العالم العربي: بين رشد الماضي وهذيان الحاض
العالم العربي: بين رشد الماضي وهذيان الحاضر
ينعقد شبه إجماع بين الباحثين والمهتمين بالثقافة، على أن الأمة العربية دخلت منذ سنوات مرحلة جفاف فكري وقحط ثقافي، لم تشهد نظيرا له عبر التاريخ؛ حتى في زمن النكبات والانكسارات أو ما دُرج على توصيفه في الأدبيات التاريخية ب"عصر الانحطاط".
تغزونا اليوم موجة تصحر حادة، لا لجهة التأليف والكتابة والإبداع؛ فالأمر متيَّسر بشكل منقطع النظير مع الثورة التكنولوجية، حد الشكوى من الإسهاب الذي تحوّل إلى التخمة. ولكن لجهة المشاريع المعرفية والأطاريح الفكرية، حول القضايا الراهنة والمداخل الممكنة لنهضة أمة، وانبثاق مشاريع لتحرير الشعوب قبل الدول.
يفتقر العالم العربي اليوم إلى مفكرين عضويين؛ بتعبير الإيطالي أنطونيو غرامشي، مهمومين بواقع شعوبهم وقضايا أوطانهم، قادرين على تصريف هذا الانشغال في مؤلفات وكتب، يطرحون فيها زبدة ما عنّ لهم من أفكار؛ في معرض تشخيصهم لداء العطب القديم، وبحثهم في أعطاب الذات العربية، ثم اجتراح الحلول أو على الأقل البلسم الممكن لعلاج.
لم تتوقف المحاولات الفكرية على امتداد العالم العربي والإسلامي؛ منذ اللحظة الأولى لاكتشاف التفوق الغربي، عقب المواجهات العسكرية المتوالية بين الفسطاطين في مواقع شتى؛ عن التناسل بحثا عن السبل الممكنة لمعانقة التغيير الذي ستسير الأمة على هديه؛ قصد اللحاق بركب الأمم السالكة، في مدارج المدنية والتقدم والازدهار الإنساني.
قُدمت أربع محاولات كبرى تتقاطع حول فكرة "الإصلاح"، وتتخذ من تجديد الخطاب الديني مدخلا لها. ارتبطت أولى المحاولات بالشيخ محمد عبده (1849-1905) ومدرسته في الإصلاح الديني، القائمة على ثنائية تحقيق السُنن في النهوض، وإصلاح شأن المؤسسات الدينية. فيما كانت الثانية مع تجربة محمد إقبال (1877-1938) في تجديد التفكير الديني في الإسلام، الذي تمزج رؤيته الإصلاحية بين الاعتراف بالجديد في الفكر والتنظيم، والاعتصام ببعض القديم. أما محاولة عبد الرزاق السنهوري (1895-1971) فقد تأثرت بخلفيته المعرفية، فدعى إلى وجوب التدخل للملاءمة بين المدني والشرعي في اشتراع القانون في الدولة الحديثة. جاءت محاولة المفكر الجزائري مالك بن نبي (1905-1973) أعمق قليلا، فأطروحته المتعلقة بنظرية في الحضارة، تنم عن نظرة جيوستراتيجية، يمكن الاستناد عليها للخروج بتحالفات كبرى من القابلية للاستعمار.
امتدت هذه المحاولات الإصلاحية الكبرى، زمنيا طيلة القرن العشرين، وجغرافيا على امتداد العالم الإسلامي، ثم ما لبثت أن تحولت إلى مدارس صار لكل واحدة منها تلامذة وأنصار، يدافعون -وبشراسة أحيانا- عن الأطروحة المرجعية لمدرستهم. ومنهم من عمد إلى مراجعة بعض الأدبيات، مقدما نفسه مجددا ومطورا لبعض أفكار المؤسس الأول للمدرسة. في محاولة من هؤلاء لتقديمها بمظهر المدرسة التجديدية القادرة على مواكبة الواقع والتكيف ومسايرة مستجداته.
ظهرت إلى جانب هذه المحاولات، التي ركزت في مقاربتها على المدخل الديني، مشاريع فكرية على طول العالم العربي والإسلامي، ارتبطت بأصحابها، ممن اختاروا مداخل أخرى بحسب الحقول المعرفية التي تخصصوا وراكموا فيها.
ففي المغرب مثلا مطارحات عدة، منها أطروحة المفكر محمد عابد الجابري عن «العقل العربي»؛ المفصّلة في أربعة مصنفات، يشرح فيها أسُس تحرير وتحرُر العقل العربي، من براثين تراث تلزمه الغربلة؛ قصد التأسيس لمشروع نهضوي عربي أصيل، يمَكّن العرب من مسايرة العصر. فيما يذهب شيخ المؤرخين العرب عبد الله العروي، إلى النقيض من ذلك تماما، في مشروعه حول مفاهيم الحداثة (الإيديولوجيا، الحرية، الدولة، التاريخ، العقل)، معلنا أطروحته عن «التاريخانية» التي ترمي إلى تحديث الفكر والمجتمع العربيين.
