زعزعة لوبي اقتصادي قوي ومتنفذ في المغرب
أحدث "النضال الافتراضي" الذي خاضه شريحة واسعة من المجتمع المغربي؛ طيلة لما يزيد عن شهر، بعد قرارهم مقاطعة منتجات ثلاث شركات (المحروقات، الحليب، المياه المعدنية)، هزة في المشهد السياسي المغربي. خاصة بعدما تمكّن من زعزعة لوبي اقتصادي قوي ومتنفذ في البلاد؛ مسنود بأذرع سياسية وإعلامية كبيرة. لقد كشفت هذه المقاطعة، التي انطلقت بشكل عفوي وتلقائي، عن تشكل وعي جمعي في أوساط المجتمع، بوجود اختلالات اقتصادية بنيوية، وشعور بأن اللعبة في الاقتصاد المغربي مغشوشة، وبأن النموذج التنموي المعمول به طيلة العهد الجديد؛ منذ 1999 إلى اليوم، أضحى عاجزا عن مواكبة التطورات المتلاحقة. معالم ثقافة سياسية جديدة قيد التشكل تبدو حملة المقاطعة ظاهريا مجرد حركة عفوية مستقلة، انخرطت فيها الفئات العريضة والمهمشة من المغاربة ممن وجدو أنفسهم معنيين بمطالبيها، بغرض الضغط على الجهات المعنية قصد مراجعة أسعار المواد الاستهلاكية، ولفت انتباه الحكومة إلى ضعف القدرة الشرائية للمواطنين. لكن إمعان النظر في مجريات الحملة منذ انطلاقها، يكشف عن معالم ثقافة سياسية جديدة قيد التشكل، في أوساط المجتمع المغربي.
استطاع المغاربة أن يبعثوا في هذه الحملة، إلى من يهمهم الأمر في الدوائر العليا لصناعة القرار السياسي في البلاد بالعديد من الرسائل؛ منها المباشرة وأغلبها مشفرة، بشكل سلمي وحضاري. ما على المخاطب بمضامينها سوى التفاعل معها، بقرارات تستجيب لما تفرضه تحديات المرحلة الراهنة. الرسالة الأولى: الفصل بين التجارة والسياسية تعود أصول هذا المبدأ إلى مؤسس علم العمران عبد الرحمان ابن خلدون؛ الذي صاغه في عبارة بليغة "تجارة السلطان مضرة بالرعية". وهو ما طالب به المغاربة من خلال هذه المقاطعة الاقتصادية التي طالبت بفسخ زواج المال بالسياسة، لأنه زواج غير شرعي، ودون عقد اجتماعي واضح المعالم والحدود. يرى المقاطعون أن أصل المشكل يكمن في الخلط بين السلطة والثروة، عبر استغلال نخب الحظوة لقربها من مصادر القرار السياسي في البلاد للاستفادة الشخصية، وتنمية ثرواتهم من دون الأخذ بعين الاعتبار المسؤولية الاجتماعية لنشاطهم التجاري، ولا مصلحة الوطن ولا المواطنين. تتضح هذه الرسالة بجلاء عند النظر إلى نوعية المنتجات الثلاثة التي استهدفتها الحملة، ودلالات أصحابها في الساحة السياسية بالمغرب. فشركة المحروقات مملوكة لوزير لم يغادر الحكومة منذ 2007، وزعيم حزب سياسي يمثل النخبة الاقتصادية، وشركة المياه المعدنية تملكها رئيسة الاتحاد العام للمقاولات بالمغرب، وشركة الحليب ترمز إلى الاستعمار الفرنسي. تلتقي هذه الشركات الثلاث التي شملتها حملة المقاطعة في قربها من دوائر القرار السياسي من ناحية، وممارستها بصيغة من الصيغ للاحتكار في مجال اشتغالها بالسوق المغربية. بهذا يفرض المواطنون العودة القسرية إلى نقاش طالما تجنبت الأحزاب السياسية الخوض فيه، وتعايش مع اليساريين كما الإسلاميين خوفا من ردود فعل السلطة. الرسالة الثانية: فشل المؤسسات في الوساطة وجد المواطن المغربي نفسه مجبرا على الانخراط في احتجاج افتراضي مفتوح عفوي، بعد فقدانه الثقة في الدولة ومؤسساتها، وفشل الوسائط التقليدية المعروفة في توفير الحماية له. فلا الحزب السياسي ولا الإطار النقابي ولا هيئات المجتمع المدني، استطاعوا أن يعبروا عن صوته وتطلعاته ومواقفه. ولم تعد هذه المؤسسات تنقل مطالبه ومعاناته، ولا تدافع عن حقوقه الاقتصادية والاجتماعية. اهتدى المغاربة إلى أسلوب المقاطعة لإيصال صوتهم إلى صناع القرار في البلاد، بعدما خبروا جيدا تعامل السلطة مع خيار الاحتجاج السلمي في الشارع الذي كان نهج أبناء الريف؛ ممن ما تزال أطوار محاكمتهم مستمرة. وبعدما عجزت المؤسسات الدستورية الموكول لها هذه المهمة القيام بذلك.
عجز يبقى نتيجة حتمية وطبيعية لسنوات من العمل على إفقاد هذه المؤسسات مصداقيتها، بسبب خوف السلطة من أي منافسة أو صراع معها. معتمدا لذلك أسلوب التهديد والوعيد تارة، والتقريب وشراء الذمم تارة أخرى، ما أدى في المحصلة إلى تعريض الحقل المؤسساتي في البلاد لعملية تجريف ممنهجة أفقدت المواطن الثقة في كل المؤسسات التي يراها معزولة عنه. الرسالة الثالثة: رفض عرض السلطة الجديد تعمل الدولة العميقة منذ الإعلان عن نتائج تشريعيات أكتوبر 2016 على تحضير عرض سياسي جديد، لما بعد نهاية أفول نجم الإسلاميين، ممن يعيش حزبهم أسوأ أيامه منذ إعفاء رئيس الحكومة الأسبق عبد الإله بنكيران في مارس من العام الماضي 2017. أساس هذا العرض، إسناد مهمة تدبير الشأن السياسي في البلاد مستقبلا إلى نخبة اقتصادية؛ يقودها زعيم "حزب التجمع الوطني للأحرار" وزير الفلاحة والصيد البحري والمياه والغابات الحالي، وصاحب شركة إفريقيا للمحروقات إحدى المنتوجات المشمولة بالمقاطعة، دون روح سياسية ولا أفق ديمقراطي. قدم المقاطعون -إن لم يكونوا قاطبةً فعلى الأقل جزء منهم- إجابة غير مباشرة على هذا العرض، بإعلان الرفض المبكر لهذا العرض السياسي الجديد الذي تعمل السلطة على تهيئة بهدوء، محملين من وقع الاختيار عليه النصيب الأكبر من معاناتهم اليومية مع الأسعار والاحتكار، وقساوة ظروف العيش. الرسالة الرابعة: الحاجة إلى نموذج تنموي اقتصادي اجتماعي إن المقاطعة بمثابة إنذار جديد، يذكِّر مهندسي القرار السياسي في البلاد بما سبق وأجمعت عليه التقارير الوطنية والدولية، التي دقت ناقوس الخطر بشأن تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في المغرب.
يجدد بذلك المقاطعون دعوتهم إلى ضرورة فتح حوار مجتمعي حول البدائل الواقعية للنموذج التنموي الفاشل؛ كما جاء على لسان أعلى سلطة في البلاد، الذي قاد البلاد إلى هذا الوضع الاقتصادي والاجتماعي المأزوم. ويطالبون بإبعاد النموذج التنموي الموعود عن أجندة هذه النخبة الاقتصادية التي قدمته في مشروع الموسوم بعنوان "مسار الثقة". لقد أظهرت حملة المقاطعة أن خيال المواطن العادي أكبر مما يمكن للسلطة أن تتخيل، فقدرته على ابتكار أشكال للدفاع عن نفسه لا متناهية. فبعد خيار المطالب الاجتماعية بشكل سلمي، جاء دور المقاطعة الاقتصادية لعلها توصل صوته إلى مركز القرار السياسي. إننا أمام لحظة تؤسس لميلاد وعي شعبي جديد لدى المغاربة، ينذر أنصار السلطوية بأن الحلم باستعادة زمام الأمور، وإعادة عقارب الساعة إلى ما قبل 20 فبراير 2011 لن يكون سهلا، مع جيل تذوق نسيم الحرية، وهتف من أجل الكرامة، وتطلع إلى الديمقراطية مع ثورات الربيع العربي. محمد طيفوريحقوق النشر: موقع قنطرة 2018ar.Qantara.de محمد طيفوري كاتب وناشط حقوقي مغربي وباحث في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية، عمل سابقاً لدى المركز العلمي العربي للدراسات والأبحاث.