المدن والأديان- انحسار للعلمانية وزحف للدين على المدينة؟

يعكف علماء وفنانون سوياً على هامش مؤتمر يعقد في دار ثقافات العالم بمدينة برلين على تحليل ظاهرة توسع المدن والأديان حول العالم. آية باخ حضرت المؤتمر وتنقل لنا أهم محاور هذا المؤتمر.



عندما أراد نزار السيد، الأستاذ في جامعة بيركلي بولاية كاليفورنيا الأمريكية، زيارة صديق له في مسقط رأسه بمدينة القاهرة، لم يكد يصدق عينيه، إذ وجد مئات المصلين يسدون الطريق أمامه. وعندما حاول سلوك طريق آخر، رأى نفس المشهد. وكان الحل الوحيد بالنسبة له، وهو المسلم غير الملتزم، أن ينزع حذاءه وينضم لجموع المصلين حتى انتهت الصلاة. هذا الموقف منح المهندس المعماري وأستاذ التخطيط العمراني وتاريخ المدن سبباً إضافياً للانكباب بشكل علمي على موضوع شغله لفترة طويلة، ألا وهو تنامي وجود المجموعات الدينية في المناطق الحضرية. خلاصة هذا البحث نشرت في أحدث كتبه، الذي يحمل عنوان "المدينة المتشددة؟"

تراجع الحياة العلمانية؟

الصورة دويتشه فيله القاهرة
الدين في الحضر: في المدن الضخمة مثل العاصمة المصرية القاهرة يتجمع الملايين يومياً في الأماكن العامة وفي الشوارع لأداء الصلاة جماعة.

​​نزار السيد حلّ ضيفاً على مؤتمر تنظمه دار ثقافات العالم بمدينة برلين تحت شعار "الصلوات العالمية"، ويشكل جزءً من مشروع بحث دولي يحمل نفس الاسم. ويرى السيد في الزيادة المطردة للنشاطات الدينية في المدن تطوراً مقلقاً، معتبراً أن "المجتمعات العلمانية حول العالم لن تسعى إلى مجابهة هذه النزعة الدينية المتزايدة وحسب، بل سيتوجب عليها أيضاً أن تكافح من أجل الحفاظ على أجزاء من الحياة الحضرية كحياة علمانية".

بعض الأمثلة التي درسها فريق البحث تثبت صحة ما يقوله السيد، ففي العاصمة الإندونيسية جاكرتا بدأ المسلمون الشباب باكتشاف أسلوب الأنشطة المفاجئة، إذ تقام عروض علنية متعددة الوسائط بلمح البصر، وتغلق جادات بأكملها باسم الله. لكن المسلمين ليسوا وحدهم من يتجمعون بالمئات والآلاف لإعلان تقواهم، ففي منطقة شاطئ جوهو بمدينة مومباي جلب الهندوس المهاجرون من شمال البلاد معهم احتفال "تشهاث بوجا"، الذي يستقطب سنوياً نحو مليوني شخص.

لكن هذا الاحتفال الموغل في القدم لتكريم إله الشمس عند الهندوس يصطدم بمعارضة بقية سكان المنطقة من الهندوس، الذي يقدر عددهم بين 10 و16 مليون شخص. وعلاوة على ذلك، فقد بدأ هذا الاحتفال يتخذ طابعاً سياسياً واقتصادياً، إذ يعتبر المهاجرون من الطبقات المهمشة في المدينة الضخمة، إلا أنهم تمكنوا من خلال الدين من خلق منبر حضري يلفتون عبره الانتباه إلى أوضاعهم، بحسب جورج خوزيه، أستاذ علم الاجتماع في مومباي. لكن الأغلبية لا تزال تنظر إليهم على أنهم "قذرون ويوسخون المدينة".

المجتمع الديني مركزاً للعمل

التقوى والورع لا يأتيان من فراغ في معظم الحالات، فالهجرة والنمو المطرد للمدن عادة ما يؤديان إلى توسع سريع للقوى الدينية، فلا يمكن لأي بنية تحتية حضرية التعامل مع تضاعف سكان مدينة ما أربع مرات في وقت قصير نسبياً، ما يتسبب في قصور في الخدمات، تقوم الحركات الدينية بتعويض جزء منه.

من جانبه يرى فيرنر شيفاور، الخبير في أنثروبولوجيا الثقافات والمشرف الأكاديمي على مشروع "الصلوات العالمية" من جامعة فيادرينا بمدينة فرانكفورت على الأودر، اختلافاً هاماً بين هذه الحركات والحركات اليسارية المتأثرة بصراع الطبقات. هذا الاختلاف يتمثل في أن "الحركات الدينية تعمل في مناطق تقطنها طبقات مختلفة، وهذا يشكل عامل جذب إضافي للمهاجرين إلى المدن، فهذه الحركات تسمح لهم بربط الإحساس بالانتماء إلى المجتمع مع التقدم الفردي. عندما يصلي شخص بجانب شخص آخر أيسر منه حالاً، فإن ذلك يؤدي إلى ترابط ضمن دوائر معينة، ويفتح أبواباً لفرص عمل أو للحصول على سكن".

الصورة شتيفان لانز
في انتظار المسيح: تنشط الكنائس في أفريقيا وأمريكا اللاتينية بشكل خاص وتتولى مهام أساسية مثل التعليم أو الرعاية الصحية، التي تواجه الدولة فيها قصوراً كبيراً.

