هل كان للعرب مسرح قبل صدر الإسلام وبعده؟
كيف كان الشعراء يذهبون إلى وادي عبقر ويعودون بمعلقاتهم على جدران مكة دون أن يحدثوا مسرحا حيّا ودراما خاصة بهم؟ وكيف لم يتأثر أصحاب قوافل الصيف والشتاء بالحضارات الرومانية والفارسية وحتى اليونانية وبمسارحها المترامية على أطراف الجزيرة العربية؟ وعندما وصلت الثقافة العربية إلى أوروبا وكان عمرها ألفيْ عام تقريبا، هل غزتها عن طريق الشعر والموسيقى وأهملت من تطوير الشذرات الدرامية التي وردت بين أسطرها؟ أم أن طه حسين وتوفيق الحكيم وعمر الدسوقي وغيرهم اكتفوا بتأثير الحملة الفرنسية على حركة الفنون بمصر والشام ووقفوا عند تجربة مارون النقاش ونفوا ما قبلها؟
هذه الأسئلة وغيرها جذبت الباحث اليهودي ذا الأصول العراقية شموئيل موريه (سامي إبراهيم معلم) منذ خمسة وعشرين عاما إلى منطقة فرضيات ومقاربات شتى حتى جزم وفي إطار بحثه أن العرب حظوا بمسرحهم الخاص وإن تقزّم في فترات ما بدارسة عُنونت بـ "المسرح الحي والأدب الدرامي في العالم العربي الوسيط"، وأن هذ المسرح خُلق نتيجة ارتباطه بتقاليد وطقوس دينية ووثنية.
لذلك استنبت الباحث في محاولة تأصيلية منه مسرحا تقليدياً ظهر مرتين في شرق البحر الأبيض المتوسط عندما وصل المسرح الهلليني في أعقاب الفتوحات اليونانية والرومانية للشرق الأدنى عام 331 قبل الميلاد، ولعب دورا فعالا في مجال الدين والسياسة وفي حياة الإغريق الوثنية والثقافية وإلى حد ما في حياة اليهود والمسيحيين. ومرة أخرى حينما أثارت المسارح الأوروبية بدءاً من القرن التاسع عشر انتباه الباحثين العرب ممن حاولوا تقليدها وتبنيها كمحاولة إصلاح.
وبين هاتين الألفيتيّن، أثبت الباحث ثمة وجود مسرح حيّ شعبي كان بمثابة استمرار للمسرح الهزلي الساخر الذي عرف قبل الإسلام وانتقل عبر المشعوذين ممن أقاموا توازيا بين أعمال السحر والمسرحيات الهزلية وأثّرت بالتالي على مسرحيات الخيال العربية، ولكن الأدب العربي أهملها على نحو ظل يُنظر به إلى المشعوذ على أنه أخ الممثل. وقبلهم حاول اليهود والرعيل الأول من المسيحيين أن يحاربوا المسرح ولكنه واصل ازدهاره من أنطاكية في القرن الرابع الميلادي وأفرز التراجيديا الكلاسيكية والكوميديا والبانتوميم والرقص، حيث "أمدتنا مواعظ ومناقشات مطران مدينة بطنان يعقوب السروجي ببعض المعتقدات الكلاسيكية المسيحية والانتقادات المحملة بالدين حول المسرح".
ثمة شواهد ظهرت ابتداء من القرن السادس الميلادي أوحت إلى وجود فنّ رفيع، تمثل بظهور الألعاب والحركات والتمثيلات والصفاعنة (تقليد يقوم به المتفرجون بصفع الممثلين على رؤوسهم خلال التمثيل) واستمرت في العالم الإسلامي طيلة العصور الوسطى. وبرزت أيضا أولى المصطلحات التي تدل على معرفة العرب القليلة بالعروض المسرحية قبل الإسلام في شعر حسان بن ثابت حينما قال (ميامس غزة ورماح غاب... خفاف لا تقوم بها الميدان) وأحال الشرّاح تفسير "الميمس" إلى الذي يُسخر منه، كما ارتبطت الدراما بنصوص صلاة وترانيم المسيحيين (الدراما الليتورجية) مثلما تحدثت عنها قصيدة جرير "نصارى يلعبون غداة عيد" (عيد الشعانين على الأرجح).
احتفالات وإحياء ذكرى لوقائع تاريخية
بموازاتها، استمرت طقوس درامية مثل طقس الإخصاب والموت والنشور والأعياد بعد الإسلام بزمن طويل على أنها احتفالات وإحياء ذكرى لوقائع تاريخية وتحولت إلى عروض مسرحية شعبية، وتغيرت فيها عناصر "الكرّج والسمّاجة" وعروض أمير النوروز، وحلّ المحاكون والمهرجون محل المسرح الكلاسيكي، ووقف الإسلام موقفا معاديا من اللهو وأصحاب الملاهي الذين يعزفون الموسيقى ويرقصون ويلهون الناس عن العبادات.
