الكاتب الذي الذي يمد الجسور ويثير الجدل

التمزق بين الشرق والغرب والضياع الروحي موضوعان يقعان في مركز اهتمام الكاتب سلمان رشدي في روايته "آيات شيطانية"، التي تثير مرة أخرى بعد عشرين سنة من صدورها احتجاجات عارمة. مقال بقلم أنجلا شادر

مرة أخرى يطفح الكيل: في باكستان وفي العديد من البلدان الإسلامية الأخرى تنطلق الاحتجاجات على تكريم سلمان رشدي بمنحه لقب "الفارس". احتجاجات يخوضها أناس يمكن الاعتقاد بحق بأنهم في أغلبيتهم لا يتمتعون بامتياز المقدرة على اقتناء الكتب وقراءتها، وعلى تكوين آراء شخصية لهم من خلال الاطلاع على مقاربات دقيقة ومتمايزة، واكتساب رؤية واضحة لشبكة العلاقات والتراتبات التي تزداد كل يوم تعقيدا داخل ما يسمى بـ"القرية الكونية".

أما في بريطانيا فإن اللجنة المسؤولة عن منح اللقب للكاتب تقف مندهشة وحائرة أما ما آلت إليه الأمور، وتصرح بأنها لم تكن لتقرأ حسابا لمثل هذه التبعات. ومرة أخرى ينبري المثقفون، هنا لمساندة حرية التعبير والفن وليبرالية المجتمع، بينما يجد الغضب المكبوت للمستضعفين هناك (غضب لا يتوانى الممسكون بزمام السلطة المحلية من استعماله لصالحهم) متنفسا له في حرق دمى الخرق وفي الخطابات المشحونة بالحقد.

التكريم كمبادرة تراضي؟

ومهما تكن خلفيات الدوافع التي قادت إلى منح شرف اللقب الفروسي لسلمان رشدي، فالثابت أنه من المستبعد أن تكون هناك نية إهانة للإسلام وراء هذا العمل كما يذهب إلى ذلك متهموا الحكومة البريطانية من بعض ممثلي المسلمين في الداخل والخارج.

إذ أن بلدا قد كان عليه أن يتذوق –ومن داخله- الطعم القاسي لضربات الإرهاب الإسلاموي، ويجد نفسه مجبرا على اتباع سياسة السير المجهد على حافة دقيقة ما بين توخي الحراسة المشددة على المسلمين والجهود الجدية لسياسة إدماج هذه الجالية داخل المجتمع، مثل هذا البلد لا طاقة ولا مصلحة له في مثل هذه الاستفزازات.

عذاب اهتزاز الإيمان

بل إنه بإمكان المرء أن يرى في تكريم الكاتب محاولة لتجاوز التأزم الحاصل في العلاقة به منذ مدة طويلة من الزمن، ولإيجاد حل لها في حركة ودية. فعندما غير رشدي مقر إقامته في سنة 2000 من لندن إلى نيويورك ووجِه بدفق من الانتقادات اللاذعة من طرف الكتاب ووسائل الإعلام البريطانية على حد السواء.

عاب هؤلاء على رشدي نمط حياته الاجتماعية المتقلبة في الولايات المتحدة، وطلعت حسابات عن النفقات العالية التي ظلت الحكومة البريطانية تخصصها لمدة سنوات لتغطية مصاريف حمايته، واستنكر عليه محاسبوه قلة اعترافه بالجميل، بينما بدا رشدي من جهته منزعجا من تلك المحاسبات وتلك الانتظارات.

يمكن أن نتصور بسهولة إذن أن عملية التكريس الفروسي هذه تمثل عودة كاتب مثلت أعماله طليعة وقدوة للأدب المزدهر في فضاء الكومنويلث إلى دائرة الفلك الذهني البريطاني.

أما لدى الطرف المقابل فإن الرؤية التي تسود هناك فهي تلك التي تنظر إلى دخول رشدي إلى دائرة الشرف للإمبراطورية البريطانية كنوع من التجسيد الأرقى للعداوة والإساءة للإسلام.

لا يهم إن كان إشعاع الإمبراطورية ذاته ملوثا بدوره-إذا ما تناولنا الأمر بصفة موضوعية- بالقدر الذي تنطوي عليه عملية التتويج من تلويث، ذلك أن سلمان رشدي يُنظر إليه كشخص قد أثبت أنه العدو اللدود للإسلام، بينما تُعتبر بريطانيا البلاد التي وقفت في "الحرب ضد الإرهاب" -وصولا إلى الواقعة الشنيعة لغزو العراق- موقف المساندة اللامشروطة للولايات المتحدة الأميركية.

يعني أن طُعما مسموما إضافيا يقدم هنا على طبق فضي لتغذية مشاعر الضغينة الإسلاموية ضد الغرب في عملية قلبٍ غدت ثابتة الوجود لمعادلة "محور الشر".

