موسيقيون أتراك يجتاحون السوق
لافتات ملصقة ترشدك إلى الطريق: "احصل على أسطوانة باستورك الفردية الجديدة". جملةٌ تنتشر على نحو خاص في مناطق برلين التي يكثر فيها المهاجرون، حيث يتواجد الجمهور الرئيسي لـ"باستورك" على الأرجح.
في الاسم "باستورك" يزهو الهلال بدلاً من النقطتين على حرف الواو u بالكتابة التركية، و"باستورك" عبارة عن ثنائي ألماني من أصل تركي هما "فولكان ميلينديز" و"تامر اويغونسوزلو"، اللذان يسميان نمط موسيقاهما بالـ"بوب-راب الشرقي".
أسطوانتهم الأولى التي صدرت بعنوان "يانا يانا" أو بالعربية "جنبًا إلى جنب" تعطي انطباعًا أوليًا عن هذا النمط، حيث يغني تامر بالتركية بينما يغني "ميلينديز" مقاطع الراب باللغة الألمانية، لتبدو الموسيقى مثل مزيجٍ مكوَّنٍ من موسيقى البوب التركية وعناصر من موسيقى آر أند بي.
عشاق الثقافة التركية
جاءتهما فكرة العمل عندما كانا يقضيان الإجازة الصيفية الأخيرة في تركيا، حيث شرعا بتسجيل الأغاني الأولى على الشاطئ. وفي أحد مطاعم الوجبات التركية السريعة في منطقة نويكولن/برلين حيث يسكن كل من "ميلينديز" وصديقه تامر البالغ من العمر 23 عامًا، راح المغنيان يشرحان كيف تطورت الفكرة:
"الأفلام التي يجلس فيها الفنان على الشاطئ ويبدأ بكتابة نصوص أغانيه معروفة. فكرنا أنْ نفعل ذلك بدورنا، آملين من وراء ذلك إثارة إعجاب الفتيات. لكنّ الأمر اتخذ منحى آخر. إذ وقعنا من جديد في حب الثقافة التركية عندما جئنا إلى تركيا. كان هذا بمثابة صدمة إيجابية لنا."
يبدو الموسيقيان الشابان وهما يعتمران قبعات الهيب هوب ويرتديان معاطف ذات جوانب من الفرو وكأنهما قفزا للتو من إحدى الكليبات التي تُعرَض على شاشة تلفزيون إم تي في MTV.
وبالفعل كان "ميلينديز" قد حقق نجاحًا صغيرًا على الأقل على شاشتي فيفا VIVA وبرافو Bravo، فمن خلال أغنيته"Fuck you all" تمكن "ميلينديز" في العام الماضي من الوصول إلى الجدول الألماني للأغاني الرائجة، ولم يكن يغني إلا بالانجليزية في ذلك الحين.
أما التفاتة "ميلينديز" الآن إلى موسيقى البوب التركية، فيمكن النظر إليها بارتياح بوصفها نقطة انعطافٍ في المسار الفني لموسيقي عمره الآن خمسة وعشرون عامًا ولا يزال في بداية مسيرته المهنية.
ألمنة الغناء الشرقي
أما "مراد ارسين"، الذي يطلق على نفسه الاسم الفني "مُحَبَّتْ" (محبة بالعربية)، ويقطن في مدينة كولون الألمانية، فقد سار في طريق معاكس تمامًا، حيث أَلمَنَ نمط الغناء الشرقي المعروف في تركيا بالـ"أرابسك" بشكل حازم.
هذا الغناء ذو المسحة التزيينية الحزينة، الذي له وقعٌ غير مألوفٍ لدى المستمعين الألمان، نقله مراد ارسين إلى نوعٍ جديدٍ من غناء السول باللغة الألمانية.
فكما أظهر كل من "كسافيار نايدو" و"غلاس هاوس" من قَبلْ أنّ صنع الأغاني العاطفية المؤثرة باللغة الألمانية ممكنٌ تمامًا وبنفس الجمال الذي هو عليه باللغة الانكليزية، يظهر "مُحَبَّتْ" الآن أنه من الممكن ترجمة النموذج الشرقي للغناء إلى الألمانية بكل ارتياح.
أطلق "مُحَبَّتْ" على هذا التعايش بين غناء الأرابسك التركي وأسلوب موسيقى آر أند بي اسم "آر أند بيسك". وكانت أغانيه قد انتشرت في بادئ الأمر على صفحات الانترنت فقط، حيث حظيت بإعجاب مجموعة متنامية من المعجبين.
تمكن "مُحَبَّتْ" الآن من توقيع عقد لإنتاج أغانيه، كما يحظى الفنان الناشئ، الذي واءم بين نمط الغناء المعهود مع التعبير اللغوي الغريب، بالإعجاب حتى في تركيا.
إلغاء الحدود الموسيقية
تبددت الحدود الموسيقية بين تركيا وألمانيا مع بداية الألفية الجديدة. كما هي الحال مع مغني البوب التركي الشهير "تركان"، الذي ولد في ألمانيا فعليًا، لكنه بدأ نجاحه الفني في تركيا، هذا وقد عمت شهرته كل أنحاء المعمورة في السنوات التي تلت ذلك.
كما حازت مغنية البوب "سيرتاب ايرنر" على جائزة مسابقة الأغاني الأوروبية في العام 2003، وغنى المطرب التركي "مصطفى ساندال" في عملٍ ثنائي مع مغني الريجي الألماني "جنتلمان" في عام 2005. أمثلةٌ تظهر أنّ موسيقى البوب التركية قد صار لها جمهور في خارج تركيا أيضًا.
