الانحدار سيد الموقف...العالم العربي يبحث عن نموذج
قبل عقد أو عقدين كان جزء من النظام العربي أكثر رحمة مع معارضيه ونقاده، بينما اليوم أصبح الواقع العربي ضيق الأفق والصدر بكل ما يحيط به.
في بعض الدول العربية يصبح كل نشاط للمجتمع المدني خطراً على أصحابه، وفي حالات كثيرة فإن أدنى تعبير سياسي أو نقد تجاه الحكومة وأفرادها يواجه بإعصار من الغضب الرسمي والتهديد.
في دول بلا سياسة وبلا فضاء سياسي وفي ظل أنظمة قمعية فقدت الثقة بنفسها تتدفق شلالات الخوف لتشمل كل الناس، ففي مجتمعات يسودها الظلم ستقع الاحتجاجات المفاجأة وستفشل الدول في ممارسة وظائفها.
فمنذ ثورات وحراكات الربيع العربي2011 يفتقد النظام العربي للإنجاز كما وللحكمة كما ويفتقد لقصص النجاح والرحمة.
إن القطار العربي الراهن الذي تتشكل منه الدول العربية سائر نحو هاوية في واد بلا قاع. في كل يوم تمتحن مقدرة الشعوب العربية على الصبر على حالة القمع والإهانة. الشعوب تعيش في كل يوم مع سياسات تنتج الفشل وراء الفشل.
لكن صبر الشعوب وعدم تحركها للدفاع عن مصالحها لن ينتج الاستقرار او انتصار الاستبداد، بل سيخضع مزيد من الدول العربية للانهيار والفشل الذاتي (دول فاشلة) وهذا بدوره سيفتح الباب للاحتلال الاجنبي.
لكن في المقابل يقال دائما أليست الصين ودول كثيرة تشبهها في آسيا خالية من الحريات ومن المجتمع المدني؟ فلماذا تنتقد دولنا بينما يتم غض النظر عن دول ديكتاتورية أخرى في آسيا وغيرها؟
وبينما الصين و الدول ذات المنحى السلطوي تتعرض للنقد كل يوم ولديها معارضون في الداخل والخارج، إلا أن ما يشفع للصين حتى الآن مرتبط بمقدرتها الفذة على الإنجاز ومواجهة الفساد.
في الصين ارتبط النجاح بوجود نخبة صينية ملتزمة بتنمية البلاد وتقدمها. بل يمكن القول بأن الصين ودول عديدة ناجحة في المضمار الاقتصادي والتنموي أكثر تركيزا على نمو الطبقة الوسطى، بل أكثر ذكاء وتوازنا في الفعل وردود الفعل من الكثير من الانظمة العربية.
"في المقابل يبدو أن مقياس الديكتاتوريات العربية ليس النجاح والإنجاز، بل البقاء في الحكم وبناء المجد الشخصي".
فالأولوية للديكتاتورية العربية هي للمصالح الضيقة والامتيازات الشخصية والمنافع المالية المباشرة التي تتحول لنفوذ سياسي لكسب الأنصار. إن بعض النخب العربية الديكتاتورية مستعدة للتحالف مع أكثر القوى فسادا في مجتمعها وذلك لحماية البقاء في السلطة وتعظيم السلطة الشخصية للحاكم الفرد وسيطرته.
لهذا لا نستطيع ان نعتبر بأن المأزق العربي يقتصر على كونه مأزق ديكتاتورية وحريات كما هو حال الصين، بل إنه نتاج واضح لمأزق أعمق منه نجده في وسائل القيادة من حيث سرعة الانفعال وضيق الصدر وقلة الحكمة ودرجة الإنغماس في الذاتية المطلقة.
ومن أهم تعبيرات هذا النمط من القادة الفشل في بناء مؤسسات فاعلة والفشل في التعليم والفشل الاهم في التعامل الصائب مع المواطن بما يحمي كرامته وحقوقه على كل صعيد.
ولو اخدنا تركيا على سبيل المثال سنجد عبرها ومن خلالها نموذجا أفضل لطموح التنمية ونموذج لحكم المدنيين على حساب العسكريين، ونموذج لعدد من قيم الديمقراطية والانتخابات وبناء المؤسسات التي تخدم المواطنيين.
وبالرغم من اهتزاز القيم الديمقراطية وصعود المركزية ونزعات السلطوية التي تميز تجربة اردوغان، تبقى التجربة التركية متقدمة بمراحل عن التجارب العربية، لهذا فتركيا مصدر الهام للشعوب العربية من حيث امكانية التزاوج بين قيم الحرية والديمقراطية وقيم التنمية والإسلام.
ورغم كل ما تعاني منه تركيا من تراجع لليرة التركية ومن ضغوط أمريكية لكسر عنفوانها إلا أنها خطت خطوات جبارة في السنوات العشر الماضية. سيكون من الصعب ايقاف صعود تركيا في ظل مجتمع تركي يتمتع بالديناميكية والحركة.
"السعي لتصفية كل تيار مختلف ومعارض لمجرد إنه ينتمي لرؤية نقدية تجاه النظام هي جزء لا يتجزأ من استمرار انحدار الوضع العربي الراهن"
إن الحد الأدنى للخروج من محنة العرب الراهنة تتطلب مساومات بين القوى السياسية التي يتشكل منها النظام العربي وخاصة تلك القوى السياسية التي تم إستثناؤها من قبل نظام الحكم. كما أن السعي لتصفية كل تيار مختلف ومعارض لمجرد إنه ينتمي لرؤية نقدية تجاه النظام هي جزء لا يتجزأ من استمرار انحدار الوضع العربي الراهن.
لنأخذ على سبيل المثال التيار الإسلامي خاصة الاخوان المسلمين في مصر. فبالرغم من كل ما وقع حتى الآن ورغم ضربات واسعة تلقاها التنظيم من الجيش ورغم أخطاء التيار المختلفة في كل المراحل، إلا أن التيار لم يفقد قدرته على التأثير على نسبة تصل لثلث المواطنين.
إن حدة الغضب بين أنصار التيار عالية وهي تنتظر لحظة تاريخية تعود عبرها للحياة السياسية. لذلك فإن حل الازمة السياسية في مصر مثلا لا يمكن ان يقع بلا إنفتاح سياسي وتحضير لانتخابات حرة تنافسية ومرحلة انتقالية تشارك فيها كل القوى والشخصيات الوطنية. من دون هذا التوجه سيكون الانحدار هو سيد الموقف، وستأتي لحظة الحقيقة في المدى المنظور.
الحالة العربية تبحث عن نموذج تسير على هديه، وتبحث عن ما يساعدها على إنهاء حالة الظلم المنتشرة في كل أبعاد ومربعات الفضاء العربي، لهذا لازال العرب في بحث عن بناء دول أكثر مناعة، دول تمتلك مصير نفسها ومصير قراراتها كما هو حال تركيا.
الحالة العربية تبحث عن نموذج ونماذج تزاوج بين الدولة والمدنية وبين الانفتاح وبين الديمقراطية والإسلام وبين العلمنة واحترام التنوع والحقوق.
شفيق ناظم الغبرا
حقوق النشر: موقع قنطرة 2018
شفيق ناظم شفيق الغبرا هو أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت ومحلل سياسي عربي معروف.