غير بعيد جغرافيا ومعرفيا، عمِل المفكر الجزائري الراحل محمد أركون على التأسيس لما أسماه ب «الإسلاميات التطبيقية»، من خلال محاولة تطبيق المنهجيات العلمية على النص الديني، وإخضاعه للنقد التاريخي المقارن، والتحليل الألسني التفكيكي، وللتأمل الفلسفي المتعلق بإنتاج المعنى والتفكير في اللامفكر فيه؛ من خلال الاهتمام بالجوانب التي تم إغفالها أو تغييبها.
من جهتها، جادت أرض النيل بأسماء ثقيلة في معادلة الفكر والثقافة الوطن العربي، سجلت حضورها بمشاريع فكرية وازنة في عربيا عالميا، منها مشروع الراحل نصر حامد أبو زيد؛ مفكر الاستنارة أو مؤسس التأويليات كما يُلقب. ومحاولة الراحل عبد الوهاب المسيري مفكر العرب العضوي النوعية حول "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة"، التي كانت أفكاره أرضية خصبة صالحت الكثير من قوى تيار الإسلام السياسي في العالم العربي بهذا المفهوم. كما اجترح المفكر الثائر حسن حنفي، صاحب فكرة اليسار الإسلامي، بدوره مشروعا استثنائيا حول "التراث والتجديد" بمقاربة ومداخل متنوعة.
ليس من المبالغة في شيء، القول بأن معظم البلدان العربية لا تخلوا من مفكرين وأعلام قدموا مطارحات من زوايا نظر مختلفة، بحثا عن مخارج للأزمة المزمنة التي دخل فيها العالم العربي والإسلامي، منذ سقوط الخلافة الإسلامية، وحتى قبلها عند توالي محطات اكتشاف وهن وعجز ونيّ الذات أما قوة وشكيمة الآخر/ الغرب.
فمن تونس الخضراء مع هشام جعيط، إلى أعماق افريقيا بالسودان حيث طرح الراحلين محمد أبو القاسم حاج حمد وحسن الترابي، وقبلها الشهيد محمد محمود طه وجهات نظر لنهضة المسلمين من سباتهم. ومن سوريا مع جودت سعيد وجورج طرابشي، مرورا بلبنان مع حسين مروة والمهدي عامل، وصولا إلى العراق مع علي الوردي وآخرين.
امتدت المشاريع الفكرية خارج نطاق العالم العربي، فظهرت أفكار هنا وهناك في أكثر من بلد إسلامي، من أبرزها أعمال الإيراني علي شريعتي، وزميله حسن حاج فرج الدباغ المعروف باسم عبد الكريم سروش، وقبلها الراحل علي عزت بيجوفيتش في البوسنة، ووحيد الدين خان في الهند...
أشعل هذا التنوع في المشاريع والأطاريح المتداولة في الساحة الفكرية العربية والإسلامية حرارة في النقاشات والمساجات التي خاضها المفكرين، طيلة النصف الثاني من القرن الماضي. وبلغ الأمر درجة تأليف الكتب والمصنفات في هذه المناقشات، وتبادل الردود فيما بينهم (الجابري/ طرابشي مثلا).
أين نحن من كل هذا السجال اليوم، لا مشاريع فكرية تقارب ما يجري في واقع العرب الراهن، من تشرذم وانقسام وطائفية، يأتي على ما بقي من الحلم بوطن عربي موحد؛ لا يكتمل بهيا إلا في الأحلام، أو على الأقل بناء أسس دولة وطنية عربية؛ أي دولة المواطنة. ولا جديد يستحق أن يقرأ في المئات من الكتب والمؤلفات، التي تظهر في خانة جديد المصنفات العربية سنويا. وإن حدث وظهر هذا الجديد النوعي، فمن يهتم بقراءته ومناقشته، ويجادل فيه تقريظا أو نقدا؟
يجد الإنسان في الوطن العربي نفسه مستغرقا في دوامة غير منتهية من التشاؤم، بسبب ما يعتري الواقع من تصحر فكري في الحاضر، تتراخى أثاره إلى المستقبل. لكن بارقة الأمل قد تراوده متى نظر إلى حصاد الجولة الأولى من الربيع العربي، فتربة المنطقة خصبة لاستنبات بذور الحرية الديمقراطية والكرامة والعدالة... ولدى شبابها الاستعداد والقابلية للبدل والعطاء من أجل بناء دول حرة ومستقلة. لا تنقص سوى عقول فذة، بمقدورها قراءة المشهد بخرائطه الممزقة على ضوء سنن الكون والتاريخ.