حلم اللاجئين السودانيين بالعودة إلى دارفور
حين سمع أحمد يوسف أحمد أن عمر البشير قد أطيح به كان مبتهجاً في البداية. يقول أحمد (الذي فرّ من مسقط رأسه دارفور في عام 2003): "اعتقدت أنها كانت أفضل أخبار سمعتها في حياتي".
فقد كانت السودان في حالة اضطراب سياسي منذ الاحتجاجات التي اندلعت بسبب الأزمة الاقتصادية في كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي 2018 وانتشرت في جميع أنحاء البلاد مطالبة بإنهاء الحكم السلطوي للبشيرالذي دام طوال ثلاثة عقود. وفي 11 نيسان/أبريل 2019، أطاح الجيش بالبشير وأنشأ مجلساً عسكرياً انتقالياً.
كان أحمد بعمر الـ 16 عاماً حين حرقت القوات شبه العسكرية "الجنجويد" -التي وظّفتها حكومة البشير لقمع تمرّدٍ محليِّ- قريته في منطقة كرنوي، وقتلت أباه وسرقت ماشية عائلته. فعاش في مخيم للاجئين في تشاد لمدة 10 أعوام، ثم طلب اللجوء في الأردن، حيث يكافح -مثل معظم اللاجئين غير المسموح لهم بالعمل- من أجل سدِّ رمقه.
ووفقاً لتقديرات الأمم المتحدة، فقد نتج عن حملة البشير لمكافحة التمرد في دارفور مقتل ما لا يقل عن 300 ألف شخص ونزوح ما يزيد عن 2.7 مليون شخص منذ عام 2003. وقد وجّهت المحكمة الجنائية الدولية، بين عامي 2009 وَ 2010، إلى البشير ومسؤولين كبار آخرين تهمة الإبادة الجماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، لدورهم المزعوم في الأعمال الوحشية.
رد فعل هادئ على الإطاحة بالبشير
على الرغم من أن سقوط البشير قُوبِل بالابتهاج، إلا أن أحمد كان حذراً. فهو يعرف أن الجنرالات الذين أزاحوه مرتبطون ارتباطاً وثيقاً بالنظام القديم. كما رأسَ المجلسَ العسكري -الذي سيطر على الحكم- الفريقُ أول عبد الفتاح البرهان، وقد كان ضابط الاستخبارات العسكرية الذي ينسّق العمليات العسكرية في دارفور بين عامي 2003 وَ 2005. وأبرز أعضاء المجلس الجنرال محمد حمدان دقلو، المعروف على نطاق واسع باسم "حميدتي"، قائد قوات الدعم السريع الشبه العسكرية.
أسّست حكومةُ البشير قواتِ حميدتي رسمياً في عام 2013، بَيْدَ أنها انبثقت من ميليشيات "الجنجويد" المخيفة التي حُشِدت لمحاربة عمليات التمرد في دارفور وغيرها من المناطق المهمّشة في جميع أنحاء السودان أوائل القرن الحادي والعشرين. تلقّى مرتزقة قوات الدعم السريع التأييد من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة للقتال في اليمن بوصفها جزءاً من التحالف الذي تقوده السعودية، كما نُشِروا لقمع المظاهرات في جميع أنحاء السودان لحماية حكومة البشير.
بعد إنشاء المجلس العسكري الانتقالي، استمرت الاحتجاجات بالمطالبة بالانتقال إلى حكم مدني، مما أجبر الجيش على الدخول في مفاوضات مع الائتلاف الأساسي المؤيد للديمقراطية. عُلِّقت جولات المحادثات عدة مرات وتوتّرت بسبب حملة قمع عنيفة -في 3 حزيران/يونيو 2019- أسفرت، وفقاً للجنة الأطباء المركزية التابعة للمعارضة، عن مقتل 128 شخصاً. بيد أنه في 17 تموز/يوليو 2019، أعلن المجلس العسكري والقادة المؤيدون للديمقراطية أنهم وصلوا لاتفاق تقاسم سلطة وسط ضغط متزايد من الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الإفريقي والحلفاء العرب.
