جمال الغيطاني...الروائي الحاضر دوماً
***
أظننا كنا في نهايات العام 97 حين دخلت، أنا الطالبة الجامعية، إلى مكتب الكاتب الشهير باحثةً عن فرصة للعمل في الصحافة. قابلني بتهذيب محايد يكاد يخلو من المودة. قلت لنفسي: "مؤكد أنه يقابل العشرات ممن يظنون في أنفسهم مواهب غير موجودة، وأن هذا علمه التعامل بحذر."
سألني عن سبب رغبتي في العمل في "أخبار الأدب" تحديداً، وأجبته بأنني أدرس الصحافة وأكتب قصصاً قصيرة و"أخبار الأدب" هي الجريدة الأقرب لاهتماماتي. كان يطيل الصمت ويشرد كأنه في عالم منفصل، وفجأة لمح كتاباً بيدي، فسألني عن عنوانه. "ديوان طرفة بن العبد" رددت على سؤاله وخيل إليّ أنه بدأ ينظر لي نظرة مختلفة.
أخبرني أن فرص العمل أو حتى التدريب في الجريدة منعدمة. صمت لبرهة متفكراً، ثم طلب مني الاتصال به بعد أيام ووعد بقراءة قصصي التي أعطيتها له.
اعتبرت أن محاولتي للالتحاق بـ"أخبار الأدب" باءت بالفشل، ومع هذا هاتفته في الموعد الذي حدده بمنطق "لعل وعسى"، وإذ بي أُفاجَأ بأن الكاتب الشهير الذي تكلم معي بحياد يقارب الفتور، تحول إلى شخص آخر مرحب ومتحمس للمساعدة، ظننت أنه خلط بين مكالمتي وبين مكالمة أخرى ينتظرها، لكنه بادرني بأنه قرأ القصص ومعجب بها جداً، فعرفت أن هذا سر تغيره، واحترمت تقديره لقيمة الكتابة.
أخبرني أنه تحدث مع زوجته الكاتبة والصحفية ماجدة الجندي بشأني، وأنها انتقلت لتوها من مجلة "صباح الخير" إلى مجلة "الأهرام العربي"، وفي حاجة إلى محررين جدد للعمل معها في قسم الثقافة الذي ستتولى الإشراف عليه هناك.
أعطاني رقم هاتفها كي أتصل بها لتحديد موعد معها في مكتبها، وهو ما قمت به لتبدأ مرحلة قصيرة لكن بالغة الثراء تدربت فيها تحت إشرافها وتعلمت منها الكثير خلالها، كما تعرفت فيها على أصدقاء عديدين أهمهم بالنسبة لي الفنان جودة خليفة الذي توثقت صلتي به ليصبح أباً روحياً لي حتى وفاته.
نشر الأستاذ جمال الغيطاني سبع قصص قصيرة لي على صفحتين من صفحات الجريدة بعد أسابيع قليلة على لقائي الأول به، تلتها قصص أخرى على مدى الشهور التالية، وكنت أمر بـ"أخبار الأدب" من وقت لآخر بصحبة عم جودة خليفة حيث كان يتردد على الجريدة بشكل دوري لتسليم رسوماته ومقابلة أصدقائه من العاملين فيها وعلى رأسهم الغيطاني.
لن ألتحق بالعمل في "أخبار الأدب" إلّا بعد أكثر من سنة، وتحديداً في ديسمبر 98، قبلها مباشرة كنت أعمل كمعدة برامج في قناة النيل الثقافية، عمل لم أحبه ولم أتكيف معه، كان "عم جودة" يعرف هذا، واقترح علي أن أعمل في "الأهرام الدولي"، وقال إنه تحدث مع الكاتب سلامة أحمد سلامة عني، وليس عليّ سوى أن أثبت جدارتي في العمل.
