سفيرة أدب محفوظ ومترجمة رواياته إلى لغة غوته

نقلت المترجمة المبدعة دوريس كيلياس نحو أربعين رواية من روايات الكاتب الكبير نجيب محفوظ إلى اللغة الألمانية. دوريس كيلياس، التي وافتها المنية في بداية الشهر الحالي، ساهمت على هذا النحو في تعريف جمهور واسع في البلدان الناطقة باللغة الألمانية بروايات رفيق روحها الأدبية ورائد الرواية العربية نجيب محفوظ وفي وصول الأدب العربي إلى العالمية. لؤي المدهون يستذكر الراحلة.

​​قال الفيلسوف الألماني وأحد أهم ممثلي الحقبة الرومانسية المبكرة فريدريتش شليغل Friedrich Schlegel ذات مرة، "لا نعرف في الواقع ماهية الترجمة على الإطلاق". بيد أن هذه العبارة لا تنطبق على المستعربة والمترجمة المجدة دوريس كيلياس، لأنها كانت تعرف شروط الترجمة ومفاصلها المهمة حق المعرفة وتجيد السير في مسالكها الوعرة لتصل إلى الغاية بامتياز.

هذه المترجمة الفذة لعددٍ كبيرٍ من روايات الأديب الكبير نجيب محفوظ، كانت ترى في فعل الترجمة عملاً ونحتًا مُجهِدين على وجه الخصوص، لأن الترجمة الأدبية من اللغة العربية لا تشترط في المقام الأول الكفاءة والمعرفة والجدارة اللغوية وحسب، بل الإلمام الثقافي أيضًا.

فرصة نادرة في مهب الأزمة

سافرت دوريس كيلياس في عام 1967 للمرة الأولى إلى بلدٍ عربي، حيث اغتنمت فرصةً نادرةً أتيحت لها لتدرس لمدة فصلين في جامعة القاهرة كطالبة للدراسات العليا على الرغم من أن سلطات جمهورية ألمانيا الشرقية لم تسمح لها بمغادرة البلاد إلا بشرط ترك طفلتها "جيني"، التي كانت لم تبلغ آنذاك الخمسة أشهر من العمر بعد، كنوعٍ من "الرهْن" في برلين الشرقية. بيد أن دوريس كيلياس عرفت أن هذه كانت فرصة العمر، وقد قالت بهذا الصدد فيما بعد: "لقد كنت من المحظوظين القلائل الذين أتيحت لهم هذه الفرصة."

​​تركت الانطباعات القاهرية الأولى في نفسها أثرًا بالغًا. دوريس كيلياس تتذكر هذه الزيارة الأولى: "وصلت إلى القاهرة في عام 1967 بعد فترةٍ وجيزةٍ على نهاية حرب حزيران حيث كان الجو العام كارثيًا هناك. بالطبع لم يكن ممكنًا أن أتصور وأنا في برلين مدى فظاعة الأجواء التي كانت تسود آنذاك."

لكن الصدمة التي أصابت وعي النخبة العربية والمثقفين العرب من جراء حرب حزيران كان لها ما يشبه التأثير الشافي على الأدب العربي، حيث كرّس الكتّاب العرب أنفسهم للمرة الأولى لقضايا مجتمعاتهم الجوهرية والوجودية، وشرعوا فجأة بالتفكير بالذات في مهب الأزمة متسائلين: من نحن وماذا نكون؟

كما سمت فداحة الهزيمة العقل العربي بمعالم جديدة ناقدة للذات لم تكن معروفةً من قبل. لذلك رأت المستعربة الشابة دوريس كيلياس المستعربة الشابة في هذه الحقبة "تطورًا هامًا وحافزًا خصبًا للإنتاج الأدبي".

احترام مهيب لنجيب محفوظ

​​كانت دوريس كيلياس شغوفة للغاية بأستاذ الرواية العربي الكبير نجيب محفوظ ، على الرغم من أنها ترجمت أعمال كتّابٍ آخرين مثل محمد شكري، وجمال الغيطاني، كما ترجمت في السنوات الأخيرة أعمال ميرال الطحاوي وآخرين.

"كان من الممتع الإصغاء إليه ومراقبته لدى حديثه مع الكتّاب الناشئين متناولاً نصوصهم في أناةٍ وصبر، ومسديًا النصح لهم بحذر". هكذا تصف دوريس كيلياس لقائها الأول مع نجيب محفوظ في مقهى الريش التاريخي في القاهرة. وفيما بعد أقرّت كيلياس صراحةً: "أحب الحياة بالقرب من نجيب محفوظ."

المترجم: جندي مجهول في حقل الأدب

عاشت دوريس كيلياس، كما هو حال كل المترجمين، في ظل الكُتّاب، وأغضبها قلّة تقدير عمل الترجمة وغيابه في أغلب الأحيان، وهو ما دفعها إلى القول ذات مرة: "إنهم يظنون أنه يكتب باللغة الألمانية!"، مستاءةً وساخرةً من النقّاد الذين كانوا يمدحون لغة الكتّاب الذين ترجمت أعمالهم دون تقدير فضلها أو حتى دون ذكر اسمها في بعض الأحيان.

تروي جيني ابنة دوريس كيلياس، التي كتبت تكريمًا معبرًا لوالدتها في صحيفة "برلينر تسايتونغ" الألمانية، إنه عندما كان يطرح على والدتها السؤال حول أجمل ما في الترجمة، كانت تجيب: "أن تكون شخصًا آخر لفترةٍ من الزمن".

كرّست دوريس كيلياس نفسها لعائلتها ورعتها على الرغم من انهماكها بمهنتها. ويسجل الكاتب حسن داوود، رئيس ركن الأدب والفن في صحيفة "المستقبل" اللبنانية، الذي كانت تربطه بالسيدة دوريس كيلياس صداقة مهنية، متذكرًا في رِثائه لها في صحيفة "المستقبل" المرحلة المؤلمة من حياة المترجمة، التي رعت فيها زوجها المريض بداء السرطان، يسجل أنه لم يتبق لها من القوة لإنجاز ما كان عليها أن تنجزه من مشاريع الترجمة بالدقة والدأب، اللذين اتصفت بهما طوال حياتها.

نقل ناجح للأدب العربي إلى الألمانية

"لا بد للمرء من أن يحب موضوعه، لكي يستطيع نقله نقلاً جديرًا للآخرين". جسدت دوريس كيلياس هذه القاعدة، التي تعود للشاعر الألماني الكبير غوته طوال مسيرة حياتها المهنية. لقد أحبّت دوريس كيلياس عوالم ومواضيع نجيب محفوظ الأدبية بالأخص، ولعل هذا سبب نقلها الناجح لأعماله الأدبية ومساهمتها في تحقيق شهرته العالمية.

المترجمون الموهوبون الجادون هم في نهاية المطاف من يجعلون الأدب "الغريب" أدبًا عالميًا. لذلك لن يكون من السهل ملء الفراغ الذي سيخلّفه رحيل دوريس كيلياس في حقل الترجمات الشرقية-الغربية.

لؤي المدهون
ترجمة: يوسف حجازي
قنطرة 2008

قنطرة

ذكريات ناشر ألماني عن نجيب محفوظ:
موعد في مقهى علي بابا
تصدر سنوياً منذ العام 1986 عن دار نشر"اونيون" رواية لنجيب محفوظ باللغة الألمانية. الناشر لوسيان لايتس يتحدث هنا عن أول لقاء له مع الكاتب العربي الوحيد الحائز على جائزة نوبل للآداب.

عالم الكتب
ترجمة الأدب العربي وعقلية المؤامرة
يتهم الكثير من المثقفين العرب المترجمين الأجانب ودور النشر الأجنبية بترويج صورة نمطية عن الشرق، في حين لا نجد أي مبادرة من الطرف العربي لنقل الأدب العربي إلى لغات أخرى. تعليق بقلم سمير جريس

كتاب
العرب من وجهة نظر يابانية
ما الذي جعل النهضة اليابانية تمضي في تطورها المذهل بينما انتكست النهضة العربية على صورة ما هي عليه اليوم؟ انطباعات المستعرب الياباني نوبوأكي نوتوهارا عن العرب تقدم جوابا على هذا السؤال. فرج بو العشة قرأ الكتاب ويقدمه لنا