مخاوف على ذاكرة حضارة بلاد الرافدين المسروقة
لم يعد هناك مجال للتراجع، فبعدما دخلت قافلة السيارات السوداء الخاصة برئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي إلى الباحة الداخلية في مبنى المتحف. وحتى تلك اللحظة لم يكن من الواضح إذا كانت ستتم في الواقع إعادة افتتاح المتحف الوطني العراقي. وكان يبدو أنَّ الخلاف الذي استمرّ عدة أشهر بين وزارتي السياحة والثقافة العراقيتين قد انتهى - على الأقل ليوم واحد. وتم عزف الموسيقى، كما أنَّ النساء اللواتي كن يرتدين ملابس تقليدية جعلن الحضور يشعرون بشيء من الحياة الطبيعية. وفي الباحة الداخلية تم تقديم المشروبات والبسكويت. وقد تم إعداد هذا العرض تمامًا حسب رغبة رئيس الوزراء الذي كان يريد من خلال هذا الاحتفال إثبات أنَّ بغداد قد تقدَّمت خطوة أخرى نحو الأمام.
وهذا المتحف الذي تم بناؤه في العام 1966 من قبل مهندس معماري ألماني ظلت أبوابه مغلقة لأكثر من ستة أعوام. ولما بدأت بوادر الغزو الأميركي البريطاني للعراق بالظهور، تم اتِّخاذ بعض الإجراءات، حيث تم قبل بضعة أشهر من سقوط بغداد في التاسع من شهر نيسان/أبريل 2003 إغلاق المعارض وحفظ أهم الكنوز الأثرية في أسفل البنك المركزي - الأمر الذي لم يكن يعرفه أحد في البداية.
تراث ما بين النهرين وبابل في خطر
وعندما أقدم اللصوص على اقتحام هذا المبنى وقاموا قبل كلِّ شيء بتدمير المكاتب الإدارية، كان يدور الحديث أحيانًا عن سرقة خمس وسبعين ألف قطعة أثرية. وحتى إنَّ صحيفة "الغارديان" البريطانية قد تحدَّثت عن فقدان مائتين وسبعين ألف قطعة، في حين اكتفت بعض الصحف الأخرى بذكر مائة وسبعين ألف قطعة أثرية مفقودة. وهكذا كان المتحف الوطني العراق في بؤرة الاهتمام الدولي. وبالإضافة إلى ذلك كان علماء الآثار والمؤرخون يتحدَّثون في جميع أنحاء العالم عن وقوع كارثة لا يمكن إصلاحها.
وكان يبدو أنَّ تراث بلاد ما بين النهرين وبابل الحضاري قد ضاع إلى الأبد. ولكن لم يكن الأمر فيما بعد سيئًا إلى هذه الدرجة. فبعدما تم تجفيف أقبية البنك المركزي وسراديبه التي كانت تغمرها المياه، ظهرت مرة أخرى ومن بين العديد من القطع الأثرية الأخرى أيضًا كنوز الملك النمرود الشهيرة. وبعد ذلك أمر الحاكم المدني الأميركي السابق للعراق، بول بريمر، بفتح المتحف لبضع ساعات، وذلك من أجل مشاهدة هذه الكنوز بنفسه وعرضها على وسائل الإعلام وبعض الشخصيات؛ ولكن الجمهور لم يشاهدها.
وفي هذه الأثناء تمكَّنت مديرة المتحف الوطني العراقي، الدكتورة أميرة عيدان التي يبلغ عمرها ستة وأربعين عامًا من تحديد عدد القطع الأثرية التي تمت سرقتها بالفعل؛ وأعدَّت كتالوجًا متوفِّرًا لدى منظمة اليونسكو وغيرها من الهيئات والمؤسَّسات الدولية. وطبقًا لذلك يبلغ عدد القطع الأثرية التي تمت سرقتها من المتحف خمسة عشرة ألف قطعة أثرية، وقد تم حتى الآن إرجاع ستة آلاف قطعة أثرية منها. وفي قاعة في الطابق العلوي من المتحف يتم عرض ما أعيد إرجاعه من مسكوكات ومصابيح زيتية ومنحوتات وألواح طينة ولفائف مخطوطات وحتى صهاريج مياه ضخمة جدًا تعود إلى العصر البابلي.
وقد أُعيدت هذه المعروضات من سوريا والمملكة العربية السعودية والأردن، بالإضافة إلى إيطاليا والولايات المتَّحدة الأمريكية وكذلك من البيرو. ولكن استغرق هذا الأمر وقتًا طويلاً - مثلما تقول أميرة عيدان - حتى تم توجيه أوامر إلى مفتِّشي الحدود، تقضي بضرورة الانتباه لإدخال قطع أثرية عراقية بطرق غير مشروعة. ولكن على الرغم من ذلك فإنَّ السيدة عيدان ما تزال تتلقى وبشكل شبه يومي مكالمات تليفونية يعرضون فيها عليها استعادة قطع أثرية وشراءها مع أنَّها كانت في حوزة المتحف. وتقول هذه السيدة الحازمة مشتكية لموقع قنطرة: "مافيات سرقة التحف الفنية والآثار أقامت شبكة مترابطة".
كنوز النمرود ..