كان من المفترض أن أقابل "عم جودة" أمام مبنى الأهرام، وحين رآني أخبرني أن جمال الغيطاني يبحث عن محررين جدد للعمل في "أخبار الأدب"، وأن مدام ماجدة قد رشحتني له استناداً إلى تجربتي القصيرة في العمل معها. بدلاً من الذهاب لمقابلة سلامة أحمد سلامة وجدت نفسي في طريقي لمبنى الأخبار المجاور لبدء العمل في "أخبار الأدب"! وحتى الآن لا أعرف الملابسات الحقيقية وراء تغيير الخطط ذاك، كل ما أعرفه أن مع عم جودة خليفة لم يكن ثمة مجال للتخطيط المسبق؛ كل شيء عفوي ووليد اللحظة، والارتجال سيد الموقف.
أوصلني عم جودة حتى المصعد في الطابق الأرضي وقال إنه سينتظرني في المقهى المجاور.. كنا يوم خميس، اتفقت مع الأستاذ جمال على أن أبدأ العمل يوم السبت، وغادرت بسرعة.
الأحداث التي تلت كانت أشبه بالدخول في دوامة من العمل والتعلم المستمرين.. كانت تلك (أواخر التسعينات ومطلع الألفية) المرحلة الذهبية للجريدة من وجهة نظري.. لم يكن عملاً بالمعنى المعتاد، بل ورشة عمل يتشارك فيها الجميع، كل محرر يقدم اقتراحات لزملائه، ويقرأ عليهم ما كتبه للنقاش حوله، الجميع تقريباً في مراحل عمرية متقاربة، والمقهى امتداد طبيعي للمكتب. كنا ضيوفاً، غير مرحب بنا، على صالة مخصصة لأقسام أخرى، لكنها الأقرب لمكتب رئيس تحريرنا.
وأظن أن جمال الغيطاني، كان سبباً رئيسياً للحفاظ على أجواء العمل على هذا النحو وقتها. قبل عملي في الجريدة، وأثناء احتكاكي العابر بمثقفي وسط البلد، حين كنت لا أزال طالبة في الجامعة، كنت أسمع عن جمال الغيطاني باعتباره ديكتاتوراً لا يقبل الرأي المخالف، بالعمل في الجريدة اكتشفت الهوّة الشاسعة بين ما يُقال وما يحدث في الواقع، فجمال الغيطاني، كرئيس تحرير، لم يكن ذلك الديكتاتور المنفرد برأيه، وكثيراً ما كان ينشر لنا ولغيرنا مقالات يختلف معها جملةً وتفصيلاً.
كان الاجتماع الأسبوعي كل خميس ساحة للنقاش والاختلاف بل وللشجار أحياناً، أشياء كثيرة كان تُحسم بالتصويت، تصويت لا فرق فيه بين محرر بدأ العمل لتوه في الجريدة وبين مؤسسيها.
أجازف بقول إن هذا الاجتماع الأسبوعي، أفادني أكثر من سنوات دراستي للصحافة، ومنحني ثقة أكبر في التعبير عن قناعاتي بلا حسابات، فليس من العابر بالنسبة لمن في بداية عمله بالصحافة أن يؤخذ برأيه، إن كان وجيهاً، في قرارات مهمة مقصورة في الجرائد الأخرى على من هم في مواقع القيادة.
حدث هذا مع جميع الزملاء تقريباً، كان من المعتاد أن يقدم الغيطاني أحدَنا لضيوفه باعتباره نائباً لرئيس التحرير غير عابئ بدهشة مَن أمامه من صغر سن "نائب رئيس التحرير" المفترض. اعتدنا، نحن المحررين، التندر على نيلنا جميعاً هذا اللقب الوظيفي في مناسبات مختلفة رغم أن بعضنا لم يكن مُعيناً حتى. وأتذكر أنه في السنوات الأخيرة من رئاسته للتحرير كان يتباهى بأنه يترك خلفه في الجريدة "ستة رؤساء تحرير على الأقل".
***
كان يلفت نظري، تأكيد الغيطاني على أنه نجح في الفصل التام بين الصحفي والروائي بداخله، ذكر مرة أنه من المستحيل أن يكتب مقالاً صحفياً بالقلم نفسه المخصص لكتابته الإبداعية، فالإبداع عنده له طقوسه الخاصة.
قد يكون هذا صحيحاً من الناحية النظرية، لكن في رأييّ أن ملامح تجربته الثرية تمازجت وأن الروائي ظل حاضراً على الدوام، منتقلاً بأسئلته المؤرقة، عن الزمن والوجود والمصير، من مجال لآخر.
