أصحاب السعادة السُعداء
الألقاب التي تسبق أسماء كبار المسؤولين في الكثير من الدول العربية تثير الاستغراب والدهشة. وهي جميعها كلمات مستلة من قاموس عثماني منقرض. لا أدري لماذا يصرّ المسؤولون على استخدام ألقاب مثل الفخامة والدولة والمعالي والى آخره… وما معنى أن يكون رئيس ما صاحب الدولة أو الفخامة؟
والغريب أن هذه الألقاب التي بدت وكأنها على وشك الانقراض تستعيد اليوم وهجها في أكثر من مكان في المشرق العربي، والغريب المستغرَب أنها اعتمدت في فلسطين حيث لا نزال في «دولة مراقبة» أي مؤجلة، بحسب «الانتصار» الديبلوماسي الذي تحقق في الأمم المتحدة!
ما معنى أن نفخّم الرؤساء ونعلي من شأن الوزراء ونعطي الدولة لرئيس الحكومة أو رئيس مجلس النواب، في زمن تتحول فيه الدول إلى ملاعب للفوضى والنهب وساحات للموت؟ والحقيقة أنني أسفت لغياب لقب صاحب العطوفة، الذي كان يُعطى في الماضي لرئيس مجلس النواب اللبناني، لأنه اللقب الحنون الوحيد، لكن يبدو أن مهندسي اتفاق الطائف ارتأوا تدويل (من دولة) رئاسة المجلس في سياق لعبة الكراسي الطائفية. كما أسفت لعدم استخدام اللقب العثماني «عزتلو» لأي من المواقع الرسمية. هل لأن العزة والكرامة لا تتناسب مع حقيقة المناصب ومن نُصّب عليها، أم لسبب آخر أجهله؟
غير أنني مُعجب بلقب صاحب السعادة، الذي يُعطى لأعضاء المجلس النيابي والسفراء والمحافظين وحاكم البنك المركزي، لأنه اللقب الوحيد الذي يعبّر عن شعور الحكام وهم يمتطون الكراسي ويقفزون منها ليركبوا على ظهور الناس. والغريب ألا يضيف الرؤساء والوزراء السعادة إلى ألقابهم، فنقول مثلا صاحب الدولة والسعادة، أو السعيد صاحب المعالي، أو سعادة صاحب الفخامة… فالسعادة تطفح من وجوه أفراد طبقاتنا الحكمة، وخصوصا في لبنان.
من الطبيعي أن يفرح من يعتلي منصبا رسميا، لأنه يصل إلى موقع يستطيع أن يحقق من خلاله رؤيته السياسية والاجتماعية ويخدم الناس. لكن من غير المنطقي أن يبقى هذا المعتلي سعيدا طوال الوقت، خصوصا في بلد كلبنان، تحاصره الكآبة والأزمات الاقتصادية والسياسية والمعيشية التي تتفاقم وتتكدس وتبدو كأنها مستعصية.
هل يشعر سعداء أصحاب الألقاب السعيدة بثقل المسؤولية التي تنغّص سعادتهم، أم أن سعادتهم آتية من شعور عميق بأن المنصب ليس سوى مناسبة لتكديس الثروة وإعلاء النفوذ والتبجّح والمنظرة؟
كيف تعيش الطبقة الحاكمة اللبنانية في السعادة الكاملة ولماذا؟
يستطيع المراقب أن يحلل التناقضات الكبيرة التي تعصف بمكونات الطبقة الحاكمة، ولعبة الكراسي الموسيقية التي تؤرّق بعض أفرادها، لكنه لا يستطيع ألّا يلاحظ الشعور العارم بالثقة بالنفس وبثبات المواقع الذي يتمتع به قادة الطوائف اللبنانية بعدما رست الأمور على تأويل اتفاق الطائف بصفته فيدرالية طائفية.