​​هذا التشخيص ينطبق أيضاً على مدينة عملاقة تنمو باستمرار كالعاصمة النيجيرية لاغوس، التي تجذب فيها القداديس المسيحية أعداداً ضخمة تقدر بمئات الآلاف، وأحياناً تصل إلى مليون مصلّ. وحول أجواء هذه الشعائر يقول يوهانس إسماعيل-فيندت، الذي يعمل باحثاً في دار ثقافات العالم ببرلين ويشارك في مشروع "الصلوات العالمية"، إنها تجربة مدهشة، مضيفاً أن "هذه الكنائس تستولي على مساحات في المدن من خلال الصوت المرتفع ... عندما ترتفع حناجر مليون شخص شكراً للرب، فإن ذلك يولد شعوراً بالقشعريرة، سواء أراد المرء ذلك أم لم يرده. هذا أمر مدهش".

كل شيء في كلام الرب

وما يزيد من شعبية هذه الكنائس في نيجيريا شهرة مغني الراب الإنجيلي "بروتيك"، الذي حضر من لاغوس إلى برلين للمشاركة في المؤتمر. ورغم ارتدائه لنظارة شمسية عصرية، إلا أنه مسيحي متحمس يسهم من خلال موسيقاه في دفع الناس إلى القداس. يدين بروتيك بالكثير للكنيسة، ولذلك فهو يحاول أن يقدم أيضاً جزءً للآخرين، إذ يقول: "نحن نرعى الأطفال الأيتام ونحضرهم إلى الكنيسة، ونقدم لهم التربية والتعليم". أما شريكته في غناء الراب، التي تحمل الاسم الفني "العميلة الخاصة سنايبا"، فتضيف بأن "القس في كنيستي يقول دائماً: كل ما تحتاجه في الحياة موجود في كلام الرب. لهذا نعلم الأطفال في البداية كلام الرب، ثم نعتني بنظافتهم ونرسلهم إلى المدرسة. نحن نعطيهم ما يأكلونه وسقفاً فوق رؤوسهم".

تعود جذور هذه الكنائس، التي تزداد نفوذاً في نيجيريا، إلى مطلع القرن العشرين في الولايات المتحدة الأمريكية. كما تشهد انتشاراً واسعاً في أفريقيا وأمريكا اللاتينية، وتشرف على مرافق شبيهة بالمرافق الحكومية، كالمدارس والمستشفيات والجامعات والمبان السكنية، وحتى شبكات الكهرباء الخاصة بها وخدمات جمع النفايات – خدمات يفشل كثير من الدول النامية في تزويدها. وفي معظم الوقت تتبنى هذه الكنائس موقفاً متعصباً فيما يخص التوجه الجنسي، فهي ضد المثلية الجنسية والعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج واستخدام الواقي الذكري، بالإضافة إلى مواقف متشددة أخرى تصل إلى رفض نظرية التطور.

الاندماج والرأي العام

الصورة اريو دنسوري
زحف الدين على المساحات الحضرية: أثناء مؤتمر "الصلوات العالمية" عرض علماء وفنانون من أنحاء العالم ظواهر دينية بالإضافة إلى خلفيات واستراتيجيات ونواتج عقلية لشخصيات دينية من مدن ضحمة حول العالم.

​​إلا أن هذا التعصب لا يقتصر على دول أفريقيا أو أمريكا اللاتينية، إذ يلفت البروفسور نزار السيد من جامعة بيركلي إلى النجاح الذي حققه ريك سانتورم، المرشح "المسيحي" للحزب الجمهوري الأمريكي في انتخابات الرئاسة الحالية، معتبراً أن للتعصب في كل الأديان قواسم مشتركة، مثل الموقف الجنسي المتصلب وقواعد الملابس المتزمتة، إضافة إلى تقييد حقوق المرأة. وفي هذا الشأن يرى نزار السيد تشابهاً بين اليهود المتدينين والمسلمين المتزمتين لا يرغب هؤلاء في الاعتراف به، مشيراً إلى ما حدث قبل فترة في بلدة بيت شيميش الإسرائيلية، حيث بصق يهود متشددون على فتاة ورجموا امرأة أخرى بالحجارة لأن ملابسهما لم تكن متفقة مع قواعد اللباس لهؤلاء المتشددين.

هل يعني هذا كله أن العالم ماض على طريق التحول إلى "مدينة متشددة"؟ هل يتهدد الخطر الحياة العلمانية الحضرية، التي تحولت إلى أمر مسلم به في أنحاء عديدة من أوروبا؟ الخبير في أنثروبولجيا الثقافات شيفاور يلاحظ أيضاً ازدياداً لنفوذ الدين، إلا أنه أقل ما يكون في ألمانيا، ويضيف أن "ذلك يشكل استثناء على المستوى العالمي، حتى بالمقارنة مع الولايات المتحدة. ألاحظ أن بعض الأصوات الدينية ازدادت قوة، إلا أن ذلك يصاحبه تطور في ديناميكية هذه المجموعات الدينية". أحد عناصر هذا التطور، بالنسبة لشيفاور، هو بروز المسلمين بشكل أكبر في الرأي العام الألماني. لكنه لا ينظر إلى ذلك كسبب للخوف، إذ يوضح قائلاً: "أنظر لذلك بكل هدوء، فهذا يعني خروجهم من حالة الانغلاق. أنا أرى في ذلك عملية اندماج في المجتمع".

 

آية باخ
ترجمة: ياسر أبو معيلق
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2012