مر الآن ما يقارب العشرين عاما عن صدور رواية "آيات شيطانية". وقد صاغ سلمان رشدي روايته هذه كـ"قصة عن ازدواجية أنا ممزقة بين ذاتين": فبينما تعيش إحدى الشخصيات حالة من التمزق بين الغرب والشرق، وبين لندن وبومباي، تقع الشخصية الثانية في حالة من الضياع الروحي، وتظل "تتأرجح بين الحاجة العارمة إلى الإيمان، والوضع الجديد لعدم قدرتها على ذلك."

هذا العذاب المتولد عن اهتزاز الإيمان يتم تصويره بطريقة جدية غاية في الدقة والعمق. أما على مستوى الطبقة السطحية فقد اعتمد رشدي صياغتها في شكل مهزلة ساخرة جعلت قراءً غير متمرسين –وبخاصة أولئك المؤمنون من المسلمين الذين لم يطلعوا من الكتاب سوى على ما قُدم لهم من جرد مختزل ومشوه- ينساقون بسهولة إلى فهمها كتجديف.

لكن، لم يكن مثل هؤلاء القراء هم الذين كان رشدي يضعهم نصب عينيه وهو يكتب هذه الرواية المعقدة وذات التركيبة الثرية المتنوعة في العلاقات؛ بل إنه، بطريقة ساخرة كان يواجه بالأحرى الجمهور الغربي في "آيات شيطانية" بأسئلة تبدو كما لو أنه قد تم الحسم فيها منذ زمن طويل داخل هذا المحيط اللائكي- لكنها سرعان ما عادت لتطفو على سطح الوعي بمجرد انطلاق حملة احتجاجات المسلمين على الرواية.

هل كان ذلك تنبؤا؟

هل سيكون من باب المبالغة المشطة أن يرى المرء شيئا من ذلك التمزق الذي صوره رشدي لدى شخصيتي روايته في محمد عطا وشاهزاد تنوير منفذيْ العمليات الانتحارية؟ شابان بملابس رياضية أو بذلة مدنية عصرية ويكنان مع ذلك حدقا عميقا على "الغرب"!

وعلى أية حال فإن سلمان رشدي قد عاين في "آيات شيطانية"، وفي وقت مبكر جدا هذا التمزق الداخلي وهذه التوترات التي يحاول المرء من خلالها اليوم مقاربة هذه التركيبة النفسانية الخفية للشخصية. ولا يسع المرء إلا أن يتمنى لو أن رشدي دفع بكتابة روايته إلى مستوى أبعد في هذا الاتجاه.

"إنني أحسد رجلا بمثل هذه القدرات الأدبية"، يقول رجل السياسة الإيراني محمد جواد لاريجاني سنة 1995 عن سلمان رشدي. "وكان بودي لو أنه استعمل مثل هذه الطاقة لبناء جسور بين الثقافات عوضا عن نسفها."

لكن رشدي كان بالتأكيد يرى نفسه هو أيضا كمشيد جسور، والدليل على ذلك مجموعته القصصية "شرق، غرب" (‚East,West’ 1994) التي تمثل شهادة معبرة عن ذلك، على مستوى المحتوى والشكل الأدبي على حد السواء.

وفي الأثناء قد غدت عبارات من نوع "الحوار" و"مد الجسور" في ما يخص العلاقات بين العالم الإسلامي والغرب كثيرة التداول حد الاستنفاذ(ودون فعالية تذكر كما يبدو بوضوح)، الأمر الذي بدأ يجعل المرء يكاد يشعر بالحرج من مثل هذه المُثل.

لكن في الأثناء يواصل آخرون من مشيدي الجسور الخفيين العمل على حبك النسيج الذي يربط بين الخلايا الإسلاموية المناضلة على المستوى العالمي. ولذلك فإنه لن يكون بإمكان بريطانيا أن تنظر دون تخوفات إلى ذلك اليوم الذي سيشهد عودة الإبن المفقود، الذي غادر بمحض إرادته، لتقبّل التكريم بلقب الفروسية.

بقلم أنجلا شادر
ترجمة علي مصباح
حقوق طبع النسخة العربية قنطرة 2007

أنجلا شادر صحفية سويسرية تعمل في الصفحة الثقافية لصحيفة نوه تسورشر تسايتونغ الصادرة في زوريخ.

قنطرة

تغطية قناة الجزيرة لقضية سلمان رشدي
لا تحمل قناة الجزيرة الفضائية وموقعها الالكتروني على محمل الخبر الادبي او الثقافي موضوع منح الملكة البريطانية الكاتب البريطاني من اصل هندي سلمان رشدي رتبة "فارس" تقديرا لمجمل اعماله الادبية، بل هي تجعل منه خبرا سياسيا بالدرجة الاولى. تعليق فيديل سبيتي

التكتيك الشيطاني في تسخير الدين لأغراض سياسية
شهدت طهران وإسلام آباد مظاهرات حاشدة، إحتجاجا على قيام ملكة بريطانيا بمنح الكاتب سلمان رشدي لقب "فارس". ولكن هل تعبر هذه المظاهرات حقا عن سخط شعبي فعلي أم أنها مديرة من أجل التغطية على المشاكل الداخلية والخارجية لكل من ايران والباكستان؟ تعليق كتبه بيتر فيليب.