اتهام الباحثين بالجاسوسية تقييد للبحث العلمي في مصر
قبل عام (من كتابة هذا التحليل)، في الخامس والعشرين من شهر كانون الثاني/يناير 2016 اختفى الباحث الإيطالي جوليو ريجيني في القاهرة، وفي الثالث من شهر شباط/فبراير 2016 تم العثور على جثَّته. وكشف تشريح الجثَّة عن أنَّ هذا الشاب البالغ من العمر ثمانية وعشرين عامًا قد تعرَّض للتعذيب عدة أيَّام.
وحتى اليوم لم يتم الكشف عن الخلفيات ولم يتم إلقاء القبض على الجناة، على الرغم من أنَّ هناك أدلة دامغة: إذ إنَّ جوليو ريجيني اختفى في الذكرى الخامسة لثورة 25 يناير 2011، التي يكون فيها وسط مدينة القاهرة خاضعًا لحراسة مشدَّدة. وبما أنَّ علامات التعذيب كانت تحمل بحسب معلومات ناشطين حقوقيين مصريين توقيع قوَّات الأمن المصرية، وبما أنَّ الشرطة قد حاولت إخفاء ظروف اختفائه وتحدَّثت في البداية حول حادث سيارة - فإنَّ كلَّ هذا يشير إلى أنَّ جوليو ريجيني سقط ضحية أجهزة الأمن المصرية.
قتل بموافقة أمنية
كان جوليو ريجيني قبل موته مُراقَبًا من قِبَل المخابرات المصرية، حيث بدت لهم أبحاثه مثيرة للشبهات - فقد كان الباحث الاجتماعي جوليو ريجيني يبحث في مجال حرِّيات النقابات المهنية في مصر، وهو موضوع بالغ الحساسية في دولة قمعية. ومع ذلك فإنَّ الاعتقاد بوجود أوامر من أعلى المستويات السياسية تقضي بقتله لا يبدو معقولاً كثيرًا.
وعلى الأرجح أنَّ جوليو ريجيني سقط ضحية المبالغة في عنف الشرطة اليومي في مصر. فقد سجَّلت منظمة حقوق الإنسان المستقلة "مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب" فقط للأشهر الخمسة الأولى من عام 2016 ثلاثمائة وتسعًا وأربعين حالة تعذيب، من بينها اثنتا عشرة حالة قاتلة على الأقل. وكذلك تشير منظمتا هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية مرارًا وتكرارًا إلى الاستخدام المنتظم للتعذيب في مخافر الشرطة المصرية، وتشتكيان من الزيادة الكبيرة في عدد عمليَّات الخطف على أيدي قوَّات الأمن المصرية. وحتى الحكومة الألمانية تعبِّر عن قلقها إزاء حالات التعذيب والاختفاء في مصر.
والمشكلة لا تكمن فقط في الاعتداءت الفردية غير الإنسانية، بل أيضًا في تعامل القيادة السياسية في القاهرة مع ذلك. فبدلًا من الكشف عن الانتهاكات وتقديم المسؤولين عنها إلى العدالة، ينفي النظام هذه الحوادث إلى حدّ بعيد أو يُفسِّرها بنظريات مؤامرة غامضة. على سبيل المثال في قضية جوليو ريجيني أشار الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى أنَّ هناك "أشخاصًا أشرارًا" كانوا يريدون تعكير صفو العلاقات الطيِّبة بين مصر وإيطاليا.
وبهذا يعمل النظام على تأجيج حالة البارانويا والخوف المنتشر بالفعل على نطاق واسع بين المواطنين المصريين، ويصرف نظرهم عن فشله هو بالذات. والنظام يرسل بذلك قبل كلِّ شيء رسالة واضحة: حتى وإن لم يكن عنف الشرطة مبنيًا على أوامر عليا، فلا أحد يمكنه أو يستطيع اليوم أن يشعر بالأمان في مصر. وهذا ينطبق على المعارضة الإسلامية وكذلك أيضًا على الأطراف الفاعلة في المجتمع المدني الناقد، بمن فيهم الصحفيون والباحثون الأكاديميون - وحتى الأشخاص الذين يحملون جوازات سفر أجنبية.
المعلومات الموثوقة باتت شبه منعدمة من مصر
وهكذا تصل الرسالة. فمنذ الانقلاب العسكري في عام 2013، أصبحت الأبحاث والدراسات العلمية في مصر تزداد صعوبة على نحو متزايد. وفي البداية كان ذلك يؤثِّر في المقام الأوَّل على الباحثين والأكاديميين المصريين. وبالنسبة لهم أصبحت منذ ذلك الحين القيود المفروضة على السفر والنشر جزءًا من الحياة اليومية، ويضاف إلى ذلك أنَّ إمكانيات تمويل الأبحاث المستقلة باتت مقيَّدة أكثر، وكذلك التمويل من خلال الشركاء الدوليين خاصةً.