وبعد شهر من ذلك، وقّع المجلسُ العسكري الحاكم في السودان والقادةُ المؤيدون للديمقراطية الاتفاقَ النهائي لتقاسم السلطة. وافق الطرفان على وثيقة إعلان دستوري بإنشاء مجلس انتقالي مدني-عسكري مشترك يتولى السلطة في أيلول/سبتمبر 2019 ليحكم السودان خلال السنوات الثلاث القادمة حتى إجراء الانتخابات.
لا تثقوا بالجنرالات
أثار الاتفاقُ احتفالاتٍ في شوارع العاصمة السودانية الخرطوم، التي امتلأت بالموسيقى، وأصوات أبواق السيارات ورفرفة الأعلام السودانية. لكن بالنسبة لِلَاجِئِي دارفور، الذين فرّوا من العنف والاضطهاد، كانت ردودُ الأفعال أكثر حذراً واتّسمت بضبط النفس. فالاتفاق قد وُقِّع من قبل الجنرالات الذين كانوا متورطين في حملة مكافحة التمرد الوحشية في دارفور.
يقول أحمد: "يدا حميدتي ملوثتان بالدم"، إذ يعتقد أحمد أنه ينبغي توجيه الاتهام للجنرال بارتكاب جرائم مزعومة في دارفور إضافة إلى العنف المستخدم لمواجهة المحتجين. بالنسبة للاجئين، أثبتت حملةُ القمعِ الوحشيّة، في 3 حزيران/يونيو 2019، أن هؤلاء الجنرالات لا يمكن الوثوق بهم لدعم أيّ نوع من الاتفاقات.
وعلى الرغم من عدم توجيه اتهامات إلى حميدتي حتى الآن، فقد استنكرت جماعات حقوق الإنسان الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان التي ارتكبتها قواته. إِذْ وصف تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش -منشور في عام 2015- قواتِ الدعم السريع بأنهم "رجال من دون رحمة"، واتهم القوات التي يقودها حميدتي باغتصاب وقتل المدنيين في دارفور، وضربهم، وحرق البيوت ونهبها ومهاجمة القرى بشكل متكرر.
وفي حزيران/يونيو 2019، قالت منظمة العفو الدولية (أمينستي) أن هناك "أدلة جديدة تبعث على القلق" تُظهِرُ أن قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها واصلت ارتكاب جرائم حرب وغيرها من انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة في دارفور، والتي شملت في العام الماضي 2018 "تدمير ما لا يقل عن 45 قرية، وأعمال القتل غير المشروع، والعنف الجنسي". تشير أعمالُ العنف المستمرة، التي وثّقتها منظماتٌ حقوقية، إلى أنه لا يزال من غير الآمن للاجئين العودة إلى دارفور.
وقد وقّع اتفاق تقاسم السلطة القائدُ المؤيد للديمقراطية أحمد الربيع وحميدتي، الذي تعهّد بالالتزام بشروطه. بيد أن اللاجئين الدارفوريين متشكّكون جداً في التزام الجنرالات بالانتقال إلى حكم مدني. يقول أحمد: "لا أعتقد أن المجلس العسكري سيتخلّى عن سلطته أبداً. إنهم مسؤولون عن إبادة جماعية. وإن تركوا الحكومة فسينبغي عليهم مواجهة العدالة".
الحصانة من الملاحقة القضائية
ومن أكثر المسائل إثارة للجدل في اتفاق تقاسم السلطة إمكانية منح الجنرالات العسكريين حصانة من الملاحقة القضائية. إذ نصّ الاتفاقُ النهائي على أنه لا يمكن رفع حصانتهم من دون موافقة غالبية المجلس التشريعي. وبالنسبة لأحمد، يعني هذا أنه لا يمكن ضمان العدالة والمساءلة على الجرائم التي ارتُكِبت في دارفور أو ضد المحتجين.
