أنسي الحاج..المرأة في شعره "أرض الكلمات وفضاؤها"
"لن أكون بينكم
لأن ريشةً من عصفور في اللطيف الربيع
ستكلّل رأسي
وشجر البرد سيحويني
وامرأة باقية بعيداً ستبكيني
وبكاؤها كحياتي جميل"
قصيدة أنسي الحاج هي وداع شاعري، وتشكل بنزعتها الراديكالية بوضوح موقف الشاعر العربي المتغير. فمنذ الستينيات من القرن الماضي اِرتبط اِسم أنسي الحاج في العالم العربي بالحداثة وبقصيدة النثر.
"ولد محبوباً ومع هذا دائم الخوف"
ولد أنسي الحاج في بيروت عام 1937. ماتت والدته وهو في السابعة من عمره. تركت هذه الخسارة عنده جرح عميق، رافق حياته و مسيرته الشعرية كما قال: "من العزلة الانطوائية إلى الهرج بين قلة من رفاق الصيف في القرية فإلى العزلة الانطوائية. ولداً منخطفاً إلى هواجسه وأصواته الداخلية، مصاباً بقرف شديد من ظواهر هي عند آخرين مألوف عادي. ولد محبوباً ومع هذا دائم الخوف".
"مراكمة الخطأ على الخطأ"
كان يُحب الحياة في الليل يكتب ويقرأ. ينام في النهار هاربا من الضوضاء. "في حياتي خطأ. والمواصلة خطأ. ومراكمة الخطأ على الخطأ" . لقد بدأ بكتابة الشعر مبكراُ، لكنه نشر ديوانه الأول "لن" عام 1960، أول مجموعة قصائد نثر في اللغة العربية. وقد أثارت ضجة في الأوصات الثقافية. وكانت المقدمة التي كتبها الشاعر لديوانه حول قصيدة النثر مثار الإهتمام. ودارت حولها حرباً أدبية. أتهم بها أنسي الحاج بأنه يريد تخريب اللغة العربية، لأن لغته جديدة في الشعر العربي وحافلة بالتجديد. وكان من أكثر الشعراء راديكاليةً في اللغة العربية. لقد أقامت وأقعدت الدنيا هذه المجموعة وقطعت الوصال من جهة اللغة والمحتوى مع جميع المقدسات التي لها قيمة في الثقافة العربية.
تركيب شخصي نابع من التجربة الحياتية
إن نشر مثل هذه النصوص الشعرية الحرة، التي تتجاهل فيما يبدو التقاليد القديمة وتهتم شعرياً بشكل مباشرة بتجارب وحياة الفرد، سببت في الأدب العربي صدمة لا يكاد المرء يتصورها اليوم. وكان الشعر عند أنسي الحاج ينطلق من التركيب الشخصي النابع من التجربة الحياتية للإنسان. والتخلص من الأشياء التي تُعيق الجوهر من الظهور.
بدأت علاقة أنسي الحاج بالصحافة في جريدة "الحياة" عام 1956 ثم اِنتقل إلى "النهار" وتولى رئاسة تحريرها بين عامي 1992 و2003. وترجم عدداً كافياً من شعراء السوريالية مثل بروتون وأرتو. وفي الستينيات كانت له مساهمة في إطلاق الحركة المسرحية الطليعية في لبنان وترجم واقتبس لذلك العديد من المسرحيات لأونيسكو وآرابل وكامو وبرشت ودوريمات إلى العربية بلغة المسرح الحديثة والقريبة من الحياة.
في شعره: المرأة هي "أرض الكلمات وفضاؤها"
يُعتبر أنسي الحاج ربما السوريالي الوحيد في الشعر العربي الحديث. شعره هو قبل كل شيء تحديا. ويهتم بالتأمل الروحي المتكرر في الحب. في شعره، المرأة هي أرض الكلمات وفضاؤها".
شارك منذ البداية مع أدونيس ويوسف الخال وفؤاد رفقة في تأسيس مجلة «شعر» وفي إصدارها. وقد ساهمت هذه المجلة في اِكتشاف أماكن شعرية جديدة وتشجيع كل المواهب التجديدية. ولكن في الأخير لم تحصر المجلة موقفها بالشعر فقط، بل كان لها موقف واضح من الوجود، من الدين، من الإله، من الموت، من الزمنية.
أدونيس: "أنسي هو الأنقى بيننا"
كان لأنسي الحاج في مجلة شعر دور تجديدي ورائد. ومنها بدأت انطلاقته الشعرية ونشر قصائد ديوانه الأول فيها، قال مرة: "هذا هو فضل مجلة شعر عليّ وعلى جميع من عمل فيها، وهو أمر ينبغي الاعتراف به". وقد قال عنه صديقه الشاعر أدونيس: "أنسي هو الأنقى بيننا".
كان أنسي الحاج يعمل في الخطوط الخلفية، محبّاً للعزلة والانفراد. كان متواضعاً يُفضل العمل في الكواليس، لا يحب الظهور والمشاركة بالمهرجانات والندوات ولا حتى بالقراءات الشعرية، على عكس زملائه الآخرين في مجلة شعر.
كان يرى أن الأدب ليس له حدود
أعماله النثرية والشعرية منتشرة في أرجاء العالم العربي وله مريدون كثيرون يُقلِّدون أسلوبه. لقد طور أسلوب جمالي في الشعر العربي لم يكن من قبل معروفاً وبذلك استطاع استفزاز العديد من النقاد والكتاب. أعطى اللغة الشعرية تعابير وموتيفات وصوراً جديدة.
كان أنسي الحاج يرى أن الأدب ليس له حدود. فرفض كل القيود غير الضرورية والزائفة المضمرة في الكتابة العربية حتى ذلك الوقت، لينطلق نحو فضاءات أكبر وأوسع. وقد ساعده على ذلك معرفته للغة الفرنسية وترجماته عنها.
"الشاعر ليس مجرد بوق أو خادم"
كان الشعر لديه ليس شعر مناسبات، ليس شعر وصف وليس شعراً يُجسد عاطفة عابرة أو موقفاً سياسيا وآيدولوجياً معيناً. بالنسبة لأنسي الحاج الشعر تجربة كيانية إنسانية تتخطى المراحل الزمنية. وبحسب رأيه كل صدمة يُثيرها الشعر تنتج إنساناً جديداً.
الشيء الجديد عنده أن وظيفة الشاعر ليس أن يكون مجرد بوق أو مجرد خادم للتقاليد الثابتة، وإنما هو فرد حر له رؤية شمولية للوجود تُغير الأشياء ويمكن أن تُغير حياته نفسها.
أثناء الحرب الأهلية اللبنانية اِنكفأ أنسي الحاج على ذاته، وترك الساحة وارتأى الصمت. فكان يكتب الخواطر والمقالات وتوقف عن الشعر. واستمر في كتابة زاويته «كلمات...» التي استعار عنوانها من هاملت. ورأى أن وطنه لبنان لم يعد موجوداً سوى في الماضي.
كان معروفا أيضا من خلال مقالاته وأفكاره حول الحياة: خواطر عن الحب والموت والخوف والحلم والأمل، أو عن اليأس. في إحدى قصائده يقول:
"قولوا هذا موعدي وامنحوني الوقت
سوف يكون للجميع وقت، فاصبروا
اصبروا علي لأجمع نثري
زيارتكم عاجلة وسفري طويل
نظركم خاطف وورقي مبعثر
محبتكم صيف و حبي الأرض"...
سليمان توفيق
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2014