وكانت مدينته، بصورها المخترعة والمعدلة، ماثلة باستمرار. كأنه يحملها معه أينما انتقل. في مكتبه ستلمح ملمحاً من القاهرة الفاطمية: لوحة للحسن والحسين بملابسهما الخضراء، قارورة من خان الخليلي، وأشياء أخرى متناثرة تدل على الرحم الأول لمخيلته.
أيضاً اهتماماته الروائية، وسمات عوالمه ألقت بظلالها على "أخبار الأدب" منذ بدايتها، عشقه للتراث بدا جلياً في صفحاتها، لغته الخاصة ذات العبق التراثي تسللت إليها.
ولعه بالعمارة وتخطيط المدن دفعه لاختيار التبويب الأول لـ"أخبار الأدب" على هيئة مدينة تحتوي على عطفة (العشاق) وساحة (الإبداع) وضواحي (الفضفضة) وحارة (اليهود) وعندما أضاف إلي هذا التبويب قسماً جديداً أراد له أن يكون قلب الجريدة/ المدينة، سمّاه "البستان".
أتذكر أنه مع التطوير المتتالي اختفت أقسام وتغيرت أسماء أقسام أخرى، اندثرت "عطفة العشاق" المخصصة لشعر الغزل العربي القديم بعد تصويت ديمقراطي بين محرري الجريدة، واختفت "حارة اليهود" (القسم المخصص للمواد المترجمة عن العبرية قبل أن يعود بعد سنوات في شكل آخر)، وتغير اسم القسم الخاص بالمواد الصحفية من "أخبار المحروسة" إلى "أحداث" بناءً على اقتراح من ياسر عبد الحافظ الذي تولى الإشراف عليه وقتها، وفي كل مرة لم يكن الغيطاني يعترض على ما نقوم به من "تخريب" غير متعمد لملامح مدينته الورقية، في أحيان كان يتهمنا ضاحكاً بـ"أعداء التراث"، وفي أحيان أخرى كان لا يعلق، فيبدو كأنما يقول لنفسه إن في مدن الخيال الإبداعية عزاءً له عن اختفاء أحياء عزيزة عليه من "مدينة" الصحافة.
***
دائماً ما خُيِّل لي أن الروائي بداخله، كان ديكتاتوراً يملي عليه كل تصرفاته وردود أفعاله، كأنه هو نفسه ومن يتعامل معهم، شخصيات فنية يسيرها الروائي الكامن فيه على مزاجه ووفق أهوائه.
مهما كانت درجة انغماسه الظاهري في ما يحدث حوله ستجد أن الجزء الأعمق منه منفصل، يراقب ويرصد ويسخر: نظرة ساخرة حاضرة أبداً لتكشف عن نفسها في الوقت المناسب مصحوبة بابتسامة ماكرة كأنما يتخيل كيف سيستعاد هذا المشهد الحياتي بشكل فني في ذاكرته.
أتذكر أنه حكى مرّة، عن جلساته مع رفاق الشباب الشيوعيين في غرفة أحدهم، يتبادلون السجائر الفرط، ويتناقشون بحدة حول آخر المستجدات في الصين أو بولندا أو تشيكوسلوفاكيا، محاولين الخروج ببيان يسجل موقفهم، بيان لن يصل طبعاً إلى الجهة الموجه لها، ولن يغير شيئاً ومع هذا يستهلكون وقتهم في الجدل حوله وقد يقاطع أحدهم الآخرين لفترة، اعتراضاً على نقطة وردت فيه.
كان يضحك وهو يصف الفارق بين واقعهم الفقير حينها وبين شعورهم الجارف بأهميتهم وقدرتهم على تغيير العالم. توقف كثيراً أمام ملامح الغرفة المتقشفة وتعاليهم على بساطة أحوالهم المادية، فبدا الأمر أقرب لكاريكاتير.