في الفصول التي تتبع فيها معلم تطور مسميات وأدوات المسرح أشار إلى "المخنثين الذين لم يكونوا سوى لعّابين، يلعبون بالكرّج (لفظة فارسية وتعني مجسم على هيئة المهر)، واستخدمها الشابشتي (388 هـ) في نوادره "الديارات" في دلالة على أن التخنث ليس إلّا فعل انخراط بالفنّ، أما الكرج فقد شوهد في أحد معسكرات النبي، ولم يعترض عليه على أساس أنه لا يؤدي طقسا دينيا أو سمريا. وربما الأمر يعود إلى محاكاة بعض العادات التي وجدت بمكة قبل الإسلام، فالكُرّج كان لعبة أهل مكة في كل يوم عيد بحسبما أورد الفاكهي في كتابه "أخبار مكة"".
الفرزدق وجرير
وبدورهما ألقى الفرزدق وجرير ضوء على الكرج أثناء العصر الأموي لا سيما هيئته وراكبه، ولكن مغزى المسرحيات لم يذكر. وأكد ابن خلدون على أنه أداة للرقص واللعب ويتضمن التمثيل، واصفا له "هيكل خشبي مزخرف (مسرجة) على شكل حصان وعليه ملابس كملابس النساء ويظهر الراقصون أو الممثلون وهم يمتطون صهوته"، حتى أصبح ضربا للتمثيل المبني على تقليد المعارك والتنافس على استخدام السلاح، بحكايات من "الخيال" خالية من الحوار التي انتشرت بشوارع القاهرة بالعهد الفاطمي، كما شوهد بالأندلس. واستنتج الباحث أن هذا الكرج ما هو إلا طقس تعود جذوره للشامانية الفارسية التي شاعت بالجزيرة العربية آنذاك.
واستمرارا للمحاكاة الفارسية ظهر "السمّاجة" أي مرتدي الأقنعة خلال العروض الإيمائية في أعياد النيروز، واقترنوا بتمثيل الحيوانات، وحلت فيما بعد العرائس والدمى في العصر العباسي مثل لعبة "دوباركة" في عهد المعتضد ويوم ميلاد السلطان سليم الثالث في دمشق وفي العراق حتى مطلع القرن العشرين، أما تمثيلية خيال الظل "العاشق والمعشوق" قد نقلت لنا مصطلح المهرجين بدل السماجة خاصة بعد ترجمتها للألمانية.
لا تخفى مساحة الشد والجذب التي عانى منها المسرح العربي آنذاك، وتركت أركيولوجيته للمستشرقين في ظل غياب التوثيق وقلة الاهتمام على أساس إنشائه بهدف تسلية الخلفاء وإضحكاهم، وربما أن المؤرخين العرب لم يهتموا بسرد تفاصيل عروض المضحكين أمثال حسين بن شعرة "مضحك المتوكل" وابن المغازلي الذين "حاكوا السلوكيات والخصائص الكلامية واعتادوا الصراحة" لأنها كانت مألوفة لمعاصريهم، ونادرا ما كانوا يعنون بتسجيل الوقائع غير المألوفة كما استنتج باحث الدراسة، أو ربما لم تحتج الحضارة العربية للخطاب المسرحي للتواصل والإبداع.
الأدب الساخر في التراث العربي
رغم ذلك فقد عرف التراث العربي المساخر أو الأضحوكات وسردها لأشعار هزلية، وطرق لتمثيل الحياة اليومية شاعت بمسمى خاص، ليتطور الأمر وتتشابك فيه الدراما والمسرحيات بفن الرسائل والمقامات والقصائد في المضمون والأسلوب وتسلسل الأحداث والحوار وخلق البطل وموقف الرواي كما نشهد في مسرحية "الصونيّ" وتشابهها مع رسالة الجاحظ "رسالة في بني أمية"، وحكاية "أبي القاسم البغدادي" التي ألفها الأزدي عام 400هـ التي افتعلت نصا حواريا بين الممثل والجمهور لأول مرة في التاريخ العربي. ويدخل في القائمة أيضا المقامات الشعبية غير الملتزمة كالمقامات "الهبالية" التي دارت على ألسنة أصحاب الحرف، مقامات أعارت نفسها للتمثيل المسرحي.
وصولا إلى القرن الـ18 وصفت العروض المسرحية بمسرحيات "المُحبَظين الهزلية" كما يرد في كتاب الباحث، واستمر تمثيلهم حتى وصول الكوميديات الجديدة المقلدة للمسرح الأوروبي كما في تجربة يعقوب صنوع المصري ومارون النقاش اللبناني. صنوع الذي حاول أن يحافظ على شعبية المسرح المصري بمحبظيه ولهجته العامية مستخدما التكتيك الأوروبي إلّا أنه واجه "الفرنجة" على يد الخديوي إسماعيل الذي رغب للمصريين أوروبا بالمظاهر وليس بأدوات النقل عن طريق ربط المسرح بفن الأوبرا محدثا تمايزا طبقيا أدى بالنهاية إلى ذبول المسرح الشعبي وتلاشيه.
تمكن أستاذ اللغة العربية وآدابها في الجامعة العبرية أن يدرس المسرح العربي لغويا واصطلاحيا أولا، ثم البحث عن العناصر الدرامية التي جمعت فنون الأدب العربي، ليضيف نوعا من التأصيل على هذا النوع من الفنّ خصوصا أمام من يعتقد أن المسرح العربي الحديث جاء مع الحملة الفرنسية على مصر، أو لكل من يعتقد أن المسرح هو شكل المدرج الروماني، غافلا عن تشكل مسرح متنقل في الشارع والميادين.
وصال الشيخ
حقوق النشر: موقع قنطرة 2019