واللعبة التي تدور حاليا، وعنوانها قانون الانتخابات، تكشف جوهر هذا الشعور بالثبات الذي يعطي السعادة مدلولاتها.
هناك معركة حقيقية اسمها معركة الأحجام، لكنها معركة تدور في حلقة ضيقة، تعلّم أبطالها درسا بليغا من الحرب الأهلية وهو أن لا طائفة تستطيع محو أو عزل أي طائفة أخرى. وهو ربما الدرس الإيجابي الوحيد الذي خرج به لبنان من حربه الطويلة المدمرة. كما أن الطوائف تعلمت درسا آخر، وهو أن الخارج الذي تستقوي به على غيرها، ليس في خدمتها دائما، بل عليها أن تكون هي في خدمته. لذا تعقلنت بعض تصرفاتها، من دون أن يعني ذلك التخلي الكامل عن التبعية للخارج الإقليمي. (الاستثناء الوحيد هنا هو حزب الله، الذي يشكل ذراعا عسكريا للقوة الإقليمية الإيرانية، وهو حتى وان استخدم الخارج كي يستقوي به في الداخل، صار جزءا عضويا من اللعبة الإقليمية، وهذا يستحق قراءة خاصة).
سعادة الطبقة الحاكمة آتية من شعورها بالفراغ السياسي من حولها، وهذا ما عبرت عنه مناقشات الموازنة، التي لولا تململ المعلمين، وغضب أصحاب المصارف الذين تم إرضاؤهم سريعا، لمر توزيع المغانم والحصص، من دون مشكلات وهذا ما حصل أخيرا.
الطبقة الحاكمة التي ورثت «الإنجاز» الذي صنعه نظام الهيمنة المخابراتية السورية في لبنان، والذي تمثل في التدمير المنهجي للعمل النقابي، وتحطيم الحركة الوطنية وأحزابها العلمانية، وتدمير التعليم العام لمصلحة دكاكين الطوائف التعليمية، وتحويل البلد إلى مزرعة للنهب المكشوف الذي لا رادع له، تتنعم اليوم باقتصاد نيوليبرالي ريعي، يسمح لها بنهب ما تبقى من الثروة العامة، ويسيطر عليها شعور بأنها خارج معادلة المساءلة.
وحين خرج الناس عن صمتهم بسبب أزمة النفايات تصدى لهم قمع رسمي ومليشياوي لا يرحم. وعندما طمح البعض إلى بلدية حقيقية في بيروت، قام في وجههم تحالف الأضداد الطائفية الذي أسقط تجربة «بيروت مدينتي» في الانتخابات، رغم نجاحها في تهديد المعادلة السلطوية.
إنها سعادة الفراغ، أو الشعور بالفراغ. صحيح أن المعارك التي تدور داخل الطبقة الحاكمة من أجل توزيع النفوذ والمغانم، قد تكون شرسة وعنيفة، وتهدد بعض أفراد هذه الطبقة، لكنها لا تصل إلى تهديد نفوذ طبقة المتسلطين على الطوائف، كطبقة.
من هنا يأتي هذا الشعور بالسعادة الغامرة، فهذه سعادة من لا يحاسَب أبدا، سواء وضع حساباته وممتلكاته باسم زوجته أو أقربائه أو وزع اللوحات الزرقاء على سيارات الزعران من أزلامه.
إنه زمن اللغة التي تعوم على سَقْط الكلام وسقط السياسة. لكن أصحاب السعادة والمعالي والدولة والفخامة وهم يستسلمون لسعادتهم ويسعدون بها يفوتهم مسألتان:
الأولى هو أن أسماءهم لن تتكلل سوى بالعار، ولو بعد حين قد يطول أو لا يطول.
والثاني هو أن الفراغ الذي يشعرون به قد يكون مخادعا، وأن هناك بركانا قد ينفجـــر في أي لحظة. فيا أصحاب السعادة خففوا وطأة سعادتكم لأنها كريهة ومزعجة وبائسة ومؤقتة.