على الجانب الآخر وجد الموسيقيون الأتراك-الألمان موقعًا لهم في ألمانيا خلال السنوات الأخيرة. حيث تتسم أوساط موسيقى الراب لا سيما في برلين بحضور قوي لمغني الراب المنحدرين من أصول تركية.
اشتهر أناسٌ مثل "كول سافاش" و"ايكو فريش" في محيط الشركة البرلينية "رويال بونكر" للإنتاج الموسيقي، أو مثل الفتيان الخشنين من شركة إنتاج موسيقى الراب "اغرو برلين"، والمنافسة التي لا تقل خشونةً من قِبَلْ "شوك موزيك". كل هؤلاء اشتهروا من خلال نصوصٍ فظةٍ ذات أسلوب جنسي مهين غالبًا، كما أدخلوا نبرة صلفة إلى الأوساط الموسيقية الألمانية.
وبفضل نجاحهم أصبح من البديهي ظهور أسماء تركية في أوساط موسيقى الراب الألمانية إنْ لم نقل أنها أصبحت ماركات معروفة.
إيقاعات الهيب هوب تمتزج بالنصوص التركية
لم تكن الحال هكذا دائمًا. فعندما ابتدأ النجاح التجاري لموسيقى الهيب هوب الألمانية مع صعود فرقة "دي فانتاستيشن فير" في مطلع تسعينيات القرن الماضي، بقي كثيرٌ من موسيقيي الراب الأتراك الأصل في البداية خارج دائرة النجاح.
لكن بعضهم شرع حينئذ بالربط بين النصوص التركية مع إيقاعات الهيب هوب التي أعدوها بأنفسهم، كما ربطوا تلك النصوص أحيانًا بنماذج موسيقية شرقية كذلك.
كان هذا جديدًا للغاية في حينه، لذلك ما زالت فرق موسيقى الراب مثل "إسلاميك فورس" من برلين، و"دي جي محمود&مراد" من فرانكفورت أم ماين ولا سيما فرقة "كارتل" التي كانت تضم موسيقيين أتراك الأصل من كل أنحاء ألمانيا الاتحادية، تُعتَبَرُ بحق حتى اليوم الفرق التي أسست الهيب هوب باللغة التركية.
من جهة أخرى، انتقلت موجة البوب التركية الناشطة من تركيا إلى ألمانيا في مطلع التسعينيات. وكان يظهر آنذاك نجمٌ جديدٌ في كل ساعة تقريبًا في سماء موسيقى البوب على مضيق البوسفور مثل "تاركان" أو "جاليك" أو "أسكين نور ينغي".
أغانيهم التي كانت رائجة في حينه هزت في فصل الصيف مكبرات الصوت في صالات الديسكو في مواقع الاصطياف امتدادًا من شواطئ بحر ايجة وحتى شواطئ البحر الأبيض المتوسط، كما كانت آخر كليبات الفيديو تُعرَضُ على مدار الساعة على قنوات الموسيقى التي كانت قد تأسست حديثُا.
الفنانون يتجاوزون الحدود بأعمالهم
كان لسوق موسيقى البوب المزدهر في تركيا تأثير في جذب عددٍ كبيرٍ من الموسيقيين الأتراك الأصل في ألمانيا أيضًا. واستطاع مغنون مثل "رأفت الرومان" من فرانكفورت أم ماين الذي كان يَظهَرُ بقبعته مثل نجوم البوب الإيطاليين، أو المغنية "توغجا سان" من مدينة هايدلبرغ التي كانت تقدم عروضها مرتديةً زي نمر أرقط وتستخدم نغمًا موسيقيًا يشبه نغم موسيقى التكنو، أنْ يحققوا نجاحًا على مضيق البوسفور.
كل هؤلاء جلبوا من ألمانيا بصمات خاصة إلى أوساط موسيقى البوب التركية، وكان لهم النجاح لفترة من الزمن على الأقل. كما كان تأثير سوق موسيقى البوب الجاذب في تركيا من القوة بمكان، لدرجة أن بعض مغني الراب من ألمانيا حاولوا تحقيق نجاحهم هناك، رغم أنّ موسيقى الهيب هوب لم تكن قد لاقت هناك أي صدى يذكر حتى ذلك الحين.
خارج الحدود اللغوية
أما الآن فقد غدا لموسيقى الهيب هوب باللغة التركية مكانتها في تركيا أيضًا، ومغنو الراب المحليون مثل "جيزا" (جزاء) قد سبقوا الرواد القادمين من الشتات.
من جهة أخرى لم تعد العوائق اللغوية اليوم تقف حاجزًا، لا يمكن تجاوزه، أمام النجاح في ألمانيا في وجه الفنانين الناطقين باللغة التركية .
وهكذا نلاحظ ارتفاع عدد الفنانين الذين يسعون لإثبات أنفسهم في كلا السوقين، في تركيا وفي ألمانيا، بغض النظر عن لغة الغناء أكانت بالتركية مثل "باستورك" أو بالألمانية مثل "مُحَبَّتْ". ومع أنّ اللغة ليست دائمًا غير مهمة، لكنها لم تعد في هذه الأيام هي الحاسمة.
دانيل باكس
ترجمة يوسف حجازي
حقوق الطبع قنطرة 2007
دانييل باكس صحفي ألماني مختص بشؤون الموسيقى
قنطرة
عوالم الموسيقى
الموسيقى بوتقة يمتزج فيها الشرق والغرب والشمال والجنوب والحاضر والماضي. في الملف التالي نتناول تأثير السياسة والعولمة على الإبداع الموسيقي كما نقدم تجارب موسيقية من بلاد عربية وإفريقية وأوربية