ياسين الحاج صالح. تقليد أم تراث ثوري؟ für die Seitenleiste
تقليد ثوري عربي؟
بقدر ما يعني التقليد قواعد قارة تنضبط بها دائرة من دوائر الفاعلية البشرية، فإنه في تناقض منطقي مع مفهوم الثورة. الثورة حدث، بل الحدث بأل التعريف، فلا يسير على نسق مقرر مسبقاً. وهو حدث مؤسِّس ومُغيِّر، غير معطى الذاتية سلفاً. أتوقف هنا عند المثال الشيوعي لتقليد ثوري صلب لأنه كان تراثاً شخصياً لي، لأنه كذلك أكبر تقليد للثورة في القرن العشرين، ثم لأن من شأن التفكير فيه أن يساعد في إلقاء ضوء على ثورات اليوم.
الحدث المؤسس للتقليد الشيوعي هو الثورة الروسية. وما تقوله حنه آرنت من أن الثورة الفرنسية صارت مثالاً عالمياً لأنها كانت موضع تفكر وكتابة وتشكل تراث حولها ينطبق على الثورة البلشفية التي تحولت بسرعة إلى سلطة، وكانت ذات إشعاع عالمي لنحو ثلاثة أجيال. ما يفرقها عن الثورة الفرنسية هو أن السلطة التي تمخضت عنها الثورة الروسية هي التي كتبت عن الثورة، فجعلتها حدثاً عالمياً ونزعت محليتها، وهو ما خفض من قيمة الثورة نفسها حين تداعت السلطة السوفييتية. الثورة الأميركية، بالمقابل، بقيت شيئاً محلياً، لم يكد يستلهمه أحد بحسب آرنت.
التقليد الشيوعي يفكر في الثورة كحرب طبقية لا تجري دون عنف، ودون قيادة منظمة في صورة حزب مسلح بالنظرية الماركسية (فلا حركة ثورة دون نظرية ثورية، بحسب لينين)، أو بالماركسية اللينينية التي تولدت عن الثورة البلشفية (ولم تلدها)، والتي تحمل ثوريتها معها دوماً وفي كل حال. الثورية وفق هذا التقليد ليست علاقة لفاعلين بأوضاع بعينها يعملون على تغييرها، بل هي خاصية ذاتية لنظرية محددة. لذلك يمكن القول إن التقليد الثوري الشيوعي تقليد صلب لأنه غير سياقي، شديد الاشتراط ومتمركز حول ذاته.
مشكلة هذا التقليد الصلب من وجهة نظر ما بعد شيوعية لا تقتصر على إشراط الثورة بشرط نظري (النظرية الثورية: الماركسية في تأويلها اللينيني) وآخر عملي (العنف، مفكراً فيه كإزالة عوائق أمام ما يحتمه التاريخ) وثالث تنظيمي (حزب الطبقة العاملة الشيوعي، الوحيد)، وإنما تتعدى ذلك إلى ما يبدو من أن التقليد الشيوعي يسلب الثورة ذاتيتها، ويجعل منها "عِلماً" يطابقه بنفسه، بحيث تكون الذاتية للحزب الشيوعي، حامل هذا العلم الثمين. وهذا التقليد-العلم جرى كشريعة بدءاً من لينين، المشرع الأكبر للتقليد الشيوعي. على هذا النحو يجنح التقليد الثوري إلى تصفية الحدث الذي هو الثورة وتأكيد نفسه هو (مثلما تصفي "الشريعة الإسلامية" التجربة الدينية). ترتد الثورة المسلوبة الذاتية إلى انقلاب، أو استيلاء على السلطة لتنفيذ برنامج مسبق. القضاء على السوفييتات التي تمثلت فيها ذاتية الثورة الروسية وإبداعيتها جرى لمصلحة البرنامج المسبق، دكتاتورية البروليتاريا، وعملياً حزب البروليتاريا (وعملياً لجنته المركزية، وعملياً الأمين العام، على ما رأى إسحق دويتشر في سنوات الحكم الستاليني). هذه الشريعة تتحول بقدر ما هي تترسخ وتتشكل في سلطة إلى التشكك حيال ثورات لا تشبهها، أو إلى تندير الثورة، مثلما يفعل كذلك مثلاً الفقهاء الإسلاميون، ثم إلى اعتبار الحكم الشيوعي "نهاية التاريخ". ترجم هذا واقعياً في سحق موسكو بالدبابات ثورات قامت في بلدان كانت تتحكم فيها أحزاب شيوعية تابعة لها، مثلما جرى في المجر عام 1956 وتشكيوسلوفاكيا عام 1968. أورثتنا الثورة المجرية مفهوم التانكيز، الدبّابيين، الشيوعيين المتحمسين لسحق ثورة ضمن المنظومة السوفييتة بالدبابات، وهو ما كان موقف الشيوعيين البريطانيين وقتها. اليوم، الدبابية تقليد معادٍ للثورات في بلدان أقرب إلى المدار الروسي، وذلك استناداً إلى علم ثورة سلفي، مخيلته السياسية مسكونة بأخيلة الحرب الباردة؛ تقليد يفكر في الثورات كـ"ريجيم تشينج" تحركه الامبريالية الكلية القدرة من وراء ستار. ولنا نحن السوريون مع ورثة هذا التقليد من الدبابيين الغربيين سيرة غير سعيدة. الدبابيون يجسدون انقلاب تقليد ثوري إلى تقليد مضاد للثورة، وهذا بقدر ما تتشكل الثورة في تقليد صلب، في مذهب وقواعد عمل بعينها لا تتغير، مستغنية عن الحاجة لمعرفة أي شيء مهم عن البلدان المعنية.