وأثناء التجوّل في هذا المتحف الذي تُعرض في صالاته العصور المختلفة على مدى ثمانية آلاف عام من التاريخ العراقي، يلاحظ المرء بسرعة أنَّ المعروضات المعروضة فيه الآن لا تشمل كلّ القطع الأثرية التي كان يمتلكها في السابق؛ حيث لا يوجد إلاَّ عدد قليل من الفترينات. كما أنَّ الكثير من المعروضات هي مجرَّد نسخ تقليدية وليست أصلية. ويلاحظ المرء في بعض الأحيان أنَّ المعروضات غير منسَّقة حسب الموضوعات وأنَّه لا تتوفّر كذلك معلومات توضيحية مفصَّلة.
ومن كنوز الملك النمرود الشهيرة لا توجد الآن سوى الصور المعلقة في المتحف. وفي العام 1989 اكتشف عالم الآثار العراقي، مزاحم محمود هذا الكنز في البقية الباقية من عاصمة الدولة الآشورية. وكان هذا الاكتشاف مدهشًا مثل اكتشاف قبر الفرعون توت عنخ آمون في مصر. وعثر مزاحم على ثلاثة مقبور مليئة بالذهب الذي لا يمكن وزنه بالأونصات، بل بالكيلوغرامات؛ قطع من الحلي ومن المجوهرات يبلغ عددها نحو ألف وأربعمائة قطعة وتوصف بأنَّها أجمل مجوهرات تم إنتاجها في الشرق الأوسط. وهذه القطع محفوظة الآن في خزانة فولاذية في بنك الدولة. ولا يمكن لزوَّار المتحف إلاَّ مشاهدة تماثيل الحكَّام الآشوريين الضخمة التي نجت بسلام من الحرب ومن أعمال السلب والنهب.
طريق أخرى إلى الحياة الطبيعية
والخلاف الذي وقع بين وزارتي السياحة والثقافة أدَّى إلى التوصّل إلى حلّ وسط جدير بالملاحظة. ففي حين كانت وزارة السياحة تطالب منذ فترة طويلة بإعادة افتتاح هذا المتحف الفاخر ذي المستوى الرفيع، كانت مسألة أمن المتحف تحتل مكان الصدارة لدى وزارة الثقافة. وقد ورد من وزارة الثقافة أنَّه من الأفضل الآن الانتظار، لعدم توفّر جهاز إنذار أو أي إجراءات أمنية أخرى يمكن أن تحمي المعروضات الثمينة من السرقة. وأضافت الوزارة أنَّ كاميرات المراقبة وحراسة المتحف غير كافية لحمايته، بالإضافة إلى أنَّ مثل هذا المبنى الحكومي ما يزال غير محمي من خطر القنابل.
وكذلك تقول مديرة المتحف، أميرة عيدان إنَّها كانت تفضِّل الانتظار حتى تتمكَّن من عرض المزيد من القطع الأثرية، وحتى يتم شراء التقنية المناسبة وتركيبها ويتم ترميم جميع المعروضات وتجهيزها. وتضيف وهي تشير إلى صناديق مكيِّفات الهواء الصامتة المثبتة على الجدار قائلة: "لا شيء يعمل ولا حتى مكيِّفات الهواء". ولكن في آخر المطاف تحتَّم عليها الرضوخ لرغبة رئيس الوزراء.
والآن صحيح أنَّه تمت إعادة فتح المتحف منذ عدة أسابيع، ولكن فقط لمجموعات الزوّار المسجَّلين. وما يزال هناك بعض الوقت إلى أن يتم تحديد مواعيد منتظمة لتدفّق الزوّار اليومي على المتحف؛ فالطريق ما يزال طويلاً حتى عودة الحياة إلى طبيعتها في بغداد.
برغيت سفينسون
ترجمة: رائد الباش
حقوق الطبع: قنطرة 2009
قنطرة
المتحف الوطني العراقي:
مهد الحضارات الإنسانية يتعرض للسرقة
سرقة الآثار العراقية خسارة فادحة ليس فقط لبلاد ما بين النهرين بل للإنسانية جمعاء، فسرقات الموناليزا العراقية والمخطوطات السومرية والآشورية وشرائع حامورابي لا تتمثل بقيمتها الأثرية فقط.
معرض عن بابل القديمة:
"بابل - أسطورة الجانب المخفي من الحضارة الإنسانية"
هل كانت في الواقع تلك المدينة الدولة في منطقة ما بين النهرين والتي تكثر حولها الأساطير عاصمة للفسق والمعاصي أم عاصمة للعلم والعلماء؟ تقيم هيئة المتاحف الحكومية في برلين معرضًا شاملاً عن أسطورة بابل وعن حقيقة بابل القديمة. أريانا ميرزا زارت هذا المعرض وكتبت التقرير التالي.
العراق
وزير الثقافة العراقي في برلين
كيف حال الثقافة في العراق بعد مرور عام على الإعلان "الرسمي" عن انتهاء الحرب؟ يعد العراق واحدا من أقدم بلدان العالم وأعرقها حضارة، لكن وبسبب أعمال العنف الجارية في العراق لا يسمع المرء سوى القليل جدا عن ثقافة وحضارة هذا البلد، والتي أصبحت ترزح تحت الدمار والحطام، حسبما يقول مفيد الجزائري وزير الثقافة في مجلس الحكم الانتقالي العراقي. حول زيارة وزير الثقافة العراقي إلى برلين كتب فيرنير بلوخ هذا التقرير.