وفي هذه الأثناء أصبح الباحثون والأكاديميون العالميون مجبرين على تقييد نشاطاتهم في مصر بشكل واضح. ومن المعروف أنَّ الأبحاث العلمية في مصر لم تكن سهلة قَطّ، وأنَّ الباحثين والأكاديميين كانوا دائمًا معرَّضين لخطر تشويه سمعتهم كجواسيس. ولكن منذ اغتيال جوليو ريجيني لم يعد الخبراء المختصون يسافرون إلى مصر بسبب وجود خطر يهدِّد حياتهم. وبهذا فإنَّ حالة الريبة والغموض، التي تكتنف مصير الإيطالي جوليو ريجيني المجهول، تؤدِّي إلى انخفاض عدد التحليلات التي تعتمد على الأبحاث الميدانية.
والصحفيون أيضًا لم يعد بإمكانهم تقريبًا نشر أية معلومات جادة. ووسائل الإعلام الرسمية والخاصة على حدّ سواء تسير إلى حدّ كبير على مسار النظام وتنشر دعايته السياسية. أمَّا العدد القليل من الصحفيين الناقدين فيتم إسكاتهم ويُحكم عليهم بالسجن بتهمة نشر معلومات كاذبة - مثلما يزعم النظام. ولذلك فقد أدانت لجنةُ حماية الصحفيين مصرَ بصفتها دولة من "أكبر سجَّاني" الصحفيين في العالم. وعلى لائحة حرِّية الصحافة التي نشرتها منظمة "مراسلون بلا حدود" تحتل مصر المرتبة رقم مائة وتسعة وخمسين من أصل مائة وثمانين دولة.
سياسة خارجية قائمة على الأوهام
وتساهم سلبية الحكومات الغربية في تعزيز تعامل نظام السيسي القمعي. صحيح أنَّ إيطاليا قد سحبت في قضية جوليو ريجيني سفيرها من القاهرة بسبب الضغط الداخلي الكبير، ولكن لم تكن لقتل ريجيني أية عواقب أخرى - مثلاً بالنسبة للعلاقات الاقتصادية المتميِّزة بين البلدين.
وفقط أدان البرلمان الأوروبي بشدة في قرار نقص المعلومات من جانب حكومة السيسي. وفي هذا القرار تم أيضًا انتقاد الدول الأعضاء في الاتِّحاد الأوروبي، التي تتمسَّك بتطبيع العلاقات مع مصر، على الرغم من الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان. وفي الواقع يتم حتى توسيع التعاون مع نظام السيسي: ففي حين يزداد عدد الباحثين الذين يتجنَّبون السفر إلى مصر، يسافر السياسيون الغربيون إلى هبة النيل بكلِّ سرور.
ومع ذلك يتعيَّن على الحكومات الغربية أن تهتم -ليس فقط نظرًا إلى حقوق الإنسان- بالكشف عن قضية جوليو ريجيني وبالحدّ من قمع الباحثين الأكاديميين والصحفيين في مصر.
السياسة الخارجية تعتمد على عدد كبير من المعلومات والتحليلات، التي تأتي من مصادر مختلفة: من السفارات وأجهزة الاستخبارات وكذلك من الباحثين ووسائل الإعلام. ونوعية هذه المعلومات وكذلك التحليلات يجب أن تستوفي معايير عالية - وخاصةً عندما يتعلـَّق الأمر بالقرار فيما إذا كان من الممكن التعاون مع الأنظمة القمعية وبكيفيته.
ومهما تكن تقاريرُ السفارات ومعلوماتُ أجهزة الاستخبارات قيمةً ودقيقةً، فإنَّها لا تستطيع أن تُقدِّم ما تستطيع تقديمَه الأبحاثُ العلمية والتغطية الإعلامية المستقلة. ولا يمكن الاستغناء عن الأبحاث العلمية خاصةً من أجل دراسة التغيُّرات الهيكلية في الاقتصاد والدولة والمجتمع، كما أنَّ التقييم الواقعي للوضع يعتبر بدونها من الناحية العملية أمرًا مستحيلاً.
والسياسة الخارجية الحسنة النية أو القائمة على الأوهام والخيال تُهدِّد في النهاية بعدم تحقيق أهدافها، كما أنَّها تصبُّ قبل كلِّ شيء في مصلحة الحكَّام السلطويين.
شتيفان رول / لارس بروزوس
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2017
لارس بروزوس باحث يعمل في معاهد من بينها المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية في برلين، وتركِّز أبحاثه على الأنظمة السلطوية. شتيفان رول باحث يعمل أيضًا في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية حول مصر. ويُقدِّم هذا المعهد استشارات وإرشادات للبرلمان الألماني الاتِّحادي والحكومة الألمانية الاتِّحادية في جميع شؤون السياسة الخارجية والأمنية.