الثورات العربية هي ثورات ما بعد شيوعية، جاءت بعد فقد الثقة في التقليد الثوري الشيوعي، حتى في أوساط المنحدرين من هذا التراث، دون أن تندرج في تقليد ثوري غيره. وهي بعد ذلك حدثت في بلدان لا تستند إلى أمثلة إيجابية سابقة يمكن تقليدها، فليس لدينا والحق يقال تراكم ثوري حديث يذكر. ما في ذاكرتنا من نزعات تمردية يحيل إلى الصراع ضد الاستعمار، وإلى سجل من النضال ضد الاستبداد، لم يحقق اختراقاً فلم يشكل تقليداً. ومجمل ذلك يلقي ضوءاً كاشفاً على تعثر ثوراتنا، وفي الوقت نفسه يسبغ على الثورات صفة البدء والتجربة.
لكن هل يعني التحفظ على التقليد الشيوعي الصلب، أننا دخلنا الثورة بلا قواعد من أي نوع، بلا أفكار أولى، وأن الثورة حدث انفجاري فوضوي كلياً؟ يعتقد على نطاق واسع أن الثورات العربية ثورات عفوية بلا تنظيم ولا أفكار أولى، لكن هذا غير صحيح في إطلاقه إلا إذا كان المقصود بالتنظيم حزباً من الطراز اللينيني، وبالفكرة مذهباً مثل الماركسية اللينينية. أو ربما صورة أقل صلابة لكن من النوع نفسه، يبدو أن آصف بيات يصدر عنها في كتاب "ثورات بلا ثوار". بالتفاعل مع عمل بيات، أميز بين ثوار مسلحين بتقليد صلب، ثوار من أجل، يقلدون ثورات نجحت، لكن يحتمل لهذا أن يلغي ذاتية ثورتهم، وبين ثائرين لا يستندون إلى أمثلة ناجحة سابقة، ويعرفون أنفسهم بالثورة ضد، فلا يبقى لهم أثر إن هزمت الثورة. في سورية وجد لدينا ثائرون كثيرون وثوار أقل. أو لنقل إن مراتب الثوار السلبيين أو الثائرين كانت واسعة، خلافا لمراتب الثوار الإيجابيين.
أقول إن صحة الافتقار الكلية للتنظيم مقيدة وغير مطلقة. كانت هناك حركات احتجاج مهمشة ومقموعة حتى في بلد مثل سورية، وهي أسهمت في منازعة طبيعية النظام وأدخلت فكرة الحاجة إلى التغيير. لم تكن فكرة التغيير الديمقراطي مهيمنة شعبياً، لكنها كانت الفكرة الموجهة لقطاع نشط من أوائل الثائرين، هم الذي سحقوا قتلاً أو تغييباً أو نفياً. كانت الثورة السورية أشبه بتعميم لتجربة "ربيع دمشق"، إخراج لها من حيزات خاصة منضبطة إلى فضاءات عامة متمردة، وانتقالها من النخبة المسودة إلى "الشعب". جرى ذلك بالاستناد إلى النموذج الذي أنتجته الثورات العربية التي سبقت ثورة السوريين: الاجتماع السلمي لأكبر عدد من الناس المتكلمين في فضاءات عامة، وتحدي النظام بالشعب. لقد بدت الثورة السورية في بداياتها تلاقحاً بين تجارب احتجاجية أعقبت "ربيع دمشق" وبين منهج الاحتجاج الذي أبدعه الربيع العربي، وشكل ميدان التحرير في القاهرة مثاله الأيقوني. لكن في سورية أخذ يبدو أكثر وأكثر أن الأفكار السابقة للثورة والمنهج الاحتجاجي المستعار من البلدان الخمسة التي سبقت إلى الثورة قد تبخرت على حرارة الحرب المفروضة، فكأن كل شيء بدأ بحدث الثورة الذي أخذ يبدو بدءاً مطلقاً بلا قبل.