ويقول اللاجئون، بما أن النظام القديم لا يزال راسخاً، فإن من الخطورة بالنسبة لهم العودة إلى السودان. يقول سليمان بالدو، وهو مستشارٌ أقدم لدى مشروع كفاية Enough Project: "لا يزال جهاز الأمن والمخابرات الوطني هناك، وتستمرُّ قوّات الدعم السريع بالتصرف فوق القانون، مستخدمة أسلحة فتّاكة، وتهين الناس".
ومع بقاء جهاز الأمن والاستخبارات الوطني على حاله، فقد يكون أي شخص طلب اللجوء في الخارج عرضةً للاعتقال التعسّفي عقب العودة. وفي كانون الأول/ديسمبر من عام 2015، قبضت السلطات الأردنية على مئات من اللاجئين السودانيين الذين شاركوا في الاحتجاجات ضد ما اعتبروه تمييزاً في تقديم المساعدة الإنسانية. وأُجبِر المئات على صعود الطائرات ورُحِّلوا إلى السودان، حيث زُعِم أن بعضهم اعتُقِل وعُذِّب حين وصوله إلى الخرطوم. بالنسبة لبالدو، فهذا خطر سيستمر اللاجئون العائدون إلى السودان بمواجهته. إذ يقول: "لم يتغير النظام. والذين اضطهدوهم ما زالوا يحملون العصا والسوط والبندقية ضد المدنيين في البلاد".
وبصرف النظر عن المخاوف المتعلقة بالسلامة، يقول العديدُ من لاجئي دارفور إنه لا يوجد لديهم ما يعودون إليه. يقول عبد (*)، وهو لاجئ دارفوري أمضى عدة سنوات في مخيم للنازحين داخلياً قبل أن يلتمس اللجوء في الأردن في عام 2010، "لقد فقدت منزلي، وفقدت ماشيتي، وأرضي، وكل ما أملك. لقد فقدت أقاربي أيضاً. من سيعيدهم؟".
مشكلة الإعادة
بالنسبة للاجئين، تتمثّل إحدى المسائل الأكثر إلحاحاً في استعادة الأراضي التي استولت عليها الميليشيات أو التي هَجَرُوها خلال النزاع ليحتلّها مستوطنون جدد. يتساءل إريك ريفز، وهو أستاذ في جامعة هارفرد، "لا أرى كيف يمكن إعادة مئات آلاف المَزارع التي أُخِذت بالعنف من قِبَل الميليشيات، وقوّات الدعم السريع، والجنجويد. كيف سيتم إعادة هذه المزارع إلى أصحابها الشرعيين؟". ويضيف: "الوضع في دارفور لن يتغير في أي وقت قريب. إنه مشروعُ ترميمٍ وإعادةٍ طويلٌ جداً".
في الوقت الحاضر، يقول اللاجئون الدارفوريون في الأردن إن عودتهم لا تزال تحمل مخاطر كبيرة. إذ أن المقاومةَ المدنيةَ قد أسقطت ديكتاتوراً، بيد أن عناصر من النظام القديم ما زالت في السلطة. كما أن بعضاً من الجنرالات الذين يقودون مجلس السيادة الآن كانوا متورّطين في الأعمال الوحشيّة التي أجبرت اللاجئين على الفرار من دارفور، وستستمر بالاستمتاع بالإفلات من العقاب.
يقول أحمد: "أحلمُ بالعودة إلى السودان، بيد أن معرفة أن النظام لا يزال هو نفسه يجعلني أفكر أن ذلك لن يكون ممكناً في المستقبل القريب".
مارتا فيدال
ترجمة: يسرى مرعي
حقوق النشر: موقع قنطرة 2019
(*) حُجِبَ اسم العائلة من أجل حماية الهوية.