمزي لا يأخذنا إلى المأساة رغم مأساويتها.
لكنها رواية ممتعة. الإمتاع هو سر هذا الكاتب، إمتاع مجانيّ يأخذنا إلى المتعة بصفتها إحدى علامات الأدب الكبرى. أتخيله يضحك وهو يكتب، ينتشي في وحدته مع الكلمات، يذهب في اللعبة إلى أقصاها مع قدرة مذهلة على إقامة توازن دقيق يجعل القارئ يصدّق ما لا يصدّق، ويتمتع بهذا العالم اللامعقول الذي يدجّنه الأدب.
روى ماركيز في حوار قديم مع مجلة «باريس ريفيو» الأمريكية، أنه حين قرأ حكاية الرجل الذي استيقظ من نومه ليكتشف أنه صار حشرة، كما كتب فرانز كافكا، اكتشف أنه يستطيع أن يكتب. وصار يقرأ الأشياء كأنها نصوص، ويتذوق طعم كل شيء.
في رحلة الحب على متن الباخرة، تنبّه القبطان إلى أن رفع علم الكوليرا على السفينة يعني حكماً بالبقاء في النهر إلى ما لا نهاية. رأى القبطان في «رموش فرمينا صقيعاً شتوياً… وعند سؤاله إلى متى؟ سمع جواب فلورنتينو الجاهز منذ ثلاث وخمسين سنة وستة شهور وأحد عشر يوماً، الذي قال: مدى الحياة».
الفخ الذي نصبه كافكا كي يروي غُربة الإنسان، جعل منه ماركيز نسقاً حوّل المستحيل ممكناً.
الياس خوري
حقوق النشر: الياس خوري 2020