يروق لي تخيل أن هذه القدرة على التقاط المفارقات الساخرة في موقف كهذا، ليست وليدة المسافة الزمنية المتمثلة في عقود، بل أن جمال الغيطاني وهو جالس بين رفاقه منغمساً معهم في صياغة بيان حول "الموقف الصحيح" من هذا الحدث العالمي أو ذاك، كان محافظاً على مسافة تتيح له رؤية المفارقات الفنية الكامنة. مسافة تمسك بها دائماً.
الغموض، هو الصفة الأدق لوصفه من وجهة نظري؛ كان من المستحيل توقع ردود أفعاله أو فهم دوافعه، لن تعرف رأيه فيك بسهولة، ستتبينه على مهل ومن خلال كلامه عنك لآخرين، لكن حتى هذا لن يكون نهائياً، فثمة دوماً نسختان متناقضتان: نسخة أوقات الرضا، ونسخة أوقات الغضب.
ربما يكون سبب الالتباس، هو ما ذكرته عن الروائي الداخلي الحاضر على الدوام لهندسة الواقع على مقاس الفن الملتبس والمركب. من يريد الوضوح ومساحة آمنة من الأبيض والأسود، عليه البحث عن مكان آخر، لكنه سوف يخسر الكثير، فهنا أرض الظلال والابتكار والمسافات البينية، حيث يتحول الواقع إلى عمل فني مربك، نتأرجح فيه من حالة لأخرى بسرعة مدوخة بلا لحظة ملل.
***
"دول مبدعين وفنانين وبالتالي مجانين.. كل واحد فيهم هتلاقي جنانه شكل!" سمعته أكثر من مرة يصفنا على هذا النحو، كأنما يبرر للطرف الآخر "غرابة أطوارنا"، لا أدري هل كان فعلاً يتعامل معنا كمجموعة مجانين ذوي ردود أفعال غير متوقعة، أم أننا – على اختلافاتنا - مثلنا له شخصيات روائية محتملة؟
كان يردد أنه تحمل منا ما وصفه بـ"تصرفات مجانين"، ولا أدري إن كان مقتنعاً بهذا أم لا، ما أعرفه أننا، مع الوقت، تعلمنا أن نتأقلم مع تقلبات الفنان بداخله وميله للمبالغة والتهويل.
لم يكن الأمر سهلاً في ظل صعوبة توقع ردود فعله وفق نماذج محددة وواضحة، فقد يخطئ أحدنا خطأ فادحاً، ولا يلتفت هو للأمر من الأساس، في حين أنه قد يقيم الدنيا ولا يقعدها ضد الشخص نفسه بسبب خطأ بسيط وغير مقصود، لكن في الغالب كانت الأمور تعود لمجاريها بسرعة، وأحياناً كان الشخص المقصود لا يعرف بغضبة رئيس التحرير إلا من زملائه المحررين، فيدخل مجهزاً نفسه لمواجهة حامية، ويخرج مندهشاً ليسأل زملاءه لماذا أخبروه أن رئيس التحرير غاضب منه!
أتذكر مثلاً أنني سافرت إلى مدينة عربية ليومين دون إبلاغ الجريدة رسمياً بسفري. غادرت إلى المطار بعد انتهاء يوم عمل، وكان اليوم التالي إجازة رسمية، وعدت في اليوم الثالث مبكراً من المطار إلى الجريدة. عملياً لم أتغيب عن العمل، ولو ليوم، وبالتالي لم أرَ ضرورة لطلب إجازة. عرف الأستاذ جمال بسفري، ويبدو أن من أبلغه صور له الأمر بشكل مغاير للواقع. وصلت للعمل، لأفاجأ بزملائي يخبرونني أن رئيس التحرير غاضب جداً مني ويريدني أن أتوجه لمكتبه بمجرد وصولي.
تلك المرة كان غاضباً بحق واتهمني بمخالفة القانون، ولما رددت بأن أمس كان إجازة رسمية، أخبرني أن عدم علم المؤسسة بسفري يخلي طرفها من أي مسئولية تجاهي في حالة حدوث أي مكروه لي خلال السفر.
- "طيب، بعد كده مش هأسافر من غير إبلاغ المؤسسة." قلت له.
- تعرفي إنك عملتِ زي المرحوم محمود عوض!
جملة كهذه معناها أن الموضوع انتهى وأن ما حدث ذكَّره بحدوتة شائقة استولت على انتباهه. سألته كأنما أبعده أكثر عن موضوع الخلاف:
- سافر يوم هو كمان؟
- لأ.. اختفى من على وجه الأرض بدون أثر لمدة 6 أشهر ومحدش في المؤسسة كان عارف له مكان!
في حالات مماثلة، من العبث المحاججة بأن لا مقارنة واردة بين سفر ليوم واحد؛ هو في الأصل إجازة رسمية، وبين الاختفاء التام لستة أشهر! مبالغة خليقة بفنان ومحاولة إثنائه عنها بلا طائل، بل ضرب من الغباء، فالمشكلة لم تعد موجودة، اختفت فجأة وحلت محلها حكاية وطرفة عن صحفي من زمن سابق متمرد على قوانين المؤسسة، صحفي يحكي عنه الغيطاني بحماسة ممتزجة بالإعجاب.
***
كانت معرفتي بأعمال الغيطاني قد بدأتْ حين انتقلتُ من قريتي لدراسة الإعلام بجامعة القاهرة. في سنتي الجامعية الأولى، قرأتُ "رسالة البصائر في المصائر" التي حمستني لقراءة أعماله الأخرى تباعاً. في مكتبة عامة قريبة من الجامعة قرأت "أوراق شاب عاش منذ ألف عام"، "وقائع حارة الزعفراني"، "الزويل"، و"الزيني بركات" التي تركت بداخلي أثراً لا يُنسى، كانت من الروايات الباعثة على الغيرة والحسد. ما توقفت أمامه وقتها أن الغيطاني كتبها في بداياته، "كيف لرواية أولى أن تكون على هذا القدر من الإحكام والإدهاش؟ كيف لها أن تتعدى زمن كتابتها والمرحلة التي تتناولها بل وحتى كاتبها نفسه لتصير ذلك النص الآسر البادي لمن يقرؤه كأنما كتب نفسه بنفسه؟" هكذا كنت أسأل نفسي، أثناء قراءتي الأولى لها، والعجيب أنها الأسئلة ذاتها التي جالت بذهني وأنا أعيد قراءتها قبل سنوات قليلة حين صدرت في طبعة جديدة عن دار الشروق.
من وجهة نظري، "الزيني بركات" ليست رواية تاريخية عن زمن مضى، كما أنها ليست مجرد رواية عن السلطة، بل هي تفكيك إبداعي ذكي ورؤيوي للسلطة كمعنى وفكرة وممارسة.
قرأت كثيراً من أعماله التالية المشغولة بأسئلة فلسفية وصوفية عن الزمن والوجود والأبد والموت كحياة أخرى، وكنت أشعر كأن تجربته الإبداعية تصفو وتشف وتتعمق مع الزمن، غير أن انحيازاتي الفنية كانت لمراحله الأولى، بسبب أن ذائقتي ككاتبة وقارئة تنحاز إلى البنية والتركيب في الفن الروائي، لكنه انحياز لا يمنع من تقدير الكتابة المشغولة الرائقة بغض النظر عن التصنيف.
على مدى 13 عاماً من العمل مع جمال الغيطاني في "أخبار الأدب"، لم يسبق لي أن عبرت له عن رأييّ في أعماله الإبداعية، كما تحاشيت الكتابة عنه في حياته، والآن بعد رحيله أو عبوره إلى الضفة الأخرى أشعر أن الوقت لم يتأخر، لأن التجارب الإبداعية المهمة باقية، ومتاحة دائماً للتأويلات والتقييمات والنقاش. وبطريقة ما، أحدس أن الغيطاني موجود، يرى ويتابع، من موقعه الجديد. أليست حقيقة الأشياء، في النهاية، تكمن في كيفية رؤيتنا لها ودرجة إيماننا بها؟ وهو لطالما رأى الموت كمرحلة مكملة للحياة، كرحلة اكتشاف وإشراق صوفي يُرفع فيه الغطاء عن البصر والبصيرة.
منصورة عز الدين
حقوق النشر محفوظة للكاتبة منصورة عز الدين.