من بدوا أفضل تأهيلاً للبقاء في بيئة صراع متزايد العنف هم الإسلاميون، والسلفيون أكثر من غيرهم. التقليد السلفي الجهادي يبدو مثل ماركسية لينينية إسلامية، نظرية هي السلفية ومنهج ممارسة هو الجهاد وتنظيم ثوري هو المجموعات السلفية المجاهدة المنضوية تحت هذا النموذج، وهي أوسع من القاعدة وتفريعاتها. كتاب "إدارة التوحش" لأبو بكر ناجي يبدو تكثيفاً لهذا التقليد. الجماعة عبارة عن حربٍ يسوغها دين، ومتشكلة سلفاً في تقليد حديث صلب ورموز حية، تنحدر إلينا كبينة من بؤرة الحرب الأفغانية في ثمانينات القرن العشرين، وإن كانت بعض عناصرها المفردة أقدم عهداً. وهم مؤهلون أكثر من غيرهم، لأنهم حرب، للفوز في صراع من أجل البقاء في شروط حرب معممة. لكن هنا أيضاً تطرح صلابة هذا التقليد مشكلة أشد قسوة حتى من السنة البلشفية: ذاتية الحدث لاغية كلياً لمصلحة منهج "علمي" سابق عليها، منهج السلف، المُطعّم بتكنولوجيا قتالية تجمع بين السلاح الحديث وبين استخدام الجسد كسلاح، وبين القسوة الوحشية. كانت الثورة السورية مجرد بيئة انتشار بلا قوام ذاتي للبنية السلفية الجهادية التي تعيد نسخ نفسها حيثما استطاعت. (لا أعترض على من قد يقول إنه تجري هنا تضحية بالمحتوى المعياري المختلف جداً بين الماركسية اللينينية التي أنتجتها الثورة الروسية وبين السلفية الجهادية التي أنتجت على يد أجهزة مخابرات واختناق ديني في أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي. يجري الكلام هنا على بنيات تنظيم واعتقاد وعنف متشابهة، على "مناهج" و"تقاليد"، على إنتاج هويات صلبة محروسة بولاء وبراء خاصين).
في تناول سابق للثورة السورية بدا لي أن هناك تقليداً ثورياً عربياً تشكل في العقد المنقضي، وصدورنا عنه هو ما يشدنا إلى موجة الثورات الجديدة في لبنان والعراق والسودان والجزائر، فضلاً عن احتجاجات هونغ كونغ وفرنسا وغيرها. لكن لعل الأصح على ضوء هذه المناقشة الكلام على تراث ثوري نستأنس به، على تجارب يرجح أن نسترجعها لنتجنب أسوأ تعثراتها. أي على تقليد لين. ويبدو عموماً أن الثورات الناجحة تخلف بقدر نجاحها تراثاً ينزع إلى التشكل في تقليد صلب يجري تقليده والنسج على منواله، وأن الثورات المخفقة لا تخلف مثالاً يقتدى به، أو يقلد، بل تجارب وقصصاً وأمثلة تستحضر في النقاش وضروب من الحذر، ودروس ينتفع بها. تراث.
لكن رغم أن سورية مثالُ فشل، فإن لدينا سلفاً ما يتجاوز القصص والحكايات مما تحقق فعلاً ويبنى عليه. قبل كل شيء امتلاك الكلام، كسر واسع لاحتكار الكلام من قبل النظام وشركاه. ومنه ثورة في الذاتيات، ظهور أفراد بعدد كبير، متحررات ومتحررون، يقررن ويقررون مصائرهم. ومنه في تقديري انتهاك متسع ومعبر عنه لتابوهات تتصل بشؤون الدين والجنس والأدوار الاجتماعية، فضلاً عن تطبيع انتهاك تابو السلطة السياسية، وكان أقوى التابوهات ومصدر تغذية التابوهات الأخرى، ومنه تجربة المنفى ذاتها التي يمكن أن تكون منطلقاً لأفكار وحساسيات مغايرة. هذا يدعو للتدقيق فيما نعنيه بنجاح الثورات وفشلها. أو للتفكير في أن الثورة ثورات كثيرة، بعضها ينجح وبعضها يفشل. وظاهر أن ما فشل بخاصة هو التغير السياسي الذي كان من شأنه أن يغير البيئة السياسية والنفسية في البلد، ويطلق ديناميكيات اجتماعية وسياسية مختلفة.
بل إن في تعدد الثورة ما يدعو إلى التدقيق كذلك في نهاية الثورات. هناك ما انتهى في الثورة السورية قبل سنوات، ربما بعد نحو عامين من الثورة أو حتى أبكر، وهناك ما يستمر إلى اليوم. تُستأنف الثورة اليوم وفي الغد بقدر ما تتحقق ثورات أو نقلات مستمرة في مجالات فعل سوريين ثيرين. .
وبعد ذلك الثورات سيرورات تعلم، وهي سلفاً حلقات في العملية المكونة لتقليد ثوري لين، تراث. لدينا منذ الآن ذاكرة ثورية، ولدينا دروس وعبر، ستكون زاداً مهماً في مقبلات الأيام. "سواء فشلت أو تعرضت للخيانة، الثورات لا تمحي بسهولة من ذاكرة المقهورين"، يقول دانيال بنسعيد. The mole and the